أيّها القوميون الاجتماعيون، رجال الحركة القومية ونساؤهاأخاطبكم في هذا الأول من حزيران، لنحتفي وإياكم بالسنة الخامسة والثمانين للاجتماع المركزي الأول الذي عقده الحزب، في الأول من حزيران 1935، بعد ثلاث سنوات من العمل السري، وأعلن فيه سعادة قيام الدولة السورية القومية ممثلة بالحزب الذي أنشأ، هذا الحزب الذي لا يستمدّ قوته، كما جرت العادة عند الأحزاب الأخرى، من قوى محلية مذهبية أو إقطاعية، ولا يستند إلى نفوذ خارجي.

وقد اخترت هذا التاريخ لمخاطبتكم لأعلن لكم أن حالة حزبنا، اليوم، تشبه إلى حدّ كبير حالة الأمة قبل تأسيس الحزب، إذ لم يكن للسوريين قضية قومية بالمعنى الصحيح، وكل ما كان هنالك تململ من حالات غير طبيعية لا يمكن أن يأنسوا إليها أو يجدوا فيها سدّاً لحاجاتهم الحيوية. والحزب، اليوم، قد خسر أثمن قضية عرفتها هذه البلاد في العصر الحديث، وتحوّل إلى مجرّد «مزرعة» أشبه بالدول/ المزارع التي عرفتها بلادنا، ولا تزال، منذ عقود.
وإذ أنشأ سعادة الحزب لغرض سامٍ هو جعل الأمة السورية صاحبة السيادة على نفسها ووطنها، فإن دعوتنا إليكم، اليوم، غرضها استرداد الحزب من مختطفيه، أولئك الذين يشغلونه بالأجرة تارة، وبالسخرة تارة أخرى، مقابل ثلاثين من الفضة! إنّ خطابنا، اليوم، يحمل دعوة إلى «حرب استرداد» الأمة، بواسطتكم، لحزبها المخطوف. فالحزب السوري القومي الاجتماعي، لمن يجهل حقيقته من القوميين الاجتماعيين، وخصوصاً من الممسكين بخناقه، ليس حزباً سياسياً بالمعنى الاعتيادي للكلمة، أي حزب يتكتّل فيه أشخاص، كما يحصل اليوم، يعملون لبلوغ غاياتهم الشخصية، بل هو حزب يشكل قضية خطيرة هي قضية الآفاق للمجتمع الإنساني الذي نحن منه والذي نكوّن مجموعه. وقضية من هذا النوع تحتاج، لفهمها فهماً كاملاً، إلى درس طويل لا يبلغ كنهه قصيرو الفهم أو النظر ولا يطيقون سماعه!
لقد أرسى الحزب، في هذه البلاد وفي محيطها العربي وإقليمها المتوسطي، ثقافة جديدة، لا عهد لها بها من قبل، ثقافة خلقت تياراً فكرياً ومعرفياً وأخلاقياً ونضالياً واسعاً طبع السوريين كافة، الأصدقاء والخصوم، وتردّدت أصداؤه ولا تزال في مختلف المنابر القومية والعربية والإقليمية، ثقافة عرّفت الأمة بوصفها متّحداً اجتماعياً تامّاً (بصرف النظر عن الأصول الإثنية والدينية والقبلية التي يتكون منها هذا المتّحد) بعدما كان معناها مقتصراً على الملّة أوالإثنية أو رابطة الدم، وثقافة حدّدت الدولة بوصفها المظهر السياسي الحقوقي للأمة، لا لفئة اجتماعية محدّدة أو طائفة معيّنة أو طبقة: صاعدة كانت أم هابطة، وفصلت السياسي عن الديني، تاركة ما لقيصر لقيصر وما لله لله، موحّدة على أساس مدني قوانين الأحوال الشخصية، بما فيها قوانين الزواج والإرث والطلاق، وكذلك قوانين الانتخاب والأحزاب والجمعيات، فإنها كلّها يحكمها الشرع المدني، وثقافة أسّست لتنظيم الاقتصاد القومي على قاعدة الإنتاج الواسع وملكية الأمة للإنتاج ووسائله والعدل بين المنتجين في اقتسام الثروة، وثقافة دعت إلى نظام عالمي جديد يقوم على حق الشعوب، كل الشعوب، في تقرير مصائرها بنفسها، وبملء إرادتها، بصرف النظر عن درجة تقدّمها أو تخلّفها.
هذا ما أراد سعادة أن يقوله عندما صرّح في «خطابه التوجيهي الأول» بأنّ الحزب الذي أسّس لم يكتفِ بـ«النظرة الأولية» التي وقفت عندها الأحزاب السياسية الأخرى، النظرة القائلة بالحرية والاستقلال أو بتحسين بعض الأمور العارضة أو الوقتية. كلا، لم يكتفِ مؤسّس الحزب بهذه النظرة المستعجلة التي تطمح إلى تحقيق بعض الأغراض الشكلية الهيّنة التي عادة ما تمنحها القوى الاستعمارية المتحكّمة بمصير الأمة والوطن، إلى الأحزاب العاملة في كنفها. ففضلاً عن تعيين الأمة وتحديد القومية وإيجاد عقيدة وحدة الأمة، نظر سعادة في مستقبل الأمة وما يجب أن تصل إليه من الارتقاء والبحبوحة والعدل الاجتماعي ــــ الاقتصادي، ودعا إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره، من الجهة الثانية، بالمبدأ المادي وحده، والإقلاع عن اعتبار العالم، بالضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معه (معنا) بحاجة العالم المعاصر إلى فلسفة جديدة جامعة تنقذه من ويلاته، هي الفلسفة المدرحية التي تقول بأن الارتقاء الإنساني يقوم على أساس مادي ــــ روحي (مدرحي).
ولهذا، اعتزّ سعادة بإنجازه العظيم الذي يُعادل برأيه ــــ إن لم يتفوّق ــــ الإنجازات الفلسفية والاقتصادية الكبرى التي حققتها أوروبا والعالم المتحضّر في القرنين الماضيين، ودعا أنصاره إلى أن يشاركوه هذا الاعتزاز بهذا الإنتاج، مطمئناً إياهم إلى أنهم «يجاهدون، ولهم عقيدة كلية، تشمل جميع مناحي الحياة الاجتماعية، وأنهم يحاربون واثقين من أنهم يشيّدون تمدّناً جديداً أفضل من التمدّن القديم الذي وضع قواعده أجدادُهم الأولون. فهم من الناحية الفلسفية الأساسية في طليعة الأمم التي تسعى لإيجاد عالم أفضل من الموجود، وأنهم يشعرون بأنهم يقدرون أن يفيدوا الشعوب الأخرى، في جميع القارات على السواء، بتفكيرهم الجديد».
لقد أرسى الحزب في هذه البلاد وفي محيطها العربي وإقليمها المتوسطي ثقافة جديدة خلقت تياراً فكرياً ونضالياً واسعاً


هذا هو الحزب لنا، وهذا هو الحزب الذي يجب أن يعرف أعضاؤه ومؤيّدوه (وكذلك حلفاؤه وخصومه) أنه إذا سبقتنا أمم كثيرة أشواطاً في التفكير الاجتماعي ــــ الاقتصادي، في ما مضى من عهود، فإننا مع تأسيس هذا الحزب ــــ حزبنا ــــ أصبحنا في عداد الأمم الثقافية المتمدّنة على هذا الصعيد، إن لم نكن في مقدّمتها. فنحن لا نفتقر إلى قواعد اجتماعية ــــ اقتصادية نقتبسها من الخارج، بل نحن نقدر على أن نساعد غيرنا ونعطي من تفكيرنا الجديد. وهذا الحزب الذي نعتزّ بانتمائنا إليه، لم يتأثّر بأفكار أو أنظمة أو أحزاب أجنبية ويقتبس منها ــــ كما ادّعى خصومه ــــ وكما فعلت أحزاب كثيرة في بلادنا وفي العالم أجمع، فقد علّمتنا التجارب أن اقتباس الأفكار والأنظمة، من الخارج، لا يُفيد شيئاً البتة، لذلك أصرّ المؤسس على أن ينشأ الحزب بتفكير الإبداع السوري المستقل، وأن يقوم نظامه على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا، الأمر الذي لم يتوفّر لبقية الأحزاب السورية الأخرى، كالشيوعي والإخواني والبعثي والناصري والقومي العربي، وكذلك الحزبيات الطائفية والإقطاعية والعائلية التي نشأت في كنف الاحتلال الأجنبي لسوريا، أو بإيعاز من الاحتلال، في مرحلة ما بين الحربين العالميتين، وينسحب الأمر نفسه على الأحزاب الناشئة حديثاً في البلاد والتي هي في معظمها: إما دينية المنشأ والاتجاه وتحنّ إلى عصر الدولة الدينية، وإما عنصرية «أقلوية» تطالب تارة بالانفصال عن الوطن السوري وتارة أخرى بـ«الفدرلة» في إطار الجغرافيا السورية الموحّدة.
إن ما أسميته بـ«حرب الاسترداد» تعني استرداد أصحاب الحقوق ــــ أي القوميين الاجتماعيين ــــ لحقوقهم المسلوبة أو المغتصبة (أي الحزب) كما استردّ الإسبان بلادهم من العرب، في أواخر القرن الخامس عشر، ونقترح لاسترداد الحزب الصيغة التالية، في صورة قانون انتقالي عدد 8 مؤقت، آخذين في الاعتبار أنّ المراسيم التي أصدرها الزعيم بلغت العدد 7، ومستندين إلى رسالة كان قد أرسلها هنري حاماتي إلى نبيل العلم عام 1987:
مقدمة: نظراً للظروف الخطيرة الراهنة، ومن أجل تحقيق وحدة الحزب، وصيانة دستوره الأساسي والمحافظة على عقيدته، ولتمكينه من اجتياز محنته، والقيام بدوره كاملاً في خدمة القضية السورية المقدّسة:
مادة أولى: تنشأ في الحزب قيادة مؤقتة مفوّضة كل السلطات، تقود الحزب بموجب هذا القانون المؤقت.
مادة ثانية: تُدعى هذه القيادة «القيادة المركزية للحزب السوري القومي الاجتماعي».
مادة ثالثة: يسمّى فلان (وفلان، وفلان، وفلان...إلخ) أعضاء القيادة المركزية المؤقتة.
مادة رابعة: مدّة ولاية القيادة المركزية المؤقتة سنة واحدة تبدأ فور نشر هذا القانون المؤقت.
مادة خامسة: تصدر القيادة المركزية المؤقتة القوانين التي تحتاج لها لإدارة الحزب وقيادته بمراسيم ذات صبغة مؤقتة.
مادة سادسة: تتّخذ القيادة المركزية المؤقتة قراراتها بالأكثرية.
مادة سابعة: تُلغى كلّ التشريعات الصادرة عن المجلس (المجالس) الأعلى منذ 8 تموز 1949.
مادة ثامنة: تُلغى كل الأمانات.
مادة تاسعة: تمنح القيادة المركزية المؤقتة بموجب القانون عدد 7 الأمانة لمن يستحقها.
مادة عاشرة: عند انتهاء ولايتها تدعو القيادة المركزية المؤقتة الأمناء لانتخاب مجلس جديد من الأمناء بوصفهم مصدر السلطات.
مادة حادية عشرة: خلال خمسة عشر يوماً من انتخاب أعضاء المجلس الأعلى، يجتمع المجلس الأعلى لانتخاب أحد الأمناء رئيساً للحزب.
مادة ثانية عشرة: يثبّت المجلس الأعلى المنتخب سابقة انتخابه وانتخاب رئيس الحزب بقانون دستوري دائم يحمل العدد 8.
مادة ثالثة عشرة: تنشئ القيادة المركزية المؤقتة محكمة عليا بمرسوم يحمل العدد 9 مؤقت للنظر في دستورية القوانين.
مادة رابعة عشرة: يثبّت المجلس الأعلى المنتخب المحكمة العليا بقانون دستوري دائم يحمل العدد 9.
مادة خامسة عشرة: تُقبل استقالة رئيس الحزب الحالي، (كل الرؤساء...).
مادة سادسة عشرة: يحل المجلس الأعلى الحالي نفسه.
ما إن تتحقّق الوحدة وتسترجع المؤسسات الحزبية الواحدة الموحّدة دورها التوجيهي حتى يخضع القوميون الاجتماعيون لها طوعاً، بوصفها الضامن الوحيد لحقوقهم وواجباتهم كأعضاء منتمين لها، بالفكر والروح، عاملين لتحقيق قضية كبرى أقسموا على أنها تساوي وجودهم. ولذلك، يمارسون عضويتهم، حقوقاً وواجبات، بحرية كاملة من دون ضغط أو إكراه من متنفّذ أو متنمّر أو مدّعي سلطة غاشمة آلت إليه بالصدفة أو منحته إياها قوى «الأمر الواقع» في السنين العجاف. عندها، لا يعود قومي اجتماعي واحد يلجأ، لسبب ما، إلّا إلى مؤسسته الحزبية العادلة، وعندها لا يعود مسموحاً لأيّ قومي اجتماعي أن يخرج على مؤسسته أو يتمرّد عليها أو يتعصّب ضدها، فهي ضمانته وحاميته ومرجعه ومآله الأخير.
ربَّ سائل يسأل بعد هذا العرض المسهب: أين هذا الحزب الذي تحدثوننا، بهذه الثقة الكبيرة، عن دوره وحضوره وفاعليته، وتعتبرونه معقد آمالكم ومحط رهانكم؟ ثم ألم يستنفد القوميون الاجتماعيون، أبناؤه، كما استنفد غيرهم، الوقت اللازم لانتصار حركتهم وقضيتهم؟
الجواب: نعم ولا!
نعم، لأن الفترة الزمنية التي مضت على تأسيس الحركة القومية الاجتماعية كانت كافية لأن تبلغ غايتها وتحقق أهدافها، مقارنة بالفترة الزمنية التي احتاجت لها الحركة الصهيونية لاستيطان فلسطين وإعلان دولتها اليهودية الغازية.
ولا، لأن الفرصة لا تزال سانحة، اليوم، ولكنها قد تكون الأخيرة؛ فإذا تركها القوميون الاجتماعيون تفلت من أيديهم، هذه المرة، فسيتحوّلون، في عيون مواطنيهم، إلى سُبّة كبيرة، لإساءتهم التصرّف بأثمن قضية قومية عرفتها هذه البلاد؛ وسيتحوّل سعادة عندها إلى مفكّر يدرّس كعالم في الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي، مع أنه لو أراد أن يكون كذلك لأدهش العالم باجتهاداته ونظرياته في حقل الدراسات العلمية والفلسفية والاجتماعية، ولما تكلّف كل هذا العناء وكل هذا الجهد وكل هذه التضحية في سبيل تأسيس الحركة القومية الاجتماعية.
إنّ فرصتهم تكمن في حقيقة أنّ السوريين، على اختلاف مسمّياتهم الطائفية والمذهبية والإتنية والعشائرية، يجدون في القومية الاجتماعية، اليوم أكثر من أي يوم مضى، حلّاً لمشكلاتهم المزمنة: مشكلة الهوية ومشكلة التجزئة ومشكلة الاستيطان الأجنبي ومشكلة السيادة القومية ومشكلة التخلّف الاقتصادي الاجتماعي، ويجدون في القوميين الاجتماعيين ملاذاً آمناً لهم وضمانة أكيدة لمستقبلهم ومصيرهم، لأنهم اختبروهم في الفترات الصعبة ووجدوا في نظامهم الجديد نواة المجتمع القومي الناهض على قاعدة وحدة الحياة ووحدة المصالح ووحدة المصير، نظام يوحّد بينهم دونما تمييز بين لبنانييهم وشامييهم وعراقييهم وفلسطينييهم، أو بين محمدييهم ومسيحييهم وموحدينهم، أو بين أكرادهم وسريانييهم وآرامييهم وكنعانييهم وعربهم، نظام يعتبر أن هذه الأصول الكريمة، على اختلاف مسمياتها العرقية وانتماءاتها الاجتماعية، قد اندمجت وتفاعلت في ما بينها وتكاملت، عبر تاريخ طويل، مشكّلة من هذا الاندماج الفذّ وهذا التفاعل الخلّاق وهذا التكامل الرائع شعباً واحداً هو الشعب السوري الحيّ، على امتداد الرقعة الجغرافية في الهلال السوري الخصيب.
أيها القوميون الاجتماعيون: استعدوا، تبلّغوا وبلّغوا: لقد دقّت حرب الاسترداد!

*أستاذ جامعي