من هنا تُسقط الحدود، فاخلع نعليك وادخل، هنا وجه الله، يطل من الأقصى ثم من وادٍ في الجنوب. «أيها الفرسان المناجيد» كان النداء من الوادي الذي بعُد عن أعين الأعداء، رجال التمعت سواعدهم وبنادقهم منذ 100 عام، حيث تجمهروا بقيادة السيد عبد الحسين شرف الدين يوم السبت في 24 نيسان 1920، بحضور وجهاء وثوار جبل عامل بينهم أدهم خنجر الصعبي وصادق حمزة الفاعور، وكان الهدف إطلاق المقاومة ضد الاستعمار وضد تقسيم الوطن العربي ودعماً للحكم الوطني العربي. في خيمة نصبَها محبّو الوطن وأهله، استُقبلت «المناجيد» كما أسماهم محبّهم ورفيقهم الإمام شرف الدين، ليكون الصوت الذي صدح منها نداً ضد من استأثروا ضيقاً بأهل البلاد، ونصّبوا أنفسهم «ولاة» على المصالح. فكانت أصوات الوطنيين أعلى وإرادتهم أقوى. فردّد السيد شرف الدين أمام الجمع: «ألا وإنّ النصارى إخوانكم في الله وفي الوطن وفي المصير. فأحبوا لهم ما تحبون لأنفسكم وحافظوا على أرواحهم وأموالهم كما تحافظون على أرواحكم وأموالكم، وبذلك تحبطون المؤامرة، وتخمدون الفتنة وتطبقون تعاليم دينكم وسُنة نبيكم».
فكان وقع كلامه مدوياً بين رجال عاملة والبقاع المقاومين، الذين أحبّ تسميتهم بـ«فتيان الحمية المغاوير»، وكما كانوا حقاً وما زالوا «أباة الضيم»، الذين قاموا ضد الاستعمار دفاعاً عن الوطن، كل الوطن، فلم يبعد عن ذهنهم الحفاظ على إخوانهم المسيحيين، إذ إن الجمع لم يكن محصوراً بطائفة دون غيرها، بل جمع وطني تأسيسي لرؤية واضحة الملامح ستؤتي أُكلها على مرّ العقود.
فالاستعمار الفرنسي، حينها، لم يترك محاولة إلا وجرّب تفرقة الصفوف وزعزعتها، ونذكر حادثة حين هجم رجل فوّضه الفرنسيون لاغتيال الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، في دارته في 14 كانون الثاني 1919، محاولاً بثّ الفتنة بعد موقفه الصارم الذي فوّضه إياه أهل جبل عامل في رفض الانتداب، وموقفه الصلب مع العلامة الشيخ حسين مغنية أمام لجنة كينغ ـــــ كراين، فحاولوا نزع التفويض منه، بالإضافة إلى رسائله ومواقفه الرافضة للانتداب والمؤيدة للوحدة العربية. فحاولوا تشويه قيامه بقناع طائفي مَكَره المحتل الفرنسي، لكن باءت محاولتهم بالفشل، فانتفض السيد على المفوّض ومن معه من الجند الفرنسيين، وارتفعت الصيحة عليهم من الجيران، وانتفض الشعب في عاملة، من العلماء والثوار وأعلنوا رفضهم ومقاومتهم الانتداب، إلى أن وصلوا إلى عقد مؤتمر وادي الحجير الفيصل الحاسم.
ومنه نهض رجال المقاومة الأوائل الذين خطّوا منهج التحرّر، وهم كثر ونستأنف ذكر بعضهم ممن ذكرهم المؤرّخون من العلماء والأدباء والمقاومين، أمثال السيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين نور الدين والشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلّة «العرفان»، والسيد محمد نجيب فضل الله والشيخ حسين مغنية والأستاذ محمد علي الحوماني، ومن الثوار المقاومين صادق حمزة الفاعور وأدهم خنجر الصعبي ومحمود الأحمد، وكثيرون كانوا من المتصدّين لهجمات المستعمر ونواياه الخبيثة، التي كانت تلاحق كل حركة مقاومة، وتفتعل الفتن من إشاعة الأخبار ودسّ الدسائس. فتارةً يعيثون الفوضى بين المسلمين ضد المسيحيين، وتارةً بين المسيحيين ضد المسلمين، لكنّ حنكة وحزم العامليين وعلى رأسهم السيد شرف الدين، كانا سدّاً منيعاً لمآربهم، فحال دون محاولة اغتياله مرّات عدّة، وثمّ حكمهم عليه بالإعدام والمؤبد والنفي وحرق داره ومكتبته في شحور وصور. لكنّ أيّاً من ذلك لم يؤثّر على الهمم، وظلّ صدى المؤتمر صدّاحاً إلى يومنا هذا، وما زال قرار المقاومة سارياً.
يُسجّل التاريخ أن الهوية التي صاغها المؤتمر منذ 100 عام، هي الأساس والشعلة اللذان هيّآ لنا هذه المقاومة، التي كانت في المكان ذاته تحرق «عربات الرب» من «الدولة العبرية»


يطول البحث في بحر جبل عامل وأعلامه وخلفيات هذا المؤتمر، وكيف وصلت إليه البلاد ومن أين أتى هذا الزخم، فالكتب والمؤرّخون سجّلوا الكثير عنه، ومن يسعى في سبر أغوار هذا البحر، سيجد نفسه يغرق أكثر في هذا التاريخ المُشرّف، وإن كان الظرف شديداً والاضطهاد والظلم عتيداً، لكن العزم والروح للتحرّر والاستقلال هي ما سرت بكوكبة هؤلاء القوم للمضي قُدماً. الموقف الذي يوضحه السيد شرف الدين نفسه بقوله: «فإما عزّة لا تفصم، أو ذلّة لا ترحم. إما حياة حرة أو هوان تهدر في حمأته إنسانية الإنسان. إما استقلال دون وصاية، أو استعباد نكون معه كالأيتام على مأدبة اللئام».
فلم تكن أصداء المؤتمر محلية، بل عربية ودولية، وحظي باهتمام جماهيري واسع، وكان يُرى فيه نظرة وحدوية تحررية. ويضيف الإمام في بيان المؤتمر: «فإذا نبذتم الأهواء الشخصية، وآثرتم شرف القضية، فلنكوننّ في حرز لا يفصم، وتكون بلادكم في حمى لا يقحم. أما إذا غلبكم الهوى فلتكوننّ مذقة الشارب ونهزة الطامعة وقبسة العجلان، أمام قوة العدو وشدة الفتن وتظاهر الزمان. ألا أدلّكم على أمر إن فعلتموه انتصرتم؟ فوّتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته، وأخمدوا بالصبر الجميل فتنته، فإنه والله ما استعدى فريقاً على فريق إلا ليثير الفتنة الطائفية، ويشعل الحرب الأهلية، حتى اذا صدق زعمه، وتحقق حلمه، استقرّ في البلاد تعلّة حماية الأقليات».
ويتحدث المؤرّخون كثيراً عمّا وراء هذه الكلمات، حيث يرى الشيخ حسين بغدادي، أن السيد كان لديه وضوح في مفهوم الوطنية، ودعوته إلى محبة الوطن والتآلف بين أبنائه على اختلاف انتماءاتهم، وتحذيرهم من الانزلاق إلى الفتنة، فكان يعتقد بأنّ الوطن لا يقوم إلا بالوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة والوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، إضافة إلى رفضه الوصاية الأجنبية، ومطالبته بالاستقلال التام. كما أنّ السيد أظهر للحضور الذين كان منهم من لا يريد منهج المقاومة لمواجهة الاحتلال، أن المقاومة هي السبيل الوحيد للاستقلال، التي وحدها تحمي جبل عامل ولبنان اللذين كان يراهما مهدّدَين، بل وباستشراف للمستقبل، قال إن ليس الفرنسيين من يقومون بهذه المهمة بل «الدولة العبرية» القادمة هي التي ستقوم بها.
وهنا، يُسجّل التاريخ أن الهوية التي صاغها المؤتمر منذ 100 عام، هي الهوية ذاتها، وهي الأساس والشعلة اللذان هيّآ لنا هذه المقاومة، التي كانت في المكان ذاته، تحرق «عربات الرب» من «الدولة العبرية». وهنا لا يسع لأحد الإنكار أن في لبنان من رفض وقاوم الاستعمار، رغم كل الصعوبات والأحكام بالإعدام والنفي، وأنّ مشروع الوطنية بادئٌ منذ ذاك الزمان، ولم يكن هؤلاء في قوقعة تزمّت تختصهم، بل الأرض والبلدان تشهد لهم أنهم آمنوا وسعوا وقاوموا لأجل وطن واحد متحرّر مستقل، عربي الهوية، لا يقبل بأيّ وصاية أجنبية، وكانوا سبّاقين في دعم القضية الفلسطينية، فكان النداء: «لقد حمّ الأجل وموعدنا فلسطين على أرضها نحيا وفيها نموت».
فمن هذا المؤتمر كان المشروع والرؤية السبّاقة، إلى الوطن والمواطنية والاستقلال، فهذا الفكر يُحمل ولا يُهمل، ومنه كانت الشعلة والأمل، وبعد قرن من الزمن كبُرت الشعلة وزادت توهّجاً واقترن القول بالعمل، فهذه المقاومة اليوم تتحدّى على كل الجبهات المستعمرين القدامى والجُدد مستعيدة أمجاد الوادي.

* كاتب لبناني