يدور نقاش، يبلغ أحياناً تفاصيل التفاصيل، بشأن معالجة الأزمة الاقتصادية المالية النقدية المروّعة التي يعاني منها اللبنانيون بأكثريتهم الساحقة. تبرز، في مجرى ذلك، أفكارٌ إصلاحية حقيقية، وأحياناً متقدمة، إذا ما نُظر إليها بمعزل عن السياق اللبناني المتوارث، على الأقل منذ الاستقلال إلى اليوم. تلك الأفكار المجرّدة، ورغم ما يحفّزها من نوايا طيّبة وصادقة أحياناً، تبقى مجرّد رغبات، بل وأوهام، في ظلّ استمرار بقاء وهيمنة منظومة المحاصصة التي تُدار عبرها وتخضع لها السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، ومن ثم كل السياسات الأخرى في الحقول كافة، داخلياً وخارجياً. توسّعت وترسّخت هذه المنظومة باستمرار، فلَم تصمد أمامها كلّ المحاولات والتجارب الإصلاحية الواسعة أو الجزئية: منذ التجربة الشهابية (1958 ـــ 1964)، وصولاً إلى إصلاحات «الطائف» (1989)، مروراً ببعض المحاولات الجزئية التي اختبرها مسؤولون ووزراء، في هذا الحقل أو ذاك، وفي هذه الحقبة أو تلك.نتوقّف كمثل طازج في هذا الصدد حول محاولة رئيس الحكومة تعيين محافظ لمدينة بيروت. ظنَّ الرجل أنّ ما حصل في البلاد خصوصاً منذ انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر وبسببها أصبح كافياً لتمكين رئيس الحكومة، وحكومته، من اختيار موظف كبير خارج الآلية السائدة والمعمّمة في كلّ الإدارات اللبنانية. لكنّ وكر الدبابير لم يلبث أن اندفع بكلّ الطاقة والإمكانيات، مجنّداً كل وجهاء ووجوه الطائفة المعنية، بمن فيهم ممثلوها في الحكومة نفسها، أي في حكومة «الاختصاصيين» التي فُرضت بضغط الانتفاضة لجهة إقصاء التمثيل السائد التقليدي لمصلحة بديل جاء مداوِراً وحتى ملغوماً... ليس هذا فقط، بل إنّ شخصيات، مشهود لها بخياراتها المدنية والعلمانية، قد شاركت في اللقاء، وحتى شارك بعضها في تبنّي خلاصاته الطائفية.
طبعاً، قامت الدنيا على رئيس الحكومة ولم تقعد، إلّا بعدما عاد إلى «بيت الطاعة»، بالاستعداد للوقوف «على خاطر سيدنا» (المقصود، المطران إلياس عودة)، في موضوع تعيين محافظ بيروت. التضامن كالعادة كان شاملاً من قِبل كل المرجعيات. «يا غيرة الدين» هي سياسة عامة تُوحّد الجميع، وإن كان التنافس على خيرات السلطة قد يدفع أحياناً إلى التعطيل والاحتراب والاستعانة بـ«أصدقاء» من الخارج طالما استغلّوا ووفروا الرعاية والحماية لـ«جماعتهم» كلّما دعت الحاجة.
قبل ذلك بقليل، عجزت حكومة دياب عن تعيين نوّاب حاكم مصرف لبنان ومواقع أساسية أخرى فيه. السبب، كالعادة، الصراع على الحصص. وقبل هذا وذاك، كان رفض التشكيلات القضائية التي جرى إفهام القضاة عبره، أنهم قد «مدّوا أيديهم على الخِرِجْ»، فصدقوا أنهم هم أصحاب القرار وليس من جاء بهم، أصلاً، إلى حيث هم! أما تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي، فقد تحوَّل، رغم افتضاح ألاعيب وتآمر الحاكم الحالي، إلى قضية دولية، وليست محلية فقط. الرجل «مدعوم» كما يقال في الشارع السوري عن المرتكب المستقوي بالسلطة. وهو مدعوم من الخارج (الأميركي خصوصاً)، ومن الداخل الطائفي، فضلاً عمّن أغدق عليهم الأعطيات من سياسيين وإعلاميين، وفق مبدأ «أعطى من لا يمتلك لمن لا يستحق». لكن رغم الرغبة المبدئية لدى حكومة دياب في تبرير وجودها، قد اصطدمت بالجدار التحاصصي السميك وتراجعت، غالباً، عاجزة مهزومة.
أما الأخطر في الاختبار المذكور، فكان في الخطة الاقتصادية التي أقرّتها الحكومة الأسبوع الماضي. تؤكد هذه الخطة قاعدة أن «ليس في الإمكان أفضل مما كان». سنجد فيها خطط مؤتمر «سيدر» وشروطه، التي تعهّدت حكومة الرئيس سعد الحريري بتطبيقها، وهي، تقريباً، شروط «صندوق النقد الدولي» نفسها. إنّ ما كان صعباً في ظلّ الأوضاع والحكومات السابقة قد بات، وخلافاً للمصلحة الوطنية والمنطق، ممكناً في ظل الحكومة الحالية. أما شعارات محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة، ووقف الهدر والسرقة، فبدت سريعاً بدون معنى وبدون ترجمة، رغم ما صدحت به حناجر مئات آلاف المواطنين في الشوارع طيلة أشهر. كذلك، رغم ما كُشف، ولا يزالُ، من فضائح مخيفة كان آخرها الفيول المغشوش، والمضاربة على الليرة اللبنانية من قبل حاكم البنك المركزي المتورّط، في امتداد سياساته التي أفلست البلاد، في جريمة جديدة بتبديد النزر اليسير ممّا تبقّى من سعر صرف الليرة اللبنانية!
طبعاً، كان من الغباء الظن أنّ في جعبة أطراف السلطة شيئاً آخر، سوى السعي لاستجداء دولارات صندوق النقد الدولي، بكسب رضاه عبر الإعلان المدوي عن الاستعداد لتنفيذ شروطه كافة، وفي مقدمها تصفية ورهن القطاع العام والثروة الوطنية. من غير المنصف، أيضاً، تحميل الحكومة الحالية المسؤولية، طالما أنّ فرقاء المحاصصة الأساسيين هم الذين ما زالوا، حتى أيضاً من خلال المواقع المفتاحية في حكومة دياب، يمسكون بناصية القرار العام. لكن كان بمقدور الحكومة، على الأقل، اتخاذ بعض التدابير التي من شأنها إقناع المواطنين، بجدية شعارات من نوع: وقف النهب والهدر والفساد، واستعادة الأموال المنهوبة، ومطالبة أولئك الذين جمعوا ثروات طائلة من خلال فوائد أسطورية وصفقات مشبوهة... بأن يقدموا مساهمة ما في التخفيف من أزمة بلدهم وشعبهم التي هم مسببها الأكبر! بالتأكيد لسنا من أولئك الذين يصورون، باحتقار كامل لعقول الناس، بأن انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر والحكومة الحالية، هما المسؤولان عن الانهيار ما يستدعي عودة «الأصيل»، وإنهاء خدمات الوكيل أي الحكومة الحالية. كذلك، لا نوافق على مزاعم وسياسات أولئك الذين ركبوا موجة الانتفاضة ووجع الناس وسخطهم، من أجل تنفيذ حصتهم من خطط مشبوهة ومتآمرة تعدّ للمنطقة عموماً، ولقضية فلسطين خصوصاً، تحت عنوان «صفقة القرن». لكن كان، ولا يزال، بمقدور الحكومة أن تفعل أكثر بكثير ممّا فعلت. بالدرجة الأولى، بسبب رغبة الناس في التغيير وفي اعتماد سياسات وإجراءات جديدة، خصوصاً في مجال وقف الهدر والنهب وتسخير العصبيات في خدمة مصالح فئوية ومشبوهة أحياناً. هذا من دون أن نتحدث عن ضرورة بدء التفكير بخيارات ومقاربات جديدة في العلاقات العربية والدولية، بما يُخرج لبنان من أسر الهيمنة الغربية عموماً والأميركية خصوصاً.
المراوحة في نطاق منظومة المحاصصة، مهما حسنت النوايا، هو لعب في الوقت الضائع، لكن هذه المرة بمصير لبنان واللبنانيين. أول الأهداف هو التخلص من منظومة النهب والهدر والفساد والتبعية والارتهان للخارج. تلك هي البداية ولا بداية ناجعة سواها! كل ما عدا ذلك من المحاولات بهدف المعالجة والتغيير والإصلاح، هو زعم ووهم لا يعول عليهما!
هذا الاستنتاج هو ما ينبغي أن يكون جوهر برنامج مشروع وطني جبهوي عريض وسلطة بديلة يشكلان، في الوقت نفسه، حلقة أساسية في مسار تحرّري شامل سياسي وتنموي، يصون وحدة وسيادة لبنان ويواصل إنجازاته الشعبية المشهودة في مواجهة التآمر الاستعماري الصهيوني.

* كاتب وسياسي لبناني