أجادت إيران، طوال السنوات السابقة، سياسة النفس الطويل والهدوء، ونجحت في التعاطي برويّة مع الملفّات الساخنة في المنطقة، إن كان في العراق وسوريا واليمن، لتثبت نفسها للمرحلة المقبلة، بأنّها الأخطبوط السياسي الأكبر في الشرق الأوسط الذي يُحسب له ألف حساب. وعلى الرغم من عمليات الاستدراج الكبير الذي كانت تعتمده سياسات أميركا ومعها إسرائيل، من أجل إدخال إيران في اهتزازات وابتزازات، لدخولها منطقة الخط الأحمر وتوجيه ضربات عسكرية مباشرة لها، إلّا أنّها عرفت كيف تستوعب بحنكة، كل هذه التهديدات حتى أصبح وجودها أكبر وأضخم في العالم العربي، إن كان في سوريا، أو في العراق حيث باتت الأقوى على كل المستويات. إذن، كلّ تلك الابتزازات وعملية الاستدراج لم تُثر القيادة الإيرانية نحو قلب الطاولة، حتى كانت هذه السياسة الهادئة محطَّ أنظار الكثير من المحلّلين الذين حاولوا رسم صورة ذهنية عن تعاون غير معلن بين أميركا وإيران. ولكن لماذا تتحدّى إيران، اليوم، أميركا وأوروبا، ومعهما إسرائيل، عبر إطلاق القمر الصناعي العسكري الأخير؟ وما هي خطط القيادة الإيرانية في المستقبل؟ وماذا عن اقترابها من السفن الحربية الأميركية في البحر، والتي قيل إن المسافة بينهما كانت أقلّ من عشرة أمتار؟ وما يثير الدهشة فعلاً هو تجاهل الجانب الإيراني مراراً تحذيرات الجيش الأميركي، فهل دخلت إيران مرحلة جديدة من التعاطي مع الولايات المتحدة؟ وهل هي تعرض أمنها واستقرارها للخطر؟ وما هي الرسائل التي تحملها الجمهورية الإسلامية في المرحلة المقبلة؟

مرحلة ما بعد «نور1»
من الواضح أن التعاطي الأميركي مع إيران، بعد عملية إطلاق القمر الصناعي، سيصبح أكثر عدائية، فإيران المحاصَرة التي تواجه وباء «كورونا» والتي لا يزال طيف قائد فيلق القدس قاسم سليماني لا يغيب عنها، استطاعت أن تنجح في تحقيق هدفها بإطلاق قمر صناعي عسكري، الأمر الذي فاق كل توقّعات الأميركيين، وخصوصاً أن ترامب كان قد خرج على موقع «تويتر» مستهزئاً بقدرات إيران، وناشراً صورة لإحدى عمليات الإطلاق الفاشلة المأخوذة من أحد أقمارها التجسّسية. ولكنّ المفارقة اليوم، أنّ أميركا لم تستطع رغم قوتها الاستخبارية والتجسّسية، مشاهدة الصاروخ قبل إطلاقه، حيث إنها ليست المرة الأولى التي تطلق فيها إيران قمراً صناعياً. في التاسع من شباط / فبراير هذا العام، أطلقت قمراً صناعياً محلياً، ويقال إن الصاروخ الحامل الإيراني نجح في إرسال قمره الصناعي إلى الفضاء، لكن لم يوفر هذا الصاروخ سرعة كافية لدخول القمر الصناعي إلى المدار، ما أدى إلى فشل إطلاق القمر الصناعي. وفي الواقع، فشل إطلاق إيران للأقمار الصناعية في السابق، أسعد إلى حدّ كبير الولايات المتحدة، إذ بمجرّد تحقيق إيران قدرات فضائية جديدة، فهذا يعني أنّ الولايات المتحدة بصفتها الخصم الأول، هي أول من سيتعرّض للتهديد.
تدرك كل من إيران والولايات المتحدة أنه ليس من السهل تصنيع الصواريخ العابرة للقارات فهذا يحتاج إلى المزيد من التقنيات العالية والخبرات الطويلة


ببساطة، يقول الخبراء إن تقنية إرسال الأقمار الصناعية إلى السماء، هي ذاتها تقنية إرسال الصواريخ العابرة للقارات إلى الفضاء، ما يعني أنه إذا كان القمر الصناعي واقعاً في المدار، فإنّ ذلك يعادل الحصول على تقنية صاروخية حاملة مثالية. ولكن تدرك كل من إيران والولايات المتحدة، أنه ليس من السهل تصنيع الصواريخ العابرة للقارات، فهذا يحتاج إلى المزيد من التقنيات العالية والخبرات الطويلة. وإن كان أصدقاء وأعداء إيران يدركون أن ّهذا الجانب لا يزال بعيداً عن المستوى الحالي للجمهورية الإسلامية، إلا أنّ الخطوة الأولى لذلك قد بدأت، وقد استطاعت هذه الأخيرة حجز مكانٍ لنفسها في نادي الفضاء العسكري المستقبلي، حيث تدرك كلّ من واشنطن وطهران أنّه بمجرّد أن تخطو الأخيرة الخطوات الإضافية في هذا المجال وامتلاك الإمكانات لفعل ذلك، فإنّها ستشكل تهديداً حقيقياً لسياسات أميركا وإسرائيل في الشرق الأوسط.
ولعلّ المرحلة المقبلة تحمل في طيّاتها العديد من السيناريوات: إمّا السير بمزيد من العقوبات والضغوطات على إيران، وهذا السيناريو الأقوى، وبالتالي جرّ المنطقة إلى مزيد من التوترات الأمنية؛ وإما الذهاب إلى حوار أكثر مرونة. لكنّ المؤكد، اليوم، ومهما اختلف المحلّلون في قراءة مشهد التطور الإيراني في المجال الفضائي، فإنّ ذلك لا يمكن أن يعيد عقارب الساعات وسنوات المحاولات المتكرّرة إلى الوراء. والأكيد، أنّ الولايات المتحدة قد أضاعت فرصة لجم طهران عن محاولات التطوّر، فمن الواضح أنّ الوقت أصبح متأخّراً جداً لإيقافها. ولعلّ السيناريو الثالث، الذي يطفو بين الفينة والأخرى على السطح، هو عملية ضرب إيران التي كانت متوقّعة إلى حد كبير في السنوات العشر الأخيرة، لكنّها لم تحصل.
في الجبهة المقابلة، يبدو أن حرب الفضاء، وإنْ بدت غير متكافئة، قد بدأت. فقد أطلقت الولايات المتحدة دفعتها السابعة، المؤلّفة من ستين قمراً صناعياً تهدف إلى رصد أماكن مخفية من العالم من جهة، وتطوير شبكة الإنترنت الفضائي من جهة أخرى، الأمر الذي يساعدها على التحكّم الأكبر في العالم والاستيلاء على المزيد من الأسواق الدولية.
الجدير بالذكر أنّ أقمار التجسّس العسكرية التي دخلت إيران بنجاح إلى مدارها هذه المرة، يمكنها مراقبة المناطق المحيطة بالشرق الأوسط بشكل فعّال، كما أنّ القواعد العسكرية التي ينشرها الجيش الأميركي في الشرق الأوسط، تقع ضمن العين الإيرانية الساهرة. في المحصلة، وقبل التفكير في أي من السيناريوات المحتملة، ستواصل الولايات المتحدة مواجهاتها ضد إيران، بينما لن تستسلم هذه الأخيرة، وهو ما يوحي بمزيد من التعقيدات في العلاقات بين البلدين، وما يستتبع ذلك من تداعيات على الشرق الأوسط المتغيّر.
وفي المحصلة أيضاً، يبدو واضحاً أنّه على الرغم من أنّ إيران أطلقت بنجاح قمرها العسكري، فإنّ هذا في الحقيقة لا يعني أنها قادرة على الدخول بسرعة في الاستطلاع القتالي، حيث لا يزال هناك طريق طويل لقطعه للوصول إلى مستوى الكشف للدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وروسيا. ولكن ما يخيف الولايات المتحدة حقاً، هو الصاروخ الذي يضع الأقمار الصناعية في المدار، ومع اعتراف الجانب الروسي بأنّ نجاح إيران الأخير سيجمع خبرة قيّمة لتطوير صواريخ عابرة للقارات في طهران، ومن المرجّح أن تمتلك إيران القدرة على تصنيع صواريخ باليستية عابرة للقارّات في المستقبل القريب. كل هذه التكهنات تجعل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مستعدّاً فعلاً لطرح خطّة تلغي انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع طهران، كجزءٍ من خطّة معقّدة لزيادة الضغط عليها.

* أستاذه جامعية متخصّصة في علوم الإعلام والاتصال