سُفِكت كميّة هائلة من الحبر والورق على مئات الكتُب والمقالات عن فلاديمير ألييتش أوليانوف الشهير بلينين (1870 ــــــــــــ 1924)، قائد البلاشفة الروس، وزعيم الثورة ــــــــــــــ المفصل في التاريخ الحديث. لكنّ الأغلب الأعم ممّا كتب كان موبوءاً بالأهواء السياسيّة لأصحابه، ولا سيّما أتباع المهرطقين التروتسكيين، والشيوعيين المدرسيين في روسيا الستالينيّة، وحتى ضباط الاستخبارات البريطانيّة والغربيّة، الجذريّة العداء للتجربة الثوريّة اللينينيّة، حتى يكاد يستحيل تقريباً على أبناء جيلنا أن يكوّنوا صورة واضحة عن المسيرة الحقيقيّة لهذا القائد الفذّ، ودوره التاريخي في أوّل تجربة لنقل الفكر الماركسي إلى حيّز الممارسة على الأرض: من الثورة إلى دولة العمّال. ولم يضف معظم معاصرينا من مثقفي البرجوازيّة الغربيّة، الذين كتبوا عنه لمناسبة مئويّة ثورة الـ1917 الكثير هنا، لا طارق علي، ولا سلافوي جيجيك ولا غيرهما، إذ إن اللينينيّة كمنهج سياسي جليّ لم تعد عملة رائجة هذه الأيّام، ليس فقط في إعلام الرأسماليّة ودوائر المثقفين البرجوازيين، بل حتى في التيّار الغالب على يسار هذه الأيّام الذي لم يعد فيه من اليسار إلا اسمه، وقشرة حمراء بُليت. ولذلك، أزعم أنّ هنالك نوعاً من تواطؤ آثم غير معلن، لتمويه الطرح بشأن الفكر اللينيني وصاحبه. الاستثناء البارز لكل ذلك، يبقى كتاب جورج لوكاش (لينين: دراسة في وحدة فكره ــــــــ 1924) الذي أصدره عشيّة وفاة لينين، وكتاب لارس لييه (إعادة اكتشاف لينين ـــــــ 2005). الأوّل، تكثيف بديع لفكر الرجل الجدلي (من الجدل الديالكتيكي) الذي عدّه لوكاش «المنظّر الوحيد المعادل لماركس»، فيما يفكك الثاني ــــــ رغم بعض الفذلكات الفاسدة ـــــــ الأساطير المؤسّسة عن لينين، التي خطّها الأكاديميّون الغربيّون أيتام مرحلة الغرب الباردة، كما (الماركسيويين) المتكسبون من التنظير المقعّر، سواء في موسكو أم خارجها، والتي تنحو إما إلى شيطنة الرجل أو تطويبه قديساً. بالتأكيد، فإنّ لينين رجل استثنائي وإنسان رفيع بكل مقياس، لكنّ الأهم من تكريمه الشخصي اليوم، بعد مئة عام على غيابه، هو استعادة منظومته في الفكر السياسي، وتجربته في ما بين ما ترك من نصوص (الأعمال الكاملة جمعت في 54 مجلداً) وممارسة ثوريّة في الحزب والدولة والأممية الشيوعيّة قبل الثورة الروسية وأثناءها وبعدها، والاستعانة بها في ترميم التيه الفكري الذي انتهى اليسار إليه، وبلاهته الظاهرة أمام عالم يصرخ أن حان وقت الثورة.
يمكن القول بأنّ الممارسة اللينينية قامت على أساس أقانيم خمسة أساسيّة: أولها: التزام لا يتزعزع بثورة عماليّة (بأبعد من التعريف الكلاسيكي الضيّق للبروليتاريا) تقيم ديكتاتوريّة حكم العمّال، وثانيها: العداء الكلّي والنهائي والممنهج للإمبرياليّة والهيمنة، وثالثها: استحالة التصالح أو التعايش (برلمانياً أو حتى في الشارع) أو تقديم التنازلات للفاشية البرجوازيّة، وحتميّة إسقاط حكمها عنوة، ورابعها: الحزب الثوري ــــــ حصراً ـــــــ كأداة الممارسة السياسيّة الفاعلة، وخامسها: مناهضة لا تُهادن لكلّ أشكال القهر الاجتماعي موروثاً ومبتدعاً.
التحدّث عن هذه الأقانيم، يجب أن لا يؤخذ بالطبع على نحو حرفي، وفق تجربة لينين ورفاقه البلاشفة، في عام 1917 أو 1905 أو 1893، بل ــــــــــ وهذه روح الماركسيّة ـــــــــــ في إطار سياق معمار اجتماعي وحالة مكانيّة ـــــــــــــ زمانيّة محددّة في السياسة والثقافة والاقتصاد معاً، فضلاً عن أنّ أشكال المواجهة والحرب الطبقيّة تأخذ اليوم أشكالاً، وتفتح جبهات لم تكن قد تطوّرت عند غياب القائد في عام 1924. أيضاً، هذه الأقانيم ليست باقة يؤخذ منها ويترك، وإنما كلّ متداخل بنيوياً ومتضامن ومتعاضد، يعتمد كل منها في وجوده على تماسه مع كل الأقانيم الأخرى يؤثّر عليها، ويتأثر بها، في علاقة جدليّة مستمرّة.
هذه الصيغة لنظريّة العمل الثوري تمثّل برنامج عمل أساس لكل من يطمح إلى تغيير العالم، كما مسطرة تقاس على أساسها كل ممارسة ثوريّة لاحقة ويقبض بها على أسباب فشلها: من تجربة سيريزا اليونانيّة (الملحمة التراجيديّة في عام 2015)، إلى بوديموس الإسبانيّة، ومن الكوربينيّة البريطانية، إلى اشتراكيّة بيرني ساندرز المتوهّمة في الولايات المتحدّة.
لكنّ أيّ معنى عملي لهذه (الرطانة) الثوريّة، التي قد ترضي غرور يسار النوستالجيا ــــــــ ويحنّ كيتيم إلى عصر ذهبي متخيّل للتجربة الاشتراكية ـــــــــ ولكنّها تشبه نسيجاً من طلاسم عتيقة بالنسبة إلى الجيل الجديد؟ ماذا يعني فكر لينين الثوري اليوم لجندي في الجيش السوري يقاتل بروحه ودمه الهيمنة على تخوم إدلب؟ لمقاتل من حزب الله لا يغفو، ويده على الزناد، مترصّداً حماقة العدو الإسرائيلي؟ لمواطن في الجزيرة ألقى به آل سعود إلى السجن لأنّه تساءل عن خرافة الدولة السعوديّة؟ لطالبة في الجامعة اللبنانيّة يتداعى عالمها في صراع معقّد بين القوى النافذة في لبنان؟
هؤلاء، وأمثالهم من ملايين الشبان عبر الجنوب وحتى داخل الأقاليم المركزيّة للرأسمالية، يجب أن يعرفوا أن حالة العالم، كما انتهينا إليه اليوم، لا يمكن استمرارها لا أخلاقياً فحسب، بل ــــــ وهو الأهم ـــــــ عمليّاً. لم يعد ممكناً أنّ أقلّ من 400 ملياردير يملكون في ما بينهم نصف موارد الأرض. لم يعد ممكناً أن تنفق النخب 2000 مليار دولار في العام الواحد لشراء السلاح وأدوات القتل فيما يعيش نصف البشر على أقل من دولار واحد في اليوم. لم يعد ممكناً في بلد ثري مثل بريطانيا، أن ينام ملايين الأطفال من دون عشاء. لم يعد ممكناً بعد 150 عاماً على إلغاء العبوديّة في الولايات المتحدة، أن يستمر الفصل العنصري الفادح تجاه الأقليّات وبأشكال مبتكرة. لم يعد ممكناً قبول تحالف واشنطن لإسقاط أنظمة وطنيّة وقتل الملايين، من أجل تنصيب عملاء محليين ووكلاء للهيمنة. لم يعد ممكناً أن تُنفق الحكومات الغربيّة الفاسدة المليارات من الأموال العامّة على إنقاذ لصوص البنوك وهواة المقامرة في الأسواق الماليّة العديمة النفع. لم يعد ممكناً قبول أن يفتك بالبشر فيروس مستحدث، فيحصد عشرات الألوف، أغلبهم من الفقراء والمرضى وكبار السنّ والمهاجرين والأقليّات، فيما يتحصّن الأثرياء في قلاعهم الوثيرة يديرون الحكومات بالريموت كونترول، وينفذون سياسات قتل بطيء ممنهج. لم يعد ممكناً القبول بالتخريب المُتدحرج للبيئة والمناخ والموارد المشتركة، لمصلحة بضع عائلات متنفذة. لم يعد ممكناً قبول التصاعد الحتمي المستمر في الفجوة الاقتصاديّة، وتكرّس انقسام المجتمع طبقياً بين 1% و99%، وعالميّاً بين الشمال والجنوب، فيما لم يعد سرّاً أن انعدام العدالة المزمن هذا، هو جذر معظم أوجاع المجتمعات المعاصرة: الأمراض والجريمة والعنف المجاني وتعاطي المخدّرات وانتشار الدعارة بأشكالها، والاغتراب الاجتماعي والانحرافات السيكولوجيّة والجهل والتهتك والتسطيح.
لأجل ذلك كلّه وغيره، العالم اليوم في أزمة متصاعدة مواجهتها تتطلّب تغييراً ثوريّاً لكسر المنظومة الرأسماليّة للسيّد الأبيض، واستبدالها بنظام أكثر عدالة من أجل كل الشعوب. تغيير لا يمكن (علميّاً ومنطقيّاً وتاريخيّاً) أن يقوده سوى العمّال ــــــ عمّال الغرب وعمّال العالم. وأيّ شيء آخر ثبت بالتجربة المحضة أنّه محض هراء: لن تتنازل النخبة عن مصالحها، ولو سفكت كل دم. ونحن ما نسينا إلى اليوم الثلاثين ألفاً من الشهداء الذين ذبحوا في كميونة باريس. وفرصتنا في هذا الوقت تحديداً تتسع أفقاً: فالأميركي لم يعد اليوم سوى خمس العالم اقتصادياً، وهناك تجارب مضيئة للصمود في وجه جبروته العاتي. في كوبا: ستّون عاماً من الحريّة. في كوريا الشماليّة: سلاح نووي رادع. في الصين: نموذج اقتصادي مختلط واعد يقود عربة الاقتصاد العالمي. في سوريا: كسرنا هجمة عالميّة دعمت الحرب الأميركية على البلد الصغير المحاصر، والتحرير على قدم وساق ــــــ وفق المتاح. في إيران: النظام صامد رغم حصار أربعين عاماً. في لبنان: حزب الله يردع شرطيّ المنطقة العبري بنديّة تثير الإعجاب. فنزويلا: تناضل وتبني وتطوّر تجربتها الاشتراكيّة. روسيا: منافس للأميركيين لا يشق له غبار. اليمن: صامد وشامخ ويمد يده باقتدار، مهدّداً الرياض وأبو ظبي ـــــ وضمناً تل أبيب. وكلّ ما تحتاج إليه هذه التجارب لتكتسب زخماً نوعيّاً هو التربيط والتشبيك، لأن النضال على جبهات متفرقة مهما كان شجاعاً لا يجدي نفعاً على المدى الطويل.
وإذا كانت ثورة العمّال حتميّة، فليس لدينا تجربة أهم من الثورة البلشفيّة عام 1917 نستضيء بنورها ـــــ مع تجارب مشرّفة لاحقة بالطبع في الصين وكوريا الشماليّة وكوبا وإيرلندا كانت استلهمت ثورة روسيا. وبما أنّ الأخيرة ذات صلة بأي ثورة مقبلة، ففكر لينين حكماً (نصوصاً وممارسة ثوريّة) مهم وذي صلة.
ذلك جانبٌ، فإن الذكرى الـ150 لولادة لينين تستحق أن ننصف فيها الرجل كما أنصفنا فكره، كإنسان استثنائي ودافئ وعميق وشجاع وعقل جبّار وقامة لا تُدانى. وقد تجلّى معدنه الثمين ذاك في كل مراحل حياته. خذ مثلاً ذلك الجهد الخارق الذي لا تقدر عليه مؤسسة كاملة، لإقناع اللجنة المركزيّة في الحزب البلشفي المتردّدة في حسم أمرها وتولي قيادة ثورة العمّال في روسيا ــــــ بعد فشل تجربة الحكومة المؤقتة قبل تشرين الأول / أكتوبر 1917 ـــــــ دراما تامّة. أو في شجاعته الأسطوريّة عندما وقف كطود ثابت في وجه تحالف الثورة المضادة في روسيا مع قوى العالم الرجعي ضد الدولة السوفياتية الناشئة (والسوفيات كلمة روسيّة تعني مجالس العمال بالمناسبة). مُلْهِم. وحتى عندما مرِض مرَض الموت ـــــ كنتيجة لإصابته البالغة في محاولة اغتيال غادرة ــــــ ولم يعد بقادر على إدارة الدولة كقائد، فقد استمرّ من فراشه، وحتى اللحظات الأخيرة، يكتب ويحمّس ويشجّع العمّال على مزيد من الالتفاف حول دولتهم. التزام لا يخبو ولا يُثلم. عبقريته النظريّة المتناثرة في نصوصه العديدة تبزّ الأكاديميين، لكنّه كان مثقفاً ذا عقل استراتيجي وتكتيكي مذهل، وامتلك رؤية بالغة الصفاء لحراك التاريخ والصراع الطبقي وتقلّبات الأزمنة. ولعلّ موقفه الصلب لحظة إعلان الحرب العالميّة الأولى في عام 1914، والسقوط المدوّي للأممية الثانية بعد انحياز اليساريين إلى أنظمة بلادهم القوميّة، أسطع دليل على ذلك. وحده في القيادة تقريباً كان يرى في ذلك فرصة تاريخيّة قد لا تتكرر للانقضاض على الأنظمة المتعفّنة في أوروبا بدلاً من الانكفاء في الخنادق الوطنيّة خدمة للبرجوازيّات، في الوقت الذي استسلم فيه يساريّون كثر للكارثة، وبكت روزا لوكسمبورغ وكادت تنتحر. بصيرة ورؤية.
لينين واحد منّا يا رفاق، قاتَل وأفنى عمره من أجل قضيّتنا كعمّال ومهمّشين وفقراء وجنوبيين: وصنع معجزة أوّل إسقاط لهيمنة البرجوازيّة على الدولة الحديثة. نصيحته كانت للمناضلين وقت ترقّب الثورة: «تعلّموا، تعلّموا، تعلّموا». شعار حزبه كان: الأرض، الخبز، السلام، فهل نطمح نحن الـ99% إلى أكثر من ذلك الآن؟ فسلاماً عليك يوم ولدت يا فلاديمير ألييتش أوليانوف.