بالكاد بدأت أوروبا تأمل في أن تكون ضربات الوباء وصلت إلى ذروتها، حتى أخذت تخفّف إجراءات الحظر خشية انهيار اقتصاداتها، من دون أن يكون مؤكّداً زوال الكابوس في وقت قريب.الجروح نالت كلّ موضع في القارة العجوز، غير أنّها تبدو غائرة في إيطاليا وإسبانيا أكثر من الدول الأوروبية الأخرى. في هاتين الدولتين، بلغ الانكشاف أمام الوباء حدوده القصوى، والشعور الجماعي بالعزلة مداه المريع.
ما قد يحدث غداً في أوروبا، بعد أن تنقضي الجائحة، يتوقّف بصورة رئيسية على تفاعلات السياسة والمجتمع في الدول الأفدح تضرّراً من الوباء، والأكثر شعوراً بالخذلان من الحلفاء المفترضين.
بحسابات الوزن المالي، فإنّ الصدارة ألمانية، وقد مكّنتها منظومتها الصحية المتقدّمة من أن تسيطر نسبياً على الوباء. وبحسابات الوزن الدبلوماسي، فإنّ فرنسا هي المايسترو السياسي للاتحاد الأوروبي، الذي تحيط مستقبله تساؤلات وشكوك. وبحسابات الوزن التاريخي، فإنّه لا يمكن تجاهل الدور البريطاني في مستقبل القارة، بغضّ النظر عن خروجها من الاتحاد الأوروبي. هذه حقائق قوى وأوزان في أية صياغة سياسية أوروبية متوقّعة بعد «كورونا»، غير أنّ المستقبل قد يُصنع في مركزَي الجرح قبل مراكز المال والنفوذ.
الأطراف الكبرى الفاعلة، سوف تجد نفسها مشدودة بالتفاعل وردّات الفعل على ما يحدث في إيطاليا وإسبانيا. ما هو عميق وغائر في تفاعلات البلدين الجريحين، سوف يلقي بظلاله الكثيفة على مستقبل الاتّحاد الأوروبي، الذي بدا شبه عاجزٍ أمام ضربات الوباء، وعلى «حلف شمال الأطلسي»، المنظومة الدفاعية الغربية المشتركة التي غاب حضورها، وعلى طبيعة العلاقات مع الولايات المتّحدة التي لم تمدّ يد العون في وقت محنة مرعبة.
من مفارقات التواريخ، أن تتزامن ذكرى مرور 75 عاماً على اندحار الفاشية وسقوط حكم بينيتو موسوليني في إيطاليا، التي أسّست لأوضاع ومعادلات ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع أوضاع ومعادلات أخرى تلوح في أفق ما بعد انقضاء «كورونا».
عند نهاية الحرب الباردة، صعد إلى السلطة سيلفو برلسكوني، وقد دأب المثقفون والصحافيون على التبرّؤ منه واعتباره عاراً على إيطاليا، بما دعاني إلى أن أسأل من الذي انتخبه إذن؟! كانت إجابة الصحافية الإيطالية باربرا أليغيرو مثيرة للاستغراب: «أمي»! أخذت تشرح أسبابها، فوالدتها ممثلة مسرح شهيرة، كانت تنتمي إلى الحزب الشيوعي الإيطالي، متأثرة بأفكار تولياتي وغرامشي وبرلينغوير، وكانت هذه الأفكار تنحو إلى تأسيس شيوعية أوروبية، وكان الحزب يتمتّع بتأييد يقارب نصف الشعب الإيطالي، وسعت الولايات المتحدة طوال سنوات الحرب الباردة، إلى منعه من الوصول إلى سدة الحكم أو حتى المشاركة فيه.
عندما انهار الاتّحاد السوفييتي، حدث نوع من الانهيار في الحزب وأخذ ينشق ويتآكل من الداخل، رغم أنه لم يكن صدى لما كان يحدث في موسكو، لكنّ الزلزال ضربه وانتقص من وزنه ودوره وأفكاره، وأدى ذلك بتداعياته إلى تحطيم نصف الثقافة السياسية المعاصرة للشعب الإيطالي، بطريقة دراماتيكية مفاجئة.
لم يمضِ وقت طويل حتى انهار النصف الآخر من الثقافة السياسية، كان الانهيار هذه المرة بقضايا فساد النخبة الديموقراطية المسيحية والاشتراكية، التي توالت على الحكم في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
مع تفريغ الحياة السياسية، تمكّن الملياردير برلسكوني ــــــ عبر المال السياسي والتحكم في شبكات تلفزيونية وبمساندة من عصابات المافيا ــــــ من الإمساك بالمقادير الإيطالية، مؤيَّداً من قطاعات شعبية يائسة كممثلة المسرح الشيوعية السابقة. في وقت لاحق ارتفع منسوب الأحزاب الشعبوية وحضورها في معادلات الحكم، لأول مرّة منذ سقوط موسوليني.
بعد انقضاء «كورونا»، قد يجد المسرح السياسي المرتبك نفسه مشدوداً إلى اتجاهين متناقضين: أحدهما، شعبوي يميني يعادي اللاجئين ويسعى للانفصال عن الاتحاد الأوروبي. والآخر، يساري جديد يدعم أطروحاته بما كشفت عنه المحنة من عوار طبي واجتماعي فادح، ينتقد بيروقراطية الاتحاد الأوروبي لكنه لا يستعجل الخروج منه.
التناقض السياسي نفسه سوف يجد طريقه إلى دول القارة الأخرى، وإسبانيا قبل غيرها.
كان من رأي الأستاذ محمد حسنين هيكل في حوار بيننا، أنّ إسبانيا هي البوتقة التي تتصارع فيها الأيديولوجيات والمعمل الذي تتفاعل بداخله الأفكار. العالم كلّه تصادم على مسارحها بالأفكار والعقائد والسلاح، على مدى ثلاث سنوات استبقت الحرب العالمية الثانية. بتعبير الشاعر الإنكليزي الكبير ستيفن سبندر: «أحسست أثناء الحرب الأهلية في إسبانيا أنّ صراعنا اختلاف كتب».
في صدامات الأفكار والأيديولوجيات أنشد الشاعر الإسباني الأكبر لوركا للمستقبل، وكتب الأديب الفرنسي أندريه مالرو روايته ذائعة الصيت «الأمل»، وتملك المعنى نفسه الروائي الأميركي أرنست همنغواي، وقامات أدبية أخرى من المستوى الرفيع ذاته، غير أنّ كل شيء تحطّم تحت الأقدام الغليظة لحكم الجنرال فرانشسكو فرانكو، فتبدّدت الأحلام الكبرى وقبعت الكوابيس في المخيّلة العامة.
كوابيس «كورونا» تكاد تضاهي كوابيس الحرب الأهلية الإسبانية، بما قد تخلّفه من أرقام ضحايا ومشاعر فزع، لكنّ الأمل الذي لاح بين خرائب الحرب الأهلية يصعب أن تتوافر مقوّماته بين خرائب «كورونا». التفاعلات سوف تأخذ وقتها، حتى تستبين ملامح أمل جديد. شيء من ذلك حدث بعد رحيل فرانكو، منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
لم تكن تجربة الانتقال إلى الديموقراطية نزهة خلوية، شابتها مصاعب وتخلّلتها صراعات وتبدّت في المشهد الانتقالي انقلابات عسكرية محتملة، حاولت أن تعود بإسبانيا إلى زمن فرانكو.
في نهاية المطاف، نجحت إسبانيا في إجراء أوسع مصالحات ممكنة طبق قواعد العدالة الانتقالية وصاغت قواعد دستورية ملزمة. كانت القضية الأهم في التجربة الإسبانية مدى كفاءة إدارة التوازنات المعقّدة بعد تحديد الأهداف ووضوح الرؤى، فقد قمعت بقوة السلاح الديموقراطية ووسائلها، وصودرت الاشتراكية وأهدافها، وجمّدت السياسة طوال أربعين سنة متصلة من حكم فرانكو. لم يكن الخروج من الجمود الطويل سهلاً، ورغم فاشية فرانكو، فإن سياساته وفّرت خططاً للتصنيع والخدمات غيّرت من التركيب الطبقي، بما ساعد تالياً في توفير بنية اجتماعية قادرة على مسؤولية التحوّل إلى الديموقراطية.
قبل «كورونا»، تبدّى مشروع انقلاب في المعادلة السياسية التي حكمت إسبانيا بعد استعادة الديموقراطية، تمثّل في توجّهين متناقضين: أحدهما يساري جديد، والآخر يميني شعبوي. كلاهما طرح نفسه بديلاً من الحزبين التاريخيين «الاشتراكي» و«الشعبي المحافظ»، اللذين يحتكران معادلة الحكم والمعارضة، وينتميان إلى إرث الحرب الأهلية.
الاستقطاب السياسي في إسبانيا مرشّح للتفاقم بعدما تنقضي الجائحة وتُحصى الخسائر البشرية والاقتصادية.
إذا كانت إيطاليا روح أوروبا ومركز حضارتها ونهضتها الحديثة، فإنّ إسبانيا أقرب إلى مرآة لما قد يحدث في العالم بأسره.
ليس بوسع أوروبا أن تغضّ الطرف عمّا يحدث في مركزها الحضاري، أو أن تتجاهل ما يحدث في المرآة الإسبانية، فالمستقبل يمرّ عبر هاتين الدولتين إجبارياً.
* كاتب وصحافي مصري