يصعب بقاء أحوال النظم وموازين القوى في الشرق الأوسط على ما هي عليه، بعد انقضاء جائحة «كورونا». هناك اعتباران رئيسيان سوف يتحكّمان في صياغة مشاهد اليوم التالي. الأول: وقع التجربة المريرة في أوساط الناس العاديين والنخب العامة على حدّ سواء، ومدى الأضرار البشرية والاقتصادية وقدر مسؤولية النظم في عيون مجتمعاتها. هذه مسائل تدخل في حسابات الشرعية، وتضرب فيها عند الجذور، وما هو محتّم من تغييراتٍ مسألة وقت. والثاني: حجم التغييرات في النظام العالمي بعد انقضاء الجائحة، حقائقه وموازينه الجديدة، التي سوف تنعكس في الشرق الأوسط قبل أيّ إقليم آخر في العالم، بقدر ما يشهده من أزمات وصراعات وحروب.إلى أي حدّ يتراجع الوزن الدولي للولايات المتحدة في عالم ما بعد «كورونا»؟ هذا سؤال إجباري قبل أيّ نقاش. إذا ما تراجع الدور الأميركي بدرجة أو أخرى، فإن انعكاساته على صراعات وأزمات الإقليم وموازين القوى فيه، سوف تتخطّى أية قدرة حالية على التخيّل.
النظرة إلى إسرائيل وأدوارها ستختلف، والرهانات على التطبيع المجاني معها لإرضاء الولايات المتحدة حفظاً للعروش والنظم ستتراجع، ومشروعات تأسيس شرق أوسط جديد تلعب إسرائيل فيه دوراً قيادياً ستختفي. هذه مجرّد أمثلة لمدى ما يمكن أن يترتّب على تراجع الدور الأميركي.
الدور الصيني مرشّح للصعود بعد الجائحة، غير أنّ الطريق لن يكون معبّداً، فالصين ليست في عجلة من أمرها للتحوّل إلى قوة عظمى، على ما تؤكّد دائماً، وتحتاج إلى وقت لإصلاح اختلالات اجتماعية فادحة، إذ يعاني بعض مواطنيها من فقر مدقع، ونظامها السياسي يحتاج إلى انفتاح أوسع، حتى يكتسب جاذبية الإلهام، الذي تحتاج له أية قوة عظمى في عالم السماوات المفتوحة.
على جانب آخر، فإنّ هناك حروباً معلنة ومكتومة ستجري ضدّها، للحيلولة دون أيّ صعود محتمل لمنصّة القوة العظمى الأولى. ومن هذا المنطلق، بدأت إدارة دونالد ترامب الحملات عليها بذريعة مسؤوليتها عن تفشّي الوباء وتضليل العالم، وذلك بينما يزايد منافسه الديموقراطي جو بايدن عليه، ويتّهمه بالتساهل مع الصين، ودول غربية أخرى دخلت على خطّ الاتهامات. قد ترجع بعض أسباب الحملة على الصين إلى أخطاء ارتكبتها في بداية الوباء، أو تعود إلى صراعات انتخابية في الولايات المتحدة، لكنّها في صلبها تعبير عن صراعات سياسية دولية ستأخذ مداها، ولا شيء سيمضي يسيراً. هذا عالم جديد يولد من تحت خرائب «كورونا»، وسوف يأخذ وقته قبل أن تتبيّن ملامحه وتنعكس حقائقه في الشرق الأوسط، أكثر أقاليم العالم اشتعالاً بالأزمات والنيران.
بنظرة على العالم العربي، القوة البشرية الأكبر في الإقليم، فإنه بحالة انكشاف استراتيجي، قضاياه مستباحة وأمنه القومي منتهك ومنظّمته الإقليمية الجامعة العربية مشلولة. في حرب «كورونا» غاب «الدفاع الجماعي»، أو الحدّ الأدنى من التنسيق والإسناد الاقتصادي والطبي للدول الأكثر تضرّراً، كما غابت من قبل «اتفاقية الدفاع العربي المشترك» أمام أية تحديات ومخاطر نالت من أمنها القومي.
ضرب «كورونا» جميع المنظّمات الدولية والإقليمية بالعجز شبه الكلّي، لكن لم تكن هناك مفاجأة في حالة الجامعة العربية التي عللُها مزمنة وعجزها أمثولة. تصلح أحوالها أم تعلن وفاتها. هذا سؤال سوف يطرح نفسه على جدول أعمال ما بعد «كورونا»، لكن في كل الأحوال ليست له الأولوية، فموازين القوى الإقليمية المستجدّة ستكون لها السطوة في أيّ حساب مستقبلي.
المجازفة بالتوقّع، أقرب إلى المشي فوق رمال متحركة، غير أنّ هناك ثلاث علامات قد تساعد على اكتشاف الصورة التي يمكن أن يصبح عليها الإقليم بعد «كورونا». العلامة الأولى، أزمات الشرعية التي تشمل دولاً كثيرة في الشرق الأوسط، لخّصتها حالة الحراك السياسي في أربع دول عربية، السودان والجزائر ولبنان والعراق، قبل أن توقف فاعلياتها بتأثير الخشية من تفشّي الوباء في أية تجمّعات، وقفت في منتصف الطريق، لا حقّقت أهدافها ولا رفعت راياتها البيضاء. السودان قد يبدو أفضل حالاً نسبياً، حيث أُنشئت سلطة انتقالية، لكنّها لم تستوفِ مؤسساتها. لا أحد بوسعه أن يجزم بانتقال السلطة من العسكريين إلى المدنيين، وما إذا كان سيكون حقيقياً أم صوَرياً.
في الجزائر، تعطّل الاستحقاق الدستوري بأثر الإجراءات الاحترازية. رغم انتخاب رئاسة جديدة، فإنّ الشكوك والريب ما زالت مخيّمة على البيئة العامّة، ولا أحد بوسعه أن يتوقّع مآل الحراك والسلطة والشرعية بعد «كورونا».
في لبنان، جرى توقف آخر بعدما أُنهك البلد بالتوظيف السياسي الزائد للحراك عكس مقاصده، وأفضى الوباء إلى تفاقم المصاعب الاقتصادية فوق طاقة أي تحمل. وفي العراق، جرى التعطيل نفسه لحراك شهد برك دماء مروّعة، من دون أن تصل مطالبه المشروعة إلى محطتها الأخيرة، كلّ شيء معلّق على تطورات الحوادث.
العلامة الثانية، قدر الصدامات المسلحّة في الإقليم وما قد تؤشر إليه مستقبلاً. في اليمن، هدنة جزئية دعت إليها السعودية تحت ضغط أزمة «كورونا» المتفشّية، بينما اعترض الحوثيون على طابعها المؤقت وجرت مناوشات. في ليبيا، تصعيد للمواجهات العسكرية رغم نداءات التهدئة، وشكوك قوية في دعم عسكري تركي مكّن قوات حكومة فايز السرّاج من تحقيق تقدّم مفاجئ في بعض الجبهات. لم يكن ذلك ممكناً من دون ضوء أخضر من قوة عظمى متداخلة في الملف، وهنا أميركا مرجّحة وروسيا غير مستبعدة ـــ كما استمعت من شخصية دبلوماسية رفيعة ومطلعة. في سوريا، تبدّت هدنة هشة موقوتة بحسابات وتفاهمات قد لا تصمد بعدما ينقشع الوباء.
في البلدان المنكوبة الثلاثة، اليمن وليبيا وسوريا، خفتت حتى الآن أرقام الإصابات والوفيات بـ«كورونا»، بسبب العزلة المفروضة عليها، فإذا ما استفحلت موجات الوباء فإنها ستكون في وضع كارثي. وبقدر أكبر يتعرّض الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة وخلف الجدار ومخيمات الشتات، إلى ضربات مزدوجة من الوباء والتمييز العنصري الإسرائيلي.
العلامة الثالثة، الصورة التي تبدو عليها أكبر ثلاث كتل تاريخية وسكانية في الإقليم، مصر وإيران وتركيا. هناك قوتان أخريان مؤثرتان على خرائط الإقليم، السعودية بمواردها المالية وإسرائيل بأوزانها العسكرية، غير أنّه وفق حقائق الجغرافيا السياسية، فإنّ الكتل الكبيرة الثلاث هي التي سوف تلعب الأدوار الأبرز في المشهد الإقليمي المستجد بعد «كورونا».
إيران في وضع حصار مزدوج تحت ضربات «كورونا» القاسية والعقوبات الاقتصادية الأميركية المتصاعدة، لكنّها طرف رئيسي في أزمات ومعادلات الإقليم يستحيل حذفه أو التوصل إلى تسويات مُرضية في غيابه. أما تركيا، ففي وضع ارتباك، بينما تطارد الاتّهامات رئيسها رجب طيب أردوغان بالتسبب في تفاقم الأزمة الصحية وافتعال صدامات مع عمد اسطنبول وأنقرة وأزمير خشية تصاعد نفوذ المعارضة. ولكن رغم ذلك، يستحيل حذف الدور التركي، أو التقليل من شأنه بأية حسابات مستقبلية.
مصر تبدو بوضع أفضل قياساً إلى الفترات الماضية: هناك تحسّن في الأداء العام لا شك فيه، قد لا يكون مثالياً، لكنّه اكتسب ثقة قطاع واسع من الجمهور في أنّ الأمور يمكن أن تتحسّن. ومثل هذا الاحتمال يتيح فرصاً وسط مخاطر «كورونا»، لخفض التوترات السياسية والاجتماعية، والانفتاح على أفضل ما في البلد من مواهب وقدرات في المجالات كافة، كما يتيح فرصاً للتحرّك في الإقليم بروح المبادرة، التي تكاد تغيب من دون مقتضى. وقضية سدّ النهضة والتحرّك الدبلوماسي لحلحلتها، قبل أن تصل إلى نقطة الانفجار، إذا ما ملأته أثيوبيا من طرف واحد من دون اتفاق مع دولتي المصب مصر والسودان، لها الأولوية بطبيعة الحال.
غير أن إطلاق روح المبادرة على جبهات الإقليم سوف تكون إضافة حقيقية للوزن المصري في لحظة حرب مياه غير مستبعدة.
هناك ما يستحق المبادرة مثل نقل الحوار مع إيران إلى العلن الدبلوماسي، بحثاً عن حلول للأزمات المستعصية في الإقليم ومصالحات ممكنة مع دول الخليج تساعد في إنهاء المحنة اليمنية، التي لن تتوقف من دون هذه المصالحة. الخليجيون لا يمانعون في مثل هذه المصالحة، لهم متطلّبات واشتراطات بعضها يمكن قبوله، أمّا الدور المصري فأقرب إلى جسر تفاهم بين طرفين إقليميين أنهكهما التنازع الطويل.
عودة سوريا إلى عالمها العربي وفكّ الحظر عليها قضية أمن قومي تأخّر البت فيها، وقد أقدمت دولة الإمارات على هذه الخطوة، ومن واجب مصر أن تدعمها بخطوة مماثلة تغيّر البيئة العامة في الإقليم. في الظروف الحالية، تصعب أية تهدئة مستدامة مع تركيا، لكن ينبغي التفرقة بين الخلاف السياسي مع أردوغان والعلاقة التاريخية مع الشعب التركي بقوته الناعمة ومثقفيه.
الأزمات تولّد الفرص كما المخاطر، إذا لم نتحرك الآن بالمبادرة فقد تداهمنا التغييرات المحتملة في الإقليم بعد انقضاء «كورونا» بما لم نحتسب من أعاصير وزلازل.

* كاتب وصحافي مصري