الدين ـــ بوجوده المُعاش ـــ عبارة عن اجتهادات المفكّرين ووجهات نظر وخبرات شعبيّة ومحمولات ثقافية وافدة، كلّها امتزجت لتعبّر عن نفسها في المُعاش الديني، وهو ما يجعل بالإمكان أن نطلق عليه «الظاهرة الدينية». وحديثُنا هنا عن السيرورة والحصيلة، وليس عن المنطق الداخلي الذي يسمح بنشوء هذه الظواهر، وبإمكانية البحث عن علاقات مصدريّة مولّدة للظاهرة الدينية من خارج ظروفها المكانية والزمانية، من دون أن تُعدَمَها، وبذلك تنتفي فكرة أنّ الدين والعالَم في توازٍ متبايِن.ويبدو أنّ واحداً من المنزلقاتِ لكثير من المقاربات النقديّة للدين، أنّها تستسهل الحكم عليه من خلال السائد المُعاش، والذي قد يكون ـــ بقوانين العالَم ـــ مفردة من مفرداتٍ كثيرة، يمكن أن نحصل عليها عندما ننظر إلى الدين في نتاج النخبة وحركة الاجتهاد، والتي أمّنت تنوّعاً يعكسُ غنى المجال الديني، بما يشي بأنّه ظاهرة يكفُلُ النصُّ نفسُهُ حركيّتها واتّساعها في مدى الزمن، طولاً وعرضاً وعُمقاً.
لوحة للفنانة الإيرانيّة كلناز فتحي، «من دون عنوان» - 2004، أكريليك على كتّان، 120x120 سنتم

علاقة الله الخالق بهذا العالَم هي بدورها قضيّة خاضعة للجدل الداخل ـــ ديني، كما في كثيرٍ من العقديّات، ولكنّها لا تختلف على أنّ قوانين العالَم ليست محكومةً بالغيب، بل هي خاضعة لمنطق الشهود الذي يسمح للإنسان بإدراكه والإحاطة به. وفي القرآن الكريم نفسه، الكثير من الدلائل التي تشير إلى علاقة تؤدّي إلى التصالُح، بل التجانُس بين بُعد الخالقيّة والتدبير، وبين بُعد السنن والقوانين التي تحكم العالَم، في الكون والإنسان، في كلّ ميادين تعبيراته عن وجوده؛ وكلّ واحدة من هذه السُنن والقوانين في المنطق القرآني تمثّل «سنّة الله» التي تجعل الخروج عنها، خروجاً عن إرادة الله، والوظيفة الوحيدة للإنسان هي اكتشافُها والعمل على استثمارها في تطوّره وتكامله وتطوير الحياة معه، الأمر الذي حدا ببعض التفسيرات أن تتحدّث عن الملائكة، على أنّها عنوانٌ آخر لهذه السُنن التي أُمرت بالسجود لهذا المخلوق العاقل، فسجدت سجود تسخيرٍ. وبذلك، امتلك الإنسان زمامها، من خلال المفاتيح التي اكتنفها عقلُهُ المتطوّر، ولو في قابليّاته عند النشأة. هذه المفاتيح التي تحدّد مسارات استثمارها ومآلاته في حركة الحياة الأرضيّة.
الإنسان الآلي والذكاء الاصطناعي، ورجوعاً إلى كلّ التطوّر التقني الذي حاكى فيه الإنسانُ ـــ بقابليّة الاكتشاف والإبداع فيه ـــ كلّ الطبيعة ونفسَه، قد يسمح لتراكم الخبرات البشريّة على طول التاريخ، ربّما الوصول إلى نقطة ما في هذا التطوّر الوجوديّ والخبرويّ، يُدرك فيها بالحسّ ما استبعده من ارتباط هذا العالَم بماوراءه، على قاعدة شهادة الآيات، أو ظواهر الخلق، على شهود الخالق على مخلوقاته: (سنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفسِهِم حتّى يتبيَّنَ لهم أنّه الحقُّ أولم يكفِ بربِّكَ أنّه على كلِّ شيءٍ شهيد).
وبمعزلٍ عن ذلك، فإنّ هذه الآليّة والاصطناعيّة في الذكاء، وقبل أن تحسِمَ قضيّة كبيرة كسؤال الهويّة الإنسانيّة، تفرض علينا أوّلاً مقاربة أعمق لظاهرة الخلق، وموقع الإنسان ـــ الخليفة منه، حيث إنّه نفسه خاضعٌ لقوانين العالَم، ولكنّه أُعطي القدرة على استثمارها في ما يحاكيه ويحاكي الطبيعة والمخلوقات من حوله.
وفي إمكاننا، ببساطة هنا، أن نعتبر أنّ نظريّات التطوّر هي تعبير عن المنطق السُنَنيّ نفسه، وذلك حقيقة كونها نظريّات؛ لأنّها تعبّر عن منطقٍ عقلانيّ لتطوّر المخلوقات في هذا العالَم، وذلك كلّه بمعزلٍ عن كلّ الجدل الدائر حول النظرية أو حول العلم ونهائيّاته الخاضعة لبراديغمات البحث العلمي نفسه، التي يمكن أن ينفتح البحث على اكتشاف ضرورة نفسها وإحلال براديغمات جديدة. هذه النظريّات إنّما تحاكي ظواهر ما يجري، من دون أن تعني بالضرورة نفي من يمكن أن يكون مُجريها وواضعَ قوانينها.
ليس هناك تناقض محتومٌ بين «الداروينية» وبين الدين، في وجوده الكلّي وما ينفتح به على فرضيّة الخالِق، وإنّما قد نجد التنافي بينها وبين اجتهاداتِ تفسير بداية الخلق، وفهمِ النصوص الدينية الحاكية لها، علماً بأنّ التفسيرات الدينية نفسَها متعدّدةٌ، ولدينا منها مروحة كبيرة، بدءاً من الاعتماد على ظواهر النصوص التي توصل إلى فرضيّة «الخلق المستقلّ»، وصولاً إلى الرمزيّة في قصّة بداية الخلق، بما يفتح دلالاتها على مديات تطلّ على كنه الإنسان والرؤية التي تحكم وجوده على الأرض، وعلاقته بقوى الشرّ والخير، وما إلى ذلك ممّا يستدعي الكثير من التأمّل، وعدم الحكم عليها بسطحيّة.
مشكلة العالَم العربي اليوم أنّه حوّل الرؤية الوحدانية إلى طقس وشعار، بدلاً من أن تكون جوهر انعتاقٍ وتحرّر


نعم، لعلّ مشكلة المجال الديني التي سمحت بكلّ هذا التناقض، هي الانفصاليّة التي حصلت بينه وبين علوم الزمان، وبالتالي بينه وبين استهداء السُنن، حيث تمّ فصل النصوص الدينية عن مواكبتها للخبرة البشرية، بما يسمح بإيجاد علاقة إيجابيّة بين النص والزمن، يُكسبه صفة الهداية للإنسان، والهداية معنًى عميق لا يلغي الإنسان لمصلحة النص، وإنّما يدفع النص لفتح الأفق أمام الإنسان، ليجادله ويحاكيه ويواكبه ويستفزّه ويستخرج ما فيه. والأهم، أنّ الإنسان يبقى في كلّ ذلك مطمئنّاً وجوديّاً، لا يقضُّ السؤال سكينته، ليحوّلها إلى قلق وجودي قاتل، وشكٍّ مزلزلٍ لا يستقرّ. ولقد كان النص الديني واضحاً، منذ بداية صوغه للرؤية الوجوديّة للإنسان في هذه الأرض: (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإمّا يأتينَّكم منّي هدى فمن تبع هدايَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون). القصّة هنا قصّة هداية وليست مصادرة مسار حياتي على الإنسان أن يحفره بفكره ويديه.
كان العالِم الإسلامي في ما بعد زمان النبوّة ينفتح على كلّ شيء آخر في هذا العالَم، وانطلق العالِم الديني في ميادين الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفن والأدب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك وما إلى ذلك، بما أظهر بالحسّ قدرة المجال الديني على هضم الآخر وإعادة إنتاجه بصيغة أضافت إليه خصوصيّة تعارُفيّة ارتقت بالنتاج عبر التلاقح، من دون أن يجد الواحدُ منهم تناقضاً مع نفسه ودينه ونصوصه، بل كان يفتح الاكتشافُ والتطوّر المعرفي إمكانيّات جديدة للنص كانت رهينة محدوديّة المعطيات والتجربة السابقة. حتّى إذا أصيب الاجتماع الإسلامي بنكسةٍ، لسبب ولآخر من أسباب الصراع وتجليات السُنن، أصاب تلك العلاقة نكوص، وأصبح الدين يتجلّى في حالة القراءة الانعزاليّة للنصوص عن مآلاتها وإشاراتها وهدايتها في قلب الحياة.
إنّ الرؤية الوحدانيّة للعالَم ليست فكرة عقديّة مجرّدة، بل هي عبارة عن نقطة ارتكاز تنفتح على منظومة حضاريّة رائعة، تفتح الإنسان على الخروج من المحدود نحو المطلق في كلّ شيء، في السؤال والبحث والعلم والحاكاة والإبداع، من دون أن يميدَ الوجودُ به. وبذلك، تتحوّل هذه الرؤية إلى شرط ضروري لأنسنة الوجود البشري، عبر الخروج به من كلّ قيود هذا العالَم، فلا شيء يسحقُ الإنسان إرادته ووجوده له، سوى الخالق المالك المطلق، وهو في الوقت نفسه يمنحُ العالَم معناه بما يخرجه بما تدخله المادّية فيه من معنى العبثيّة في اللامعنى...
وهذه الرؤية الوحدانيّة للعالَم، هي التي تحفظ نزوعه الدائم نحو المطلق من أن يكون خروجاً متفلّتاً من إنسانيّته، والوقوع في عبوديّة للجسد ـــ البهيمة؛ لأنّ جدليّة الإنسان في بعديه المادّي والروحي ـــ وهي قضية جدليّة في التفسير ـــ تجعل انفلات الجسد، عبارة أخرى عن تقييد الإنسان بالمادّة، وسبباً في نكوص الإنسان، حيث يتحوّل العَبُّ من الحياة إلى عطشٍ لا يُروى في معنى حاجات الغريزة، وبالتالي قهراً لانعتاقه نحو ذلك المطلق، بما يفقده المعنى الحقيقي لإنسانيّته، كما برهنت على ذلك الخبرة البشرية المتراكمة نفسها.
أمّا مشكلة العالَم العربي اليوم، أنّه حوّل الرؤية الوحدانية إلى طقس وشعار، بدلاً من أن تكون جوهر انعتاقٍ وتحرّر. ولذلك، جنينا الكثير من ظواهر التخلّف، في ميادين المعرفة والحركة والإبداع والاستقلال، حتّى انغمس في «سفك الدم والإفساد في الأرض»، والتي لو بحثنا لرأينا أنّ المسؤول عنها هو العبوديّة لأصنام المال والسلطة والجاه والغريزة، هي نفسُها «شجرة الخُلد ومُلك لا يبلى»، في الوقت الذي تفتح فيه الوحدانية والرؤية المطمئنّة للعالَم الباب على مصراعيه في تذوّق الحريّة الإنسانيّة بأجلى صورها، وتجسيد الاستقلال عن كلّ تبعيّة، واجتراح القوّة من كلّ هذا الضعف المحيط بنا. وفي ذلك تجارت مقاربات عديدة في كيفيّة صنع التوحيد للإنسان، الذي يبدعُ المعرفة في صخب أسئلتها، ويتحرّك إبداعاً في شتّى ميادين الحياة، ويضيفُ إلى الوجود معانيَ تتّسع معها مفردات اللغة، وتتلوّن عبرها آفاقُ الفكر... والشاعرُ المفكّر أكثر مَن يملك تذوّقها؛ والله من وراء القصد.
*أستاذ حوزوي وجامعي