لا يمكن لأية دولة تحمّل إغلاق اقتصادها إلى آجال لا تعرف نهايتها، كما لا يمكنها أن تفتحه على حساب صحّة وحياة مواطنيها، كأنّ ليست هناك جائحة تحصد الأرواح. في الحالة الأولى، فإنّه الموت جوعاً، وفي الحالة الثانية، فإنّه الموت عمداً.بين التناقضين، فإنّ التعايش مع الجائحة وضعٌ اضطراري لا خيار فيه، في أية دولة في العالم. القضية الحقيقية ليست في التعايش بذاته، بقدر ما هي في الطريقة التي يجري وفقها، والمعايير التي تحكم خطط تخفيف الإجراءات والقيود على حركة الحياة اليومية.
لا يوجد كتالوغ واحد يحدّد للدول ما يتوجّب عليها فعله، في مواجهة تداعيات وآثار الوباء على الحياة العامة. لكلّ دولة ظروفها، وحساباتها التي تحدّد البوصلات الرئيسية في التعايش مع الجائحة، بحسب كفاءة نظمها الصحية وقدرة اقتصادها على التحمّل بأقلّ أضرار ممكنة.
تمثّل الجائحة اختباراً قاسياً لكفاءة الدول والنظم والسياسات الصحية والاقتصادية. في دولة مثل ألمانيا، تبدّت قدرات في منظومتها الصحية، مكّنتها من السيطرة على ضربات الوباء الموجعة، وأعطت بالفحوصات الواسعة نموذجاً يُحتذى به لدقة أعداد الإصابات.
لم تكن مصادفة أن تتقدّم ألمانيا ـــ رغم ما تعرّضت له من أضرار صحية واقتصادية فادحة ـــ الدول الأوروبية كلّها في فتح الحياة بقدر ما هو ممكن، وعودة مباريات كرة القدم إلى ملاعبها باشتراطات مشدّدة وبلا جمهور. بالمعايير الرياضية، هذا إنجاز يعتدّ به، لأنّ اللعبة بطبيعتها تفترض احتكاكات بين اللاعبين، بينما الاشتراطات الصحّية تتطلّب الابتعاد الاجتماعي.
كان ذلك نوعاً من التعايش مع الجائحة، أو نوعاً من العودة المقيّدة لرياضة ذات شعبية طاغية. وبالمعايير الاقتصادية، فهو عمل ضروري لإنقاذ «بيزنس كرة القدم» من الإفلاس. الاقتصاد قبل الرياضة، والمصالح المالية قبل متعة المشاهدة.
هذه هي الحقيقة التي تدفع الدوريات الأوروبية الكبرى الأخرى إلى تتبّع التجربة الألمانية، للاستفادة من دروسها قبل عودة المباريات إلى ملاعبها، كما هو متوقّع ومنتظر، باستثناء الدوري الفرنسي الذي أعلن إنهاء موسمه الكروي، لأسباب احترازية مشدّدة. هناك شيء من المغامرة الصحية المحسوبة في عودة الدوريات الإنكليزية والإيطالية والإسبانية، قد تفضي إلى إلغاء التجربة إذا ما ضرب الوباء فريقاً أو أكثر أو حدث نوع من الخلل في الالتزام بالاشتراطات المشدّدة أو إذا ما جرت تجمّعات لجماهير على أبواب الاستادات، من دون أي التزام بقواعد التباعد الاجتماعي.
هناك منطق يمكن تفهّمه في عودة الدوري الألماني، وبدرجة أقل الدوري الإنكليزي، بالنظر إلى القدرات الصحية والاقتصادية للبلدين، غير أنّ إقدام إيطاليا وإسبانيا على الخطوة نفسها، فيه تغليب مفرط للاعتبارات الاقتصادية خشية إفلاس «بيزنس كرة القدم».
في هذين البلدين الأوروبيين الأكثر تضرّراً من الجائحة، غلَب المنطق نفسه، أي مخاوف من فتح قطاعات حيوية أخرى يعتمد عليها اقتصاداهما، كالسياحة والفنادق والمتاجر والمقاهي والمطاعم والطيران وحرية التنقل بين دول الاتحاد الأوروبي.
استندت إجراءات فتح الحياة على أمرَين معلَنين: الأول، انخفاض نسب الإصابات والوفيات. والثاني، التشدّد في إجراءات الفتح خشية ما هو أسوأ.
الخطوات نفسها اتخذتها دول أوروبية أخرى، تعتمد على السياحة مورداً رئيسياً، كاليونان، خشية أن يتعرّض البلد لما هو أسوأ من الأزمة المالية التي عصفت بها قبل فترة قريبة. وفي العالم العربي، لجأت تونس إلى فتح المجال أمام عودة السياحة إليها، بينما تتحرّك مصر في هذا الاتجاه، وباليقين سوف يذهب إليه لبنان.
الأداء الشعبوي الهابط للرئيس الأميركي، تكرّر في البرازيل التي باتت تحتلّ المركز الأول بين أكثر دول أميركا اللاتينية إصابة بالوباء


هذه حسابات اضطرارية، لكن يظلّ السؤال ماثلاً وملحّاً: كيف؟ وما ضمانات سلامة الإجراءات الاحترازية، حتى لا يتفشّى الوباء فوق طاقة النظم الصحّية المنهكة، وهي لا يمكن مقارنتها بالنظم الصحية الأوروبية، التي كاد الوباء أن يدهسها؟ السؤال نفسه يطرح مسألة كفاءة إدارة التعايش على جدول أعمال الدول والنظم، هنا وباتساع العالم.
إذا لم يكن هناك تفاهمٌ وطنيٌّ واسعٌ حول الخطوات والسيناريوات المتوقّعة، فإنّ الفوضى سوف تضرب المجتمعات بأكثر من الجائحة نفسها. الولايات المتحدة، التي يُفترض أنها أقوى دولة في العالم، الاقتصاد الأول، والقدرات العسكرية والعلمية والتكنولوجيا والبحثية الأولى، بدت شبه مترنّحة وحصدت أعلى إصابات ووفيات في العالم بأسره.
كان ذلك تعبيراً عن فشل سياسي فادح وغياب أية قدرة على صناعة التوافقات الداخلية.
تمزّقت الولايات المتحدة بين نزعتين متناقضتين، ذهبت إحداهما إلى الاستخفاف بالوباء وتجنّب أية إجراءات تغلق الحياة مؤقتاً، كأنّه لا توجد أية أخطار تهدّد حياة ملايين المواطنين، فيما ذهبت الأخرى إلى ضرورات الإغلاق المؤقت والتشدّد في الإجراءات الاحترازية حتى يمكن حصار الوباء.
عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن النزعة الأولى، ومال منافسوه الديمقراطيون إلى الثانية. إلّا أنّ لا نزعة ترامب عبّرت عن أيّ قدر من الكفاءة في إدارة أزمة الوباء أو في إدارة التعايش الاضطراري معه، ولا تمكّنت النزعة المضادّة من تحسين الأداء العام، رغم الجهود التي يبذلها عدد كبير من حكّام الولايات في التقليل من مستويات خطورة عشوائية قرارات ترامب. هذا النوع من شبه العجز الكلّي عن صناعة التوافقات الداخلية، يكاد يزيح الولايات المتحدة من على قمة النظام الدولي، إذا لم يكن غداً فبعد غد.
الأداء الشعبوي الهابط للرئيس الأميركي، تكرّر في البرازيل، وإن بشكل تقريبي، فقد باتت هذه الأخيرة تحتلّ المركز الأول بين أكثر دول أميركا اللاتينية إصابة بالوباء، كأنّ جايير بولسونارو نسخة شعبوية أخرى عن ترامب. فكلاهما حرّض على التظاهر ضدّ أية إجراءات تغلق الاقتصاد مؤقتاً، ودخل في مصادمات مع حكّام الولايات والسلطات الصحّية في بلاده.
في المقابل، نجحت دول آسيوية عديدة، في مقدمتها الصين وكوريا الجنوبية، في إدارة أزمة الوباء أولاً، والتعايش معه ثانياً، إلى حين الوصول إلى لقاح. إدارة التعايش مع الجائحة، إحدى المقاييس الأساسية لقدرة الدول على الصمود أمام آثارها وتداعياتها المدمّرة. لذا، بقدر الاستناد إلى العلم والانفتاح على أهل الاختصاص من أطبّاء واقتصاديين في إدارة التعايش، يمكن تجاوز المرحلة الحرِجة بأقل خسائر ممكنة.
لا توجد وصفات سهلة، فإذا لم ينفتح المجال العام للاستفادة من كلّ رأي، سوف نجد أنفسنا أمام منزلقات لا حدود لخطورتها. إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق، فإنّ الإجراءات الأخيرة المشدّدة، التي أعلنها رئيس الحكومة المصرية في فترة إجازات أسبوع عيد الفطر، ربما تكون قد ساعدت في ترميم الثقة مجدداً في الأداء الحكومي، بعدما تعرّض لانتكاسة مع زيادة أعداد الإصابات والوفيات، خصوصاً في أوساط الفِرَق الطبية من دون حماية كافية.
من ناحية صحية، فإنّ الإجراءات ضرورية لوقف نزيف الأرواح، حتى لا يتعرّض الجهاز الطبي لتصدّع محتمل، تحت ضغط التزاحم في مثل هذه المناسبات. ومن ناحية سياسية، فإنّها استجابة لنداءات نقابة الأطباء وكبار الأطباء، بفرض شبه إغلاق في أسبوع العيد.
هذه إشارة إيجابية تومئ بالقدرة على إدارة التعايش، شرط أن تمضي في صناعة التوافقات الوطنية الواسعة، والاستماع إلى أهل العلم والاختصاص، وفتح المجال العام أمام كل اجتهاد وطني.

* كاتب وصحافي مصري