إذا كنت تبحث عن بقعة مثالية على هذه الأرض للهروب من أزمة «كورونا»، فقد تستطيع إيجاد عزلة ما في هذا الكون الفسيح، لكنّك حتماً لن تنجو من نتائجها... وإذا ما تخطّينا كل ما قيل ويقال عن مؤامرات حيكت بالاتفاق مع هذا الفيروس التاجي، الذي دخل حلبة الصراع العالمي بين اتهامات واتهامات مضادّة، كل هذه الأمور يبدو أنّ لا حسم لها، وخصوصاً أن النتائج تفسر الظواهر، وما شهدناه من نتائج كارثية لكل البلدان التي استقبلت «كورونا» تجعلنا نُعيد النظر في هذه التحليلات. إذا ما تخطّينا كلّ ذلك، تبرز أمامنا إشكالية كبيرة مفادها: ماذا بعد أزمة «كورونا»، أي عالم جديد ينتظرنا؟!بالعودة قليلاً إلى تواريخ الأوبئة في العالم، لم تحصل تغييرات ضخمة، فهذا الكون محكوم بالاستمرار، وكلّ من تخطّت مناعته وجهوده الابتعاد عن هذا الفيروس محكوم أيضاً بامتصاص الصدمة الكورونية، والاستمرار نحو استكمال ما تبقّى من حياته. وما الأيام التي نمرّ بها، سوى الحدّ الفاصل بين الموت وبين استكشاف اللقاح الذي سيقلب كل الموازين الصحية. وإذا ما اعتبرنا أنَّ هناك تغييراً حاصلاً ومؤكداً في المستقبل، فهو حتماً ذلك الذي سيصب نحو تعاطي الدول مع الأوبئة ومع السياسات الصحية، وربما إعادة النظر في الحروب البيولوجية التي ربّما تجعل الجلّاد والمجلود تحت قبّة الموت الواحدة. ولكن ماذا عن التغييرات السياسية والنظام العالمي، هل فعلاً نحن مقبلون على نظام عالمي جديد؟!
بطريقة غريبة، ولكنها ذات معنى، ينظر المتفائلون إلى قلب الحدث السياسي بعد أزمة «كورونا» بتغيير سيطاول النظام الرأسمالي في العالم، وستكون هناك تموضعات جديدة لصالح البشرية، معتمدين على الحقيقة الكونية الأساسية بظهور الحضارات وسيطرتها ومن ثم أفولها، وبالتالي الانتقال السلس الذي ستفرضه أيام ما بعد «كورونا» إلى الضفة الشرقية المتمركزة في الصين العظيمة.
مهما بدت هذه الصورة مُرضية ومنطقية في نظر هؤلاء، فإنها تبدو مختلفة إذا ما دقّقنا النظر في إمكانية وجود نظرية أخرى تقارب حقيقة المتصارعين وحقيقة الولايات المتحدة، تلك الدولة المارقة التي تعاملت مع الكون على أنها الأفعى الأقوى، معتمدة على خصائصها الذاتية بالفحيح، فالقاعدة التي تبدو غير منطقية أن المخلوق إذا كان يبدو شبيهاً فعلاً بالأفعى، يزحف كالأفعى، يُصدر صوتاً كفحيح الأفعى، يلسع تماماً مثل الأفعى، فالاحتمال إذن أنه أفعى. أما الصين التي بدأ العالم يدير نظره إليها من باب معالجتها للأزمة الكورونية، وما أثبتته من تطوّرات هائلة تخطّت قدرات الولايات المتحدة في مكافحتها لهذا الوباء، فلن تبلع بعد اليوم أي سياسة مضادة من قبل أميركا، وبالطبع ستتموضع الدول الأوروبية في مكان مصالحها، مستفيدة ممّا أفرزته «كورونا» ورسمته، من إعادة النظر في طبيعة العلاقات بين هذه الدول، وبالتالي مستقبل الاتحاد الأوروبي والتفاهمات الاقتصادية والسياسية بين هذه الدول. كذلك الأمر بالنسبة إلى الإمبراطورية الروسية، التي ستُحدّد أهدافها وعلاقاتها المستقبلية، فالكل سيعمل ضمن منظومة واحدة: مصالحي أولاً حتى لو على حساب البشرية.
السيناريوات أمامنا مفتوحة وكلّها تشير إلى زيادة التعبئة السياسية وإمكانية الذهاب إلى حروب مفتوحة قد تكون غير تقليدية حيناً، وتقليدية أحياناً أخرى


هذه النظرية ستفرض أمامنا سياسات عالمية عُنفية أكثر، ستذهب إلى اعتماد التوحّش مبدأ في الحفاظ على المكتسبات والمصالح. وذلك العالم الذي وُضع منذ زمن الإنسانية في أدراج هذا الكون، لن يستطيع لا «كورونا» ولا غيره من أوبئة العالم، أن تغيّر ولو قيد أنملة من النظرة الشمولية نحو الأنا والقومية، وحتى التقوقع العرقي. أما الدول العربية ودول العالم النامي، فلن تستطيع وسط هذه الصراعات أن تأخذ نَفَسَها، بل ستبقى قابعة ضمن سطوة الجبابرة.
إذن، السيناريوات أمامنا مفتوحة، وكلّها تشير إلى زيادة التعبئة السياسية وإمكانية الذهاب إلى حروب مفتوحة قد تكون غير تقليدية حيناً، وتقليدية أحياناً أخرى. ولا شكّ في أنّ العالم العربي سيدفع أثماناً باهظة نتيجة هذا الصراع، ونتيجة الخلل في معالجة قضاياه وفي الاعتماد الدائم على من يحكّ له جلده، وسيدفع المستضعفون في العالم مزيداً من الخسائر المادية، ومن توسّع الشرخ بين عالمي الشمال والجنوب ومزيداً من الفقر والعوَز والحاجة إلى المأكل والمشرب والدواء. وإذا ما صحّت التوقّعات بثورة طبية تسبق الوباء القادم، فسيكون هؤلاء مختبراً لهذه التجارب شبيهة تماماً بما يتم إجراؤه على الفئران.
إننا من جديد أمام أيام محكومة بالتوحّش على الأصعدة كافة، ومهما أثّرت أزمة «كورونا» على تحويل النظام الديمقراطي في العالم، والذهاب إلى نوع من السلطوية كما يتوقّع البعض، فالقاعدة الحيوانية التي حكمت وجود البشرية منذ زمن طويل، تقول إنّ القوة في مملكة الحيوان تُحمى بالمخالب والأنياب، وتُهرق الدماء في سبيل الحفاظ عليها. لذلك، نحن اليوم في طريقنا نحو جبروت أكبر تقوده الولايات المتحدة، للحفاظ على مكتسباتها في العالم، ولن تسمح للصين مهما امتدّت حضارتها في التاريخ أن تكون في المقدمة، ولو كان ذلك على حساب العالم أجمع.
إن المرحلة المقبلة تتطلّب منّا، نحن المنتظرين، أن ننتظر مزيداً من الوقت، ريثما تستطيع مختبرات العالم إيجاد علاج ولقاح لفيروس «كورونا»، والانتقال إلى مرحلة أصعب ممّا يمكن أن يتوقعها البعض، لعل أبرزَها ركود اقتصادي، وسياسات اقتصادية عالمية ستوجعنا جميعاً، بالإضافة إلى ما ستؤول إليه العلاقات الأميركية ــــ الصينية، وهي مسألة ذات أهمية للعالم. وإذا كانت مواقف الولايات المتحدة ملتبسة ومتناقضة مع الرؤساء الأميركيين السابقين تجاه الصين، فهي ليست كذلك مع الرئيس دونالد ترامب، الذي يُعبّر بعلنية واضحة، وبمواقف صريحة، عن اعتبارها مصدر التهديد الأول لأميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وجراء لغة الصين الخطابية الدائمة الداعية إلى استعادة ما تعتبره دورها المشروع في العالم، كما بسبب أسلحتها النووية ودأبها على رفع مستوى قواتها العسكرية، لتصبح الآن ثالث أكبر قوة نووية عالمياً بعد الولايات المتحدة وروسيا. كلّ ذلك إضافة إلى حلمها برفع العلم الصيني في يوم من الأيام فوق تايوان، التي تعتبرها مقاطعة مرتدّة ومتمردة، وإلى ما حقّقته خلال السنوات السابقة من نمو اقتصادي جعلت أميركا نفسها، تتعرّض لعجز تجاري معها بعد تدفّق عشرات مليارات الدولارات من الاستثمارات الأميركية إليها.
هذه الحقائق تبعث على القلق والخوف الدائمين من المستقبل، فالأميركيون لم ولن يقتنعوا بأن الصين يمكن أن تتحوّل إلى سكّين تقطع رؤوسهم. لذلك، سيكون المنافس الصيني «الاستراتيجي» في قلب الحدث العالمي، وما علينا إلا أن ننتظر كيف ومتى ستنقضّ أميركا على منافسها الأبرز، وأي ثمن سيدفعه العالم بعد ذلك.

* أستاذة جامعية متخصّصة في علوم الإعلام والاتصال