قامت موروثات الحكم العثماني والانتداب الفرنسي على التفريق بين الطوائف اللبنانية المتعايشة في القرى والمدن. وترسّخ هذا التفريق في البناء السياسي للكيان اللبناني، وفي التشريع لكيانات طوائفه، بما يبرّر الولاءات الخارجية لزعاماتها وتحويلها، في ظل الاستقلال المنقوص، من جماعات إيمان متوارث لم يحُل سابقاً دون تعايشها واندماجها في المناطق اللبنانية المتعدّدة الديانات. ولكنّ تبعية النمو الخارجي للاقتصاد اللبناني، القائم على الوساطة الليبرالية المفرطة، وعجزه عن توفير ما يكفي من فرص العمل، أدّيا، خصوصاً بعد قيام إسرائيل وانقطاع الجنوبيين اللبنانيين عن أسواق فلسطين، إلى تدفّق النزوحات، من الأرياف إلى المدن، وإلى تضاعف هجرات النُخب اللبنانية إلى أنظمة وأسواق ومجتمعات خارجية. وكانت ليبرالية الاقتصاد المُفرطة، التي حصنتها وتحصّنت بها زعامات الطوائف المتقاسمة للسلطة ولخدمات الإدارة العامة، ومكّنتها من الحرص على رعاية طقوس هذه الطوائف، وتحكّمها في توزيع حصصها من الخدمات العامة والتعيينات على الوجهاء، الأقدر على ضمان أصوات الناخبين الأقلّ ولاءً.وفي ظل هذا التمثيل الزبائني، جرى الربط بين مستحقّي الخدمات ومستوى تنفّذهم في عائلاتهم وقراهم، ولا سيما في ظلّ قانون الانتخاب، حيث يحرص زعماء الطوائف على تصويت الناخبين في أماكن تسجيل قيود نفوسهم، وحيث يسهل عليهم رصد تصويت الناخبين وفرزهم، أفراداً ومجموعات في القرى والحارات، وليس في مدن نزوحهم حيث يستعصي عليهم ذلك. وهذا التفريق في أماكن التصويت، يؤثّر كثيراً على ما يقارب نصف مجموع الناخبين تقليدياً، وعلى ضمان تصويت الواقعين ضمن علاقات التضامن القرابي أو الديني التقليدي، أو التنفّع، وهي علاقات تتظاهر بضمان الأمان المحلّي أو « الآلي»، على حدّ توصيف إميل دوركهايم، الأمر الذي يحول دون ارتقائهم إلى علاقات التضامن «العضوي»، حيث يتضاءل «الشعور بالانتماء الذاتي ـــــ Subjectif» التقليدي للفرد داخل الجماعة، لتحلّ محلّه بين الأفراد، العلاقات الموضوعية Objectives، والمواطنية.
وتنعكس مثل هذه العلاقات التقليدية، سياسياً وطائفياً، في أنظمة التعليم وبرامجه، لتبقى الأجيال في مناشئها رهينة الولاءات المتوارثة والخدمات الزبائنية، ولا تجعل من تنوّر الأجيال دافعاً لتحرير الخيارات. ولهذا، لم يحل التشكّل والتطوّر المجدّدان لتبعية التحاصص الطائفي، دون تعزيزه بإنشاء قطاعات تعليم تتنافس في انفتاحاتها على برامج العلوم والتكنولوجيا المستوردة، وعلى تكوين النخب اللبنانية المؤهّلة تقليدياً و تقنياً ولغوياً للتحوّل إلى تجّار ورجال أعمال والقيام، حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، بدور الوساطة بين الأسواق العربية الناشئة والأجنبية الغنية. وهذا ما وفّر فرص ازدهار الاقتصاد اللبناني، وفرص استيعاب واسعة للعمالة اللبنانية، على امتداد ثلاثة عقود، انتهت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بفضل ارتفاع أسعار برميل النفط من حوالى 4 دولارات إلى 20 دولاراً .و كان من نتائج ازدهار أسواق النفط، استغناء الأسواق الخليجية خصوصاً عن الوساطة اللبنانية، ولا سيما مع تفاقم الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرّت حتى أواخر الثمانينيات، وانعقاد مؤتمر الطائف الذي وضع حدّاً لتلك الحرب برعاية سعودية وسورية، وعمّد زعامات الطوائف وميليشياتهم في وحدانية تفرّدهم بالحكم.
اقترن هذا التفرّد باعتماد سياسات اقتصادية تزيد من انفتاح الليبرالية اللبنانية، ولا سيما على صعيد التجارة الخارجية، حيث خُفِّضت الرسوم على الواردات المُنافِسة للمنتجات الصناعية اللبنانية. وزادت هذه السياسة في ارتفاع نسبة البطالة عموماً، لترتفع إلى 12%، وتصل في أوساط الشباب إلى حوالى الثلث من متخرّجي الجامعات. كما زادت في أعداد المغادرين عام 2019، غير العائدين، إلى حوالى 62 ألفاً، وفقاً لما ورد في النشرة الصادرة عن «الدولية للمعلومات»، علماً بأنّ طلب العمالة اللبنانية في أسواق الخليج قد تراجع بفعل منافسة العمالة الآسيوية. واقترن ذلك بتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، بما يقلّل من قدرة المنتجات اللبنانية المُعدّة للتصدير، على المنافسة في الأسواق العربية خصوصاً، ما زاد في ارتفاع الواردات اللبنانية إلى حوالى 80% من الاستهلاك، ومن التوسّع في اعتماد الدولار بنسب متعالية في السوق الداخلية، ومن تسهيلات مكّنت المستهلكين اللبنانيين من الإنفاق على المستوردات، ومن تراكم عجز الميزان التجاري الذي ظلّ يقارب الـ20% من إجمالي الناتج الوطني.
ظلّت أكلاف العجوزات تتراكم تحت رعاية وزارة المالية ومصرف لبنان ومحدودية رصدهما لمخاطر الإنفاق غير المسؤول


ظلّت أكلاف العجوزات تتراكم تحت رعاية وزارة المالية ومصرف لبنان، ومحدودية رصدهما لمخاطر الإنفاق غير المسؤول، فشجّعا على الاستدانة من المصارف التي أغرتها نسبة الفائدة المنفلته المعروضة، لتغري بها مودعيها تحت ظلّ ليبرالية النظامين الاقتصادي والمالي، بعدما كرّر وزير المالية على امتداد سنوات، اطمئنانه إلى الوضع المالي، وكان آخرها ما أورده في مقدّمته لموازنة عام 2019، حيث قال إنّ هذه الموازنة «على الرغم من أنّها لا تُعبّر عن مالية الدولة الكاملة، بل تمثّل جزءاً كبيراً من موازنة الحكومة المركزية، في حين أن العديد من البلدان حول العالم يعقد موازنة عامة للدولة ...». ورغم ذلك، فإنّ «موازنة المواطنة والمواطن» «تأتي من ضمن سلسلة التوعية المالية والضريبية المهمّة لتوعية المواطن حول حقوقه وواجباته، وتُسهِّل قيامه ببعض المعاملات الأساسية وتعزيز الشفافية وثقافة المواطنية».
وفي مثل هذه الموازنة، يقدِّم المصرفيون للمودعين إغراءات لا يقدم عليها أبسط المرابين، لجهة المسؤولية والمهنية في اشتراط توفير المُدين لضمانة سداد القرض مقابل عقار أو أي أصول أخرى، وموافقته على تسجيل قيمة الضمانة مهما غلت، بما لا يزيد على ثلثي القرض المطلوب. وفي مثل هذا الاقتصار لعمل المصارف على التنعّم بفوائد نادرة على قروضها للدولة، غير معروفة عالمياً، و على الإفراط في نشر فروعها الفخمة على مسافات لا تزيد في محيط بيروت الكبرى، بعضها عن بعضها، أكثر من 2 إلى 3 كيلومترات فقط.
أجل، في مثل هذه الإدارة الحكومية الطائفية للمال العام التي تنظّم الموازنات لإرضاء زعامات الحكومة المركزية ولا تكون، كما ورد أعلاه، «موازنة عامة للدولة»، حيث يتم توزيع أعضاء هيئة الرقابة على المصارف ونواب حاكم مصرف لبنان طائفياً، ويتعطّل تعيينهم لأسباب طائفية، وأميركية أحياناً، ويواصل حاكم مصرف لبنان دوره المنفرد إجمالاً. وفي مثل هذه الإدارة، تنعم المصارف اللبنانية بجماعات من المودعين القاصرين، ممّن تغلب بينهم ضآلة الثقافة المصرفية، ويُعاملون ضمن علاقات زبائنية تقليدية وطائفية أحياناً (مغتربون ومدّخرون ومتقاعدون وما شابه) ممّن لا يُشكلون قوة ضغط سياسية.

* باحث لبناني