كان أول اتصال لي بالراحل الكبير الشاذلي القليبي، عام 2009، يوم كنّا نعدّ لملتقى الجولان الدولي، الذي انعقد في القنيطرة السورية المحرّرة، وحضره الآلاف من شخصيات الأمة وأحرار العالم، وألقى بيانه الختامي على الشريط الفاصل بين الجولان المحرّر والجولان المحتل، القائد الشهيد سمير قنطار. أعطاني الرفيق والأخ والصديق الدكتور محمد صالح الهرماسي، رقم هاتف الشاذلي القليبي، وحين عرّفته إلى نفسي وعلى الغاية من الاتصال، وهي دعوته لإلقاء كلمة في افتتاح الملتقى على أرض الجولان، امتلأت نبرة صوته، وهو ابن الثانية والثمانين آنذاك، حماسة، وتدفّقت مشاعر الوطنية والعروبية فيه، فقال: «من أجل الجولان، من أجل فلسطين، من أجل الحقّ العربي، أنا مستعدّ للسفر إلى أيّ مكان في الدنيا».وأذكر أنني لاحظت، وقد كنت جالساً إلى جانبه في منصة الافتتاح، أنه قد أعدّ «محاضرة» لإلقائها في جلسة، سيتحدث فيها عشرة آخرون من كل القارات ومن مغرب الوطن العربي وشرقه، فلفتُّ نظره بكل خفر واحترام، إلى ضرورة ألا تزيد مدّة مداخلته عن العشر دقائق. ضحك الرجل الكبير، قائلاً: «حاضر أخي العزيز»، وهكذا كان، فقد التزم بالوقت المخصّص له، بكل تواضع وبساطة.
لقد كان الشاذلي القليبي رحمه الله، آخر الأمناء على دور جامعة الدول العربية كبيتٍ للعرب كلهم، وكان جسراً للتلاقي والتضامن بين الحكومات والأقطار العربية لدى أيّ خلاف بينها، وكان ساعياً لعودة مصر إلى جامعة الدول العربية، وعودة مقرّ الجامعة إليها، وعودة الأمانة العامّة لها، ولو على حساب موقعه شخصياً.
رحم الله الشاذلي القليبي وأعاد إلى العرب جامعتهم أمينة لميثاقها الأساسي الجامع ونقيّة من علاقات البترودولار


ولا أنسى كيف أبدى استعداده، بهمّة وبمسعى من الأمين العام المساعد للجامعة عام 1990، الصديق الأستاذ عدنان عمران، والشخصية التونسية المميّزة الراحل الدكتور مصطفى الفيلالي، اللذين تجاوبا مع مبادرة أول أمين عام لـ«المؤتمر العربي القومي» الدكتور خير الدين حسيب، في أن تكون الجامعة العربية راعية لانعقاد أول مؤتمر قومي عربي في تونس يومها، رغم صعوبة انعقاده في أي قطرٍ عربي. وقد كان المؤتمر، منذ تأسيسه، حريصاً على استقلاليته عن الواقع الرسمي العربي، لقناعته بأنّ استقلاليته في التعبير عن مواقفه هي طريقه لإيصال رأيه إلى كل من يجب أن يسمعه، وبعيداً عن الصراعات البينية المحتدمة يومها.
برحيل الشاذلي القليبي اليوم، لا نشعر بالأسى لفقدان قامة تونسية وعربية شامخة فحسب، بل نأسف أن تتحوّل جامعة الدول العربية بعده، ومنذ عام 1990، من بيت للتضامن العربي إلى مظلّة للانقسام والحروب والفتن بين الدول العربية وعليها، فتشرّع الحرب على العراق وتكرّس الاحتلال الأميركي رسمياً، وتصمت عن العدوان الصهيوني المتواصل على لبنان، أعوام ١٩٩٣ و١٩٩٦ و٢٠٠٦، وتستدعي «الناتو» لإدامة الفتنة في ليبيا، وتعلّق عضوية سوريا في اجتماعاتها ومؤسساتها، كما توفّر تغطية للحرب الظالمة على اليمن، وتصدر مواقف خجولة بحق كل جرائم الصهيونية وحروبها في فلسطين ولبنان وسوريا، وصولاً إلى تونس مسقط رأس القليبي نفسه...
رحم الله الشاذلي القليبي، وأعاد إلى العرب جامعتهم أمينة لميثاقها الأساسي الجامع، ونقيّة من علاقات البترودولار التي أفرغتها من دورها ومضمونها المحدود أصلاً، وحوّلتها إلى مظلّة لكلّ عدوان وفتنة.

* كاتب وسياسي لبناني