لعب الكيان - القلعة دوراً وظيفياً مهمّاً في منظومة السيطرة الغربية، لكن المقاومة العارمة شلّت قدرته على المبادرة بالحرب
دشّن الجيش الإسرائيلي، في اطار ما أسماه «عمليات ما دون الحرب» في سوريا التي تستهدف عملية بناء وتطوير القدرات الصاروخية والعسكرية لأطراف محور المقاومة، تكتيكاً جديداً أطلق عليه الصحافيان رونين بيرغمان، صاحب كتاب «انهض وأقتل أولاً» عن عمليات الموساد، وبن هوبارد، تسمية «غارات الانذار» في مقال نشر في «النيويورك تايمز». وهما أشارا في المقال الى تعمد الجيش الاسرائيلي عدم إصابة سيارة قرب الحدود السورية - اللبنانية كانت تقل 3 مقاومين من حزب الله عندما اطلق صاروخاً أولاً عليها، وأفسح المجال للمقاومين بمغادرتها وأخذ حقائبهم، قبل تدميرها بصاروخ ثان. يعترف بيرغمان وهوبارد أن غاية اللجؤ إلى هذا التكتيك الجديد هي الحؤول دون حرب مباشرة وشاملة مع حزب الله عبر تجنب قتل أعضائه، ويزعمان أن الصهاينة، قد استخدموه، أي التكتيك، في مناسبات عدة سابقة. القلعة التي كانت أجهزتها الأمنية والعسكرية «تنهض وتقتل اولا»، وتشن الحرب الخاطفة ضد 3 بلدان في آن واحد، وتقصف ثم تحذر، أضحت تعتمد التكيكات «غير الفتاكة» لتجنب الحرب. مفاهيم من نوع «عمليات ما دون الحرب»، و«غارات الانذار»، تذكر بتلك التي لجأت اليها ادارة أوباما، كـ «القيادة من الخلف» و«البصمة الخفيفة»، للتعمية على تراجع القدرة الأميركية على خوض الحرب بالمعنى الفعلي للكلمة، بعد التجربتين المريرتين في أفغانستان والعراق، ولتظهير التكتيكات العسكرية المتبعة باعتبارها نتاجاً لعقيدة مستجدة وليس لعجز متنام. الأنكى من ذلك بالنسبة إلى الدولة - القلعة، هو أن هذه العمليات لم تتمكن من إيقاف، أو حتى تخفيض، وتيرة مراكمة القدرات العسكرية والصاروخية وتطويرها في سوريا والعراق تحت النار من قبل محور المقاومة. إلتزمت النخبة السياسية - العسكرية الاسرائيلية بالتعريف الذي قدمه مؤسّس الصهيونية تيودور هرتزل بأن «دولة اليهود ستكون جزءاً من سياج الدفاع عن أوروبا في مقابل آسيا، قلعة متقدمة للحضارة في مواجهة البربرية». جميع حروب إسرائيل ارتبطت بالدور الوظيفي الوارد في تعريف هرتزل، وقاد هذا الأخير إلى تضخم موقع النخبة العسكرية التي تتحكم لدرجة كبيرة بقرارتها الاستراتيجية الأساسية، وهو ما كان باتريك تايلر قد أشار إليه في كتابه الملفت «اسرائيل القلعة. قصة النخبة العسكرية التي تدير هذا البلد وسبب عجزها عن صنع السلام». لكن هذا الجيش «الذي يمتلك دولة»، كما كان يقال في سبعينات القرن الماضي، يقوم بكل ما باستطاعته لعدم خوض حرب جديدة. فحتى الاغتيالات التي يلجأ إليها، ومعه الموساد، والتي تستهدف عناصر وكوادر وحتى قادة قوى المقاومة، هي في الحقيقة نمط آخر من الحرب، هجينة أو لامتوازية، يتم اللجؤ إليها كبديل عن الحرب المباشرة والشاملة. لكن هذا النمط من الحرب لم يكن له أي تأثير جدي على مسار التغير المستمر في الموازين لمصلحة قوى المقاومة وتعاظم قدراتها الرادعة لأي عدوان إسرائيلي واسع. وقْف هذا المسار يتطلب خوض حرب كبرى تقلب الطاولة وتغير قواعد اللعبة، وهو ما تبدو القلعة أعجز عن القيام به أكثر من أي زمن مضى. تحوّل آخر غاية في الخطورة بالنسبة إلى القلعة العاجزة، هو تسارع انحدار الهيمنة الغربية التي أسست لخدمتها. سبادر بعضهم للإشارة إلى العلاقات الممتازة بين الصين وروسيا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. غير أن الطابع العضوي لعلاقتها بالولايات المتحدة يغيب عن تلك التي تجمعها بالبلدين المذكورين. ليس سراً أن إحدى القضايا التي تطرّق إليها بومبيو خلال زيارته الأخيرة للكيان، كانت ضرورة الحد من الاستثمارات الصينية فيه، وهو طلب أميركي غير جديد، وقررت إسرائيل البدء بتلبيته. الصراع الصيني - الأميركي المتصاعد، سيجبر اسرائيل على حسم خياراتها والاصطفاف، من دون أدنى شك وبوضوح، خلف الولايات المتحدة، ما سيدفع الصين بدورها إلى اتخاذ مواقف أكثر جرأة حيال الحرب المديدة الجارية في منطقتنا، ستسفيد منها أطراف محور المقاومة. وكلما احتدم هذا الصراع، وازداد الاستقطاب الدولي بفعله، كلما سنح ذلك لهذه الأطراف بأن تعزّز علاقاتها مع القوى غير الغربية الصاعدة، وفي مقدمها الصين. نقطة الضعف الرئيسية في هذا المشهد، الإيجابي إجمالاً، بالنسبة إلى قضية الصراع مع إسرائيل، على رغم الأهوال والكوارث التي أصابت المنطقة، هي الوضع الفلسطيني نتيجة استمرار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية واسرائيل. وقف هذا التنسيق وحده كفيل بإطلاق المارد من القمقم الذي حُشر فيه وتفجير انتفاضة ثالثة في سياق إقليمي ودولي مؤات، على عكس الانتفاضتين الأولى والثانية. الخلاصة الأهم من مجمل ما تقدّم، أن إسرائيل اليوم، وبالرغم من الدعم اللامحدود الذي تحصل عليه من ادارة ترامب، أضعف من السابق، وداعميها كذلك، وتراجع قدرات الطرف الأقوى هو الشرط الرئيسي الذي يفسح المجال لتحقيق الانتصارات.