ارتبط تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل بدخول الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي مسار التسوية، بعد عدوان حزيران / يونيو ١٩٦٧. فقد أدت نتائج العدوان إلى تحوّل في الفكر الاستراتيجي العربي، بحيث أصبح ينظر إلى الصراع، لا باعتباره صراعاً لتصفية الاستعمار الصهيوني لفلسطين، بل نزاعاً بين دول يُحَل بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام ١٩٦٧، مقابل قبول العرب بوجودها. وكان المؤشر على هذا التحوّل هو قبول قرار مجلس الأمن٢٤٢ في تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٦٧، والذي نصّت ديباجته على معادلة وازنة بين عدم جواز اكتساب الأرض بالقوة المسلّحة، وحق «جميع» دول المنطقة في العيش داخل حدود دائمة وآمنة ومعترف بها. ومع أنّ هذا القبول بدأ مصرياً، إلا أنه أصبح لاحقاً قبولاً عربياً.وقد تعثّرت تسوية الصراع، سياسياً، بسبب الغطرسة الإسرائيلية المستندة إلى سيطرتها على الأرض التي احتلّتها في عدوان عام ١٩٦٧، والدعم الأميركي المطلق لها. غير أنّ الأمور تحرّكت بعدما كسرت حرب تشرين الأول / أكتوبر نظرية الأمن الإسرائيلي، وأجبرت إسرائيل على الجدية في المسار التفاوضي الذي أفضى، في النهاية، إلى معاهدة السلام المصرية ــــــ الإسرائيلية في آذار / مارس ١٩٧٩، والتي تضمّنت تطبيعاً كاملاً للعلاقات مقابل الانسحاب الإسرائيلي الشامل من سيناء، وتفكيك المستوطنات اليهودية فيها. لكن الشعب المصري تكفّل بوضع الأمور في نصابها، اتّساقاً مع ذاكرته التاريخية ووعيه بطبيعة الصراع، فأصبح التطبيع حبراً على ورق، باستثناءات بالغة المحدودية.
التطبيع نتيجة طبيعية للتسوية التفاوضية وهو ورقة عربية مهمّة تسعى إسرائيل إليها لأنّها الضمانة الحقيقية لأمنها


ومع أنّ العرب قد رفضوا مسار التسوية المصري، في البداية، وعزلوا مصر دبلوماسياً بما يشبه الإجماع، كما حاولوا تكوين جبهات مضادة للمسار المصري، إلّا أنّهم سرعان ما لحقوا بعملية التسوية السياسية، وإن بشروط أفضل ممّا أتت به اتفاقية كامب ديفيد الثانية عام ١٩٧٨، كما ظهر في المبادرة التي تقدم بها ولي العهد السعودي، آنذاك، في عام ١٩٨١، أي بعد المعاهدة المصرية ـــــ الإسرائيلية بعامين، وإن لم تُقَر إلا في قمة فاس الثانية عام ١٩٨٢، بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في حزيران / يونيو من ذلك العام. وكانت المعادلة التي أقامتها مبادرة فاس، توازن بين الاستجابة الإسرائيلية للمطالب العربية المتمثلة في الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في عام ١٩٦٧، وإزالة المستعمرات التي أُقيمت في هذه الأراضي، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة وتعويض من لا يرغب. وكان المقابل الذي قدمته المبادرة، هو تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام بضمانة الأمم المتحدة، أو بعض دولها، أي إنه لا يوجد، حتى الآن، حديث عن تطبيع عربي مع إسرائيل، وإن تم القفز على ذلك من بعض الدول العربية، التي أقامت علناً مكاتب للعلاقات التجارية مع إسرائيل. كما أن موريتانيا أقامت، بضغوط أميركية، علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل في عام ١٩٩٩، استمرت حتى عام ٢٠٠٩، حين أنهت هذه العلاقات بعد العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة. وقد استمرت مبادرة فاس مطروحة عشرين عاماً، من دون أن تحرّك عملية التسوية قيد أنملة، حتى عرض ولي العهد السعودي، آنذاك، على قمة بيروت في عام ٢٠٠٢، مبادرة جديدة تضمّنت المطالب نفسها، وإن أسقطت بعضها أو عدّلته. لكنّ المقابل هذه المرة كان مختلفاً جذرياً من منظور التطبيع، فقد نصّت المبادرة التي أصبحت تعبّر عن الموقف العربي الرسمي، منذ ذلك الوقت حتى الآن، على أن تقوم الدول العربية حال استجابة إسرائيل لمطالبها، باعتبار النزاع العربي ــــــ الإسرائيلي منتهياً، والدخول في اتفاقية سلام مع إسرائيل وإنشاء علاقات طبيعية معها، وكان هذا هو أول نص عربي رسمي عن التطبيع.
غير أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل لم تكتفيا بهذا التحوّل، بل مارستا ضغوطاً من أجل «قلب» المبادرة، لتقف على رأسها بحيث يبدأ التطبيع أولاً بدعوى إغراء إسرائيل بتلبية المطالب العربية. ووجدت هذه الضغوط صدى في قمة الجزائر، عام ٢٠٠٥، والتي شهدت كواليسها طرح دولتين عربيتين هذا النهج المقلوب، الذي وجد من يتصدّى له بحسم، فصرّح وزير خارجية الجزائر بأنّ جزائر الشهداء لن تكون محطة للتطبيع، واعتبر الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، أنّه لا سلام من دون ثمن، وهو موقف يؤكد قبول التطبيع، ولكن كورقة لاستعادة الحقوق، وليس لمجرّد التفريط، كما اعتبر ذلك المنهج المقلوب «خطأً استراتيجياً قاتلاً»، وفشلت المحاولة. غير أنّ السنوات الأخيرة شهدت علامات لا تخطئها العين، على تسارع التطبيع من دون ثمن، كما ظهر في زيادة وتيرة الاتصالات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية، سواء على مستوى مسؤولين سابقين ثم حاليين على الصعيد الوزاري أولاً، ثم على صعيد قيادي على أرض عربية أو غير عربية. وكان واضحاً أنّ محتوى هذه الاتصالات تطوّر من المستوى الوظيفي كالاقتصادي أو التكنولوجي أو الرياضي، إلى المستوى السياسي المباشر. وكان واضحاً أيضاً أنّ الغرض من هذه الاتصالات تجاوز التشاور في تسوية الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي، إلى العلاقات المباشرة أو حتى قيام إسرائيل بوساطات في صراعات داخلية أو دولية. وها نحن ندخل في هذا الشهر الكريم في مرحلة التطبيع الثقافي غير الرسمي، من خلال بعض المسلسلات التلفزيونية العربية التي حلّلتها الدكتورة نيفين مسعد باقتدار وموضوعية، في مقالتها الأخيرة في«الأهرام»، السبت الماضي.
المسألة، إذن، أنّ التطبيع نتيجة طبيعية للتسوية التفاوضية، وهو ورقة عربية مهمّة تسعى إسرائيل إليها بكل ما أوتيت من قوة، لأنّها الضمانة الحقيقية لأمنها، وهي أن تكون جزءاً طبيعياً من المنطقة. ولذلك، يجب عدم التفريط في هذه الورقة، إلّا بعد الحصول على ثمنها، وهو استرداد الحقوق الفلسطينية والعربية. أمّا الانزلاق إلى المساواة بين القاتل والقتيل، والمعتدي وضحيته، والفشل في رؤية مخاطر سياسات الهيمنة من القوى الإقليمية، وأخطرها إسرائيل، وتوهمّ أنها يمكن أن تحلّ بعصاً سحرية مشاكل هذه الدولة أو تلك، فهو خطيئة تاريخية أولاً، وحقوقية قانونية ثانياً، وأمنية وسياسية واستراتيجية ثالثاً.

* أستاذ جامعي ومدير معهد البحوث السياسي في مصر سابقاً