لم يكن إغلاق فندق «البريستول» الشهير في بيروت، وهو على أبواب السبعين عاماً من العمر، خسارة سياحية واقتصادية للعاصمة اللبنانية فحسب، وإيذاناً بخطورة المرحلة التي يمرّ بها لبنان من جراء «الوباءَين»، وباء الـ«كورونا» المستجد والزائر، ووباء الفساد المقيم والمتجذّر، بل كان أيضاً خسارة للذاكرة الثقافية والاجتماعية، الوطنية والقومية، للعديد من اللبنانيين والعرب وأصدقاء لبنان في العالم.يعود عهدي بهذا الفندق، الذي كان يُعتبر من أفخم فنادق بيروت، إلى صيف عام 1982، حين كانت بيروت محاصَرة برّاً وبحراً وجوّاً من العدو الصهيوني، وحين لم يكن في بيروت سوى قلّة من الفنادق، منها «الكومودور» و«الكارلتون» و«الكافالييه» و«الكونكورد» و«الفاينر هاوس»، الفندق المفضّل لضيوف المقاومة الفلسطينية. يومها، نجحنا في «تجمّع اللجان والروابط الشعبية»، وبهمّة الأخوين العزيزين بشارة مرهج، وعدنان عيتاني، في أن نجمع على مائدة غداء في «البريستول» رؤساء الحكومات السابقين، من الرئيس الشهيد رشيد كرامي ممثّلاً بالوزير السابق الراحل المهندس مالك سلام (لوجود كرامي في طرابلس)، والرئيسين الراحلين تقي الدين الصلح، ورشيد الصلح، والرئيس الدكتور سليم الحص، أطال الله في عمره. كان الهدف من الاجتماع، يومها، صدور بيان يؤكد على موقف المجتمعين الرافض للعدوان الصهيوني والمتمسّك بمقاومته، مشدّداً على التلاحم بين الوطنيين اللبنانيين وأشقائهم في المقاومة الفلسطينية والجيش العربي السوري، وفي التحامهم للدفاع عن لبنان وعاصمته. من كان يعيش تلك الأيام، يدرك مغزى ذلك الاجتماع وأهمّيته، في أجواء تحاول إيجاد تصدّع بين المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية والسياسية.
انقطعتُ عن الفندق لسنوات، حتى عدنا إليه في أواخر الثمانينات، عبر ندوات مهمة لـ«مركز دراسات الوحدة العربية»، وعلى رأسه يومها الدكتور خير الدين حسيب (أطال الله في عمره)، أبرزها حلقة نقاشية حول «الحركة العربية الواحدة»، في الذكرى الثلاثين للوحدة المصرية ـــ السورية (1988)، وهي الحلقة التي خرجت منها فكرة المؤتمر القومي العربي، الذي انعقد بعد عامين في تونس، ثم ندوة كبرى حول «مستقبل لبنان» بعد الطائف 1990، وندوة بالغة الأهمية بعد أقل من شهر على حرب تموز / يوليو 2006 حول تداعيات تلك الحرب، وهي تداعيات ما زالت مستمرّة حتى اليوم، ناهيك عن ندوة «العلاقات العربية ــــ الصينية»، التي انعقدت قبل سنوات، مشيرة إلى ضرورة الاهتمام بهذه العلاقة وتطويرها.
لم ينحصر دور الفندق في استضافة الندوات الفكرية والثقافية لـ«مركز دراسات الوحدة العربية»، أو غيره من المراكز والمنتديات، بل استضاف أيضاً لقاءات ومؤتمرات سياسية واجتماعية مهمة، منها ما هو متصل بالقضايا الوطنية أو بالقضايا القومية... ففي «البريستول»، انعقد لقاء كبير للدعوة إلى مقاطعة السلع الأميركية، تحت شعار «وقاطعوا ما استطعتم إليه سبيلاً»، بدعوة من «المنتدى القومي العربي» في شباط / فبراير 2002، احتجاجاً على الموقف الرسمي الأميركي من قضايا الأمة، وخصوصاً بعد انتفاضة الأقصى وحصار العراق. وفي «البريستول»، انعقد بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001، ومحاولات وصم المقاومة بالإرهاب، «المؤتمر العربي الأول»، بدعوة من المؤتمرات العربية الثلاثة (القومي العربي، القومي/ الإسلامي، الأحزاب العربية)، وكان انعقاده تحت شعار «نعم للمقاومة لا للإرهاب»، وفيه انعقدت دورات عدّة للمؤتمر القومي العربي، والمؤتمر القومي / الإسلامي، ثم للمؤتمر العربي العام، وجميعها في إطار الانتصار لقضايا الأمّة ومشروعها الحضاري، سواء في فلسطين أو العراق، أو لبنان، أو سوريا، ودائماً على قاعدة الانتصار للمقاومة.
ولقد كان لانعقاد المؤتمر العربي العام، في 30 آذار / مارس (يوم الأرض)، تحت شعار دعم سلاح المقاومة، أثره البالغ في الدفاع عن المقاومة، في وجه الهجمة الشرسة التي تجدّدت على نطاق واسع، بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط / فبراير 2005. ومن أصل أربع دورات للمنتدى العربي الدولي من أجل العدالة لفلسطين، الذي انطلق بمبادرة من «المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن»، وبالتعاون مع مؤتمرات واتحادات من حركات مقاومة فلسطينية ولبنانية، والذي تشارك فيه شخصيات عربية ودولية، انعقدت دورتان في فندق «البريستول»، كما انعقد واحد من أهم مؤتمرات «مؤسسة القدس» الدولي في رحاب هذا الفندق.
ومن أبرز ما شهده فندق «البريستول»، هو حدث إعلان «المشروع النهضوي العربي»، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في 22 شباط / فبراير 2010، بعد جهد شارك فيه المئات من مفكّري الأمّة ومناضليها وشبابها، ومن كلّ التيارات التقوا في ندوات وحلقات نقاش، امتدت من بيروت إلى فاس المغربية، مروراً دائماً بالقاهرة. وقد أذاع المشروع، يومها، من إحدى قاعات «البريستول»، مدير عام المركز الدكتور خير الدين حسيب، والمفكّر المغربي البارز الدكتور عبد الإله بلقزيز، والرئيس المؤسّس للمنتدى القومي العربي الأستاذ معن بشور.
جائزة جمال عبد الناصر، التي كان يقدّمها «مركز دراسات الوحدة العربية» كلّ عامين، كانت أيضاً تُقدّم في رحاب فندق «البريستول»، وقد نالها على التوالي، الأستاذ الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، والشخصية العربية الكويتية، الراحل جاسم القطامي، والرئيس الدكتور سليم الحص (أطال الله في عمره)، بالإضافة إلى الرئيس الراحل أحمد بن بله.
إلى جانب الندوات والمؤتمرات وحلقات النقاش، احتضن «البريستول» العديد من مآدب العشاء التي أقامتها هيئات وجمعيات وأحزاب، منها أكثر من عشاء سنوي لـ«تجمّع اللجان والروابط الشعبية»، الذي كان يستضيف كلّ عام شخصية لبنانية أو عربية أو دولية بارزة.
لذلك، ما إن أذيع خبر إغلاق هذا الفندق «التاريخي»، حتى تلقّيت اتصالات من شخصيات عربية عديدة عرفت الفندق جيداً، وشاركت في العديد من الفعّاليات التي قامت في رحابه، وكلّها قلقة من إغلاق فندق كان واحداً من أهمّ معالم عاصمة أحبّها كلّ العرب، بل لبنان الذي بالنسبة إلى كثيرين من العرب وطنهم الثاني.
لقد ذكّر إغلاق فندق «البريستول»، الكثيرين بإغلاق مطعم «فيصل» المقابل للجامعة الأميركية، الذي كان أيضاً جامعاً للعديد من الشخصيات اللبنانية والعربية، وشاهداً على لحظات مهمّة من تاريخنا في لبنان والوطن العربي. وهكذا، تتوالى الأنباء عن إغلاق مؤسسات إعلامية، مثل «السفير» و«الأنوار»، وسياحية وثقافية والعديد من المقاهي (الويمبي، المودكا، الهورس شو، السيتي كافيه، الستراند وغيرها)، كما عن رحيل شخصيات وطنية وقومية، فيتمّ استحضار ذكريات تبقى الرابط الدائم بين ماضينا وحاضرنا والمستقبل.

* كاتب وسياسي لبناني