لم تتوقّف الإدارات الأميركية وأجهزتها وحلفاؤها عن العدوان على العراق، وذلك منذ وُضع على لائحة الأهداف الإستراتيجية الأميركية للغزو والاحتلال والهيمنة عليه وعلى المنطقة، والسيطرة على الثروات والطاقات، ولا سيما بعد اكتشاف النفط والموقع الاستراتيجي والتنافس الإمبريالي. وتصاعدت الخطط منذ أواسط القرن الماضي، بأساليب مختلفة ليرسم الغزو والاحتلال عام 2003 ذروتها. وتحقّق للإدارة الأميركية ما كانت قد رسمته في احتلال البلاد والهيمنة على المقدرات وتوظيف من يخدمها في التطبيق والتخادم، طوعاً أو إجباراً، اختياراً أو إكراهاً، رغبة أو إغراءً.كما أنجزت الإدارات الأميركية بناء قواعد عسكرية، ووزّعتها على خريطة العراق والمنطقة، إضافة إلى سفارات أكبرها في بغداد، وقنصليات تنتشر في المحافظات وتقوم بمنهج تعبوي مدروس ومنظم تحت شعارات كسب العقول والقلوب. وقامت بإعداد فئات اجتماعية، من مختلف الأعمار والأجناس، تابعة ومنفذة وجاهزة للتخادم الكامل مع المشاريع الاستعمارية في المنطقة.
تعتمد الاستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق والمنطقة، لتحقيق أهدافها وتكريس نفوذها، على استمرار السيطرة والانتشار في الأرض والجو، ومن ثمّ العمل الميداني، سواء مع قيادات في القوات المسلّحة أو قيادات سياسية وأمنية. وجرّبت ذلك خلال تلك الفترة الزمنية، قبل الاحتلال وبعده، كما تزايد اهتمامها بعد تشكيل قوات «الحشد الشعبي» وتسليحها بقوة نارية مواجهة وقادرة على الرد المباشر، أو محاصرة الوجود العسكري الأميركي وخططه العدوانية. ورغم الاتفاقيات، وحتى المواقف المعلنة عن التعاون الأميركي ـــ العراقي الرسمي، وممارسة النفوذ السياسي، قامت القوات العسكرية الأميركية بتوجيه ضربات عسكرية غير قليلة لمواقع تابعة لـ«الحشد الشعبي» والجيش، وفاقمت ذلك باغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في بغداد، معترفة بما قامت به ومعلنة أهدافها من كل ذلك. ثمّ جاءت الخطوات الأخيرة التي تسرّبها، لتقع في إطار انسحاب منظّم من مواقع، وإعادة انتشار في المنطقة العربية بكاملها، وتهيئة وتحضير لمخططات عدوانية، لم تعد سرية كثيراً، تشمل أهدافاً أوسع ممّا يقوله التسريب أو الحوار عنه. وقد تتوسع الرقعة الجغرافية لتشمل إيران وما بعدها، اقتصادياً وأمنياً.
ففي الوقت الذي تعلن فيه قيادة القوات العراقية تسلّمها لقواعد ومعدات عسكرية أميركية، تصرّح قيادات عسكرية أميركية بأنها تقوم بـ«إعادة تموضع طويل الأمد»، وانتشار جديد لقواتها وصيانة قواعدها وقوّاتها من أيّ هجوم مبيّت أو مُعلن ضدها، كما أخذت تذيعه أوساط أميركية وعراقية متخادمة معها.
في الوقت الذي تعلن فيه قيادة القوات العراقية تسلّمها لقواعد ومعدّات عسكرية أميركية، تصرّح قيادات عسكرية أميركية بأنها تقوم بـ«إعادة تموضع طويل الأمد»


يفضح هذه التحركات والتنقلات، تعزيز الوجود العسكري كما نشرت وكالة الأنباء «سبوتنيك» نقلاً عن مصدر أمني عراقي، يوم 14 آذار/ مارس، قوله إن قوات الفرقة 101 الأميركية الهجومية الجوية الوحيدة في العالم، في طريقها إلى العراق، لتبادل المواقع في أحد المقارّ العسكرية العراقية، بالتزامن مع التصعيد بالصواريخ. وبحسب المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، من داخل قاعدة عسكرية جوية بارزة في العراق، فإنّ عناصر الفرقة 101 الأميركية المحمولة جواً ستصل إلى القاعدة، في تبادل أماكن مع شركة أمنية. وأضاف المصدر، أن قوات المشاة البحرية الأميركية (المارينز)، موجودة في القاعدة الجوية ـــ التي شدّد على عدم ذكر اسمها تحسباً لأي قصف صاروخي قد يستهدفها ـــ لتنضم لها الفرقة 101 القادمة حتماً من إحدى قواعد الولايات المتحدة الأميركية في دول الخليج.
تُعرف فرقة 101 باسم «النسور الزاعقة»، وقد استخدمتها الولايات المتحدة الأميركية في الحرب ضد العراق إبان عدوان «عاصفة الصحراء»، أو ما تُعرف بـ«معركة الخليج الثانية»، وأمّ المعارك، إثر اجتياح الكويت مطلع تسعينيات القرن الماضي. ويأتي وصول الفرقة الأميركية إلى العراق، بعد ساعات من استهداف قاعدة التاجي العسكرية، شمالي العاصمة بغداد، بـ33 صاروخاً من نوع «كاتيوشا»، وهي تضم قوات عراقية، وبعثة من «التحالف الدولي». وقد تسبّبت بإصابة اثنين من منتسبي الدفاع الجوي العراقي بجروح خطرة، وحالتهما حرجة، بحسب بيان لقيادة العمليات المشتركة.
صاحَب إعلان هذا الخبر تناقُض التصريحات الرسمية حوله، وكذلك التكهّنات السياسية والأمنية، فبين تكذيب إلى تنبيه إلى بث إشاعة حرب أو رعب، إلى تأكيد انسحاب قوّات «التحالف»، والتي جلّها قوّات عسكرية أميركية، تؤكّد مصادر أمنية، بحسب ما نشرته جريدة «الأخبار»، منذ فترة، أنّ الأخيرة تسعى إلى «انسحاب سلس من دون ضجّة»، لافتة إلى أنّ الجانب الأميركي يرفض الإفصاح عن «جدول زمني محدّد»، إذ يضع الجانب العراقي في «الإطار العام، من دون الخوض في التفاصيل... لأسباب أمنية وسياسية أيضاً». وإضافة إلى القواعد الثلاث، ترجّح المصادر ذاتها المذكورة في «الأخبار»، انسحاب القوّات الأميركية من معسكرات «بسماية» (محيط بغداد) و«المزرعة» و«طارق» (محيط الفلوجة)، وكذلك كركوك والقيارة، في الأسابيع القليلة المقبلة. ويبلغ عديد القوّات حوالى 220 عسكرياً، على أن يكون تموضعهم الجديد في «عين الأسد». وبذلك، يبلغ عديد المنسحبين قرابة الـ 820 جندياً، من 6 قواعد من أصل 12 جرى الحديث عنها.
انسحاب من جهة، وشنّ حرب نفسية، وادّعاء الخوف من تفشّي جائحة «كورونا»، بدعوى افتقار العراق إلى البنية الصحيّة التحتيّة اللازمة لمواجهة الجائحة العالمية، وتهديدات من جهة أخرى، وتصعيد في لغة الخطاب والتسريب لأخبار العدوان، مصحوبة مع انتشار أخبار الخطط الجديدة، لقوات التحالف، وخاصة انسحابات أعداد من قوات بريطانية وألمانية وإسبانية ودانماركية وفرنسية، وربما غيرها، ممن لا يُعرف اسمها وعددها أيضاً، وهو ما قد يكشف في الأيام المقبلة عن أمور ليست في الحساب أو في التطورات المتوقّعة. أما الحكومة الاتحادية (المستقيلة أو المقبلة) فمعنيّة بتنفيذ القرار البرلماني القاضي بجدولة انسحاب القوات العسكرية المنتشرة في العراق، وتحديد جدول زمني لها، رغم سعة الخلافات حوله وانكشاف الصلات والاتصالات بين القوى السياسية واختراقات الجهات الخارجية وضغوطها.
لهذا، لا يُستغرب في العراق، أن عدداً من الهجمات التي شنّتها القوات الأميركية أو توابعها على معسكرات عراقية و«الحشد الشعبي»، وردّت جهات لم تعلن عن نفسها عليها، استنكر رد الفعل هذا بقوة، ولم يتطرّق إلى العدوان، من ممثلي الأمم المتحدة والرئاسة العراقية ورئاسة البرلمان وأحزاب كردية وغيرها. وهو أمر يلفت الانتباه إلى سعة التخادم والاختراق والمصالح المختلفة، لكلّ الأطراف التي همّها الاستجابة للضغوط الأميركية والتنكّر لقرار البرلمان والقوى العراقية التي تعمل عليه. ولكن موضع الاستغراب فيه حصوله في ظروف حرجة في العراق والمنطقة.
زيادة في التصعيد الأميركي، تنشر وسائل إعلام أميركية، ومنها أو أبرزها صحيفة «نيويورك تايمز» (2020/03/27)، أخباراً عن قرارات وأوامر من وزير البنتاغون للقيادات العسكرية للتخطيط لتصعيد الأعمال العسكرية في العراق، ضد ما يسمونه حلفاء إيران، والتحضير لحرب داخلية بقوات محلية وأميركية تدعمها، عدداً وعدّة. يأتي ذلك مع زيادة في الأعداد والمعدّات وتدريبات خارج العراق وداخله، والإعلان عن الخطط والنوايا في القصف والاغتيال والإنزال والتصدّي للهجمات المضادة، وغيرها من الخطط والعمليات العسكرية التي تعلن بتفاصيلها في خلاف أيّ عمل مسبق مثيل لها. ويعني هذا الأمر أنّ العدوان والاحتلال الأميركيين مستمران على العراق، وهناك من يعيد تهيئة الأرض والجو والإعلام، وكأنه في ملعب سيرك، لا خطط حرب وغزو واحتلال للبلاد ودمار للعباد.

* كاتب عراقي