لا توجد تجربة معاصرة في تاريخ الأوبئة، التي مرّت على العالم وامتدّت بالعدوى إلى مصر، تقارب ما يحدث الآن تحت ضربات «كورونا» المستجد.عندما أوشكت مدافع الحرب العالمية الأولى على أن تصمت عام 1918، بدأت تنتشر جائحة «الإنفلونزا الإسبانية».
لم تعطِ هذه الجائحة للعالم فرصة التقاط أنفاس يلملم فيها أحزانه على ملايين الضحايا، فضربت بقسوة هائلة وأسقطت أكثر من الذين ماتوا في الحرب. وبأقلّ التقديرات تجاوزت الوفيات 50 مليوناً في أنحاء القارة الأوروبية.
وصل الوباء إلى مصر، حيث أصاب عشرات الآلاف، ولكن حدث نوع من التكتّم الإعلامي عليه. وبعد عام انتفضت مصر طلباً للاستقلال وجلاء قوات الاحتلال البريطاني، في ثورة 1919.
توارت «الإنفلونزا الإسبانية» بضرباتها المميتة في المشهد المصري، وحضرت نداءات حقّ تقرير المصير التي سادت العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. حينها، جرى التكتم على الجائحة بالرقابة الأوروبية المشدّدة، خشية التأثير على الروح المعنوية للمقاتلين في خنادق الحرب الذين لم يعودوا إلى ديارهم، كما جرى التكتم على تفاهمات وصفقات جرت أثناء الحرب، مثل اتفاقية «سايكس بيكو» (1916)، التي قسّمت العالم العربي. وكان إعلان وعد «بلفور» عام 1917، إنذاراً مبكراً بأثمان فادحة سوف تدفع في مصر وعالمها العربي، من إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على حساب شعبها والتنكيل به. بصورة أو بأخرى، تجاوزت الإنسانية جائحة «الإنفلونزا الإسبانية» فيما بقيت آثار الحرب العالمية الأولى غائرة على الجسد العربي حتى الآن.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، رُسمت خرائط وموازين قوى جديدة، انقسم العالم إلى معسكرين كبيرين متناقضين أيديولوجياً واقتصادياً وعسكرياً، أحدهما بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والآخر بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق.
عند ذروة الحرب العالمية الثانية انتشرت أوبئة، انتقلت هذه المرة إلى مصر، فجرى التكتم بالرقابة على بعضها، بينما لم يكن ممكناً التكتم على بعضها الآخر.
وفي عام 1942، ضرب وباء «الملاريا» صعيد مصر، كأنه إعصار يجتاح كلّ ما أمامه. كان ذلك بعد حادث 4 فبراير، الذي أُجبر فيه الملك فاروق بقوة الدبابات البريطانية، التي حاصرت قصره، على تعيين مصطفى النحاس، زعيم حزب «الوفد» صاحب الأغلبية الشعبية بلا منازع، رئيساً للحكومة مع اقتراب القوات الألمانية من العلمين عند ساحل مصر الشمالي.
في تلك الأجواء، جرى التكتّم بالرقابة العسكرية على نشر الفظائع التي تخلّفت بسبب ضربات «الملاريا»، وأعداد الموتى الذين سقطوا من دون علاج، فالحكومة لا تريد أن تبدو في وضع عجز والقصر الملكي يريد أن يكشف ما هي عليه من قلّة حيلة، أما سلطات الاحتلال فلا تريد لأحد أن يتكلّم في الجائحة. وذلك بتعبير الصحافي الشاب في ذلك الوقت محمد حسنين هيكل، الذي تابع المأساة الإنسانية من مركز الوباء في أسيوط، ولم يتمكن من نشر غالبية تحقيقاته الميدانية بذريعة أنها تؤثر على الأوضاع في البلد كلّه.
لم يعد ذلك ممكناً، الآن، في عالم ثورة الاتصالات والمعلومات والأقمار الاصطناعية، حتى إنّ تطورات جائحة «كورونا» تُبثّ على الهواء مباشرة من مواقع المآسي الإنسانية.
بحسب بعض التقديرات للذين ماتوا بوباء «الملاريا» بين أواخر عام 1942 وبدايات عام 1943، فإنهم يتجاوزون الـ120 ألفاً، وهو رقم مخيف يكشف ضراوة الوباء في مناطق شديدة الفقر والعوز وتعاني من التهميش والعزلة.
لم تكن هناك أدوية لوباء «الملاريا»، وأخذت البشرية وقتاً حتى توصّلت بالعلم إلى علاج ناجع يقال الآن إنه قد يصلح لمواجهة «كورونا» المستجد. كانت الإجراءات الاحترازية بالغة التشدّد، والبيوت التي يضربها الوباء توضع عليها من الخارج علامة «إكس» حمراء ومن يموت يُدفن في مكانه.
ورغم اختلاف الأزمان والأماكن، فإنّ ما حدث في قريتين مصريتين في الدلتا من تجمّعات ترفض دفن موتى الـ«كورونا» في مقابر عائلاتهم، خشية الإصابة بالوباء، فيه استدعاء ما لشيء كامن في الذاكرة العامة، كأننا لم نتقدم خطوة واحدة في إدراك الحقائق العلمية والطبية.
يؤشر ذلك إلى أننا لا نعرف كفاية ما يدور في قاع المجتمع المصري، حقيقته وهواجسه، نقاط قوته وضعفه، ومدى انكشافه أمام أية أخطار متصوّرة. وإذا ما سألنا عن الطريقة التي انتشر بها وباء «الملاريا»، فإنّ الإجابة تكاد تقارب الطريقة التي انتشر بها وباء «كورونا».
بتعبير الأستاذ هيكل، وهو يستعيد في آب / أغسطس 2005، تجاربه المهنية الأولى في تغطية الأوبئة، فإنّ «كل شيء يحتاج إلى مواصلات... البشر... والأفكار... وحتى الأمراض والجراثيم، مثل ناموسة الملاريا التي جاءت إلى مصر مع الإنكليز من الجنوب على قطار». «أتت ناموسة الملاريا على ظهر القطارات الذاهبة، والآتية لتحمل الإمدادات، حتى تواطنت في مزارع القصب في أرمنت وكوم أمبو».
لم يكن فيروس «كورونا» المستجد في حاجة إلى مثل هذه الرحلة الطويلة، فقد حملته الطائرات إلى كلّ أرجاء العالم من موطن نشأته في ووهان الصينية.
كانت «الملاريا» أولى ضربات أربعينيات القرن الماضي، تلتها بعام واحد 1943 جائحة «الحمى الراجعة»، أو الموجة الثانية من «الملاريا». ثم جاءت الضربة الثالثة بوباء «الكوليرا»، بين عامي 1945 و1947، الذي تمركز في قرية القرين على تخوم مدينتي فاقوس في محافظة الشرقية والتل الكبير في محافظة الإسماعيلية. بدت «الكوليرا» بموضع انتشارها، في تماسٍ مع معسكرات الاحتلال البريطاني في الإسماعيلية والتل الكبير، والتي كانت قد اكتسبت وفق معاهدة عام 1936، الحق في إنشاء مثل هذه المعسكرات في منطقة قناة السويس. في توقيت تالٍ من الأربعينيات، نشأت حركات كفاح مسلّح شاركت فيها قوى وطنية عديدة ضد تلك المعسكرات. حينها، ضربت «الكوليرا» فلاحين مصريين ليست لهم أية حقوق اجتماعية وإنسانية في بلدهم، كما توالت ضربات الفدائيين ضد معسكرات الاحتلال على أمل أن يحيا شعبهم حراً وكريماً على نفسه.
بعدما ألغى النحاس معاهدة 1936، التي وقّعها بنفسه، تصاعدت عمليات الفدائيين، التي شارك فيها «الضباط الأحرار» تدريباً وتسليحاً، حتى وصلت ذروتها قبيل حريق القاهرة في 26 كانون الثاني / يناير 1952، وكان ذلك داعياً إضافياً لثورة «23 يوليو» من العام نفسه. هكذا تفشّى وباء «الكوليرا» في أجواء غضب تنذر بتحولات سياسية عميقة.
من مفارقات التواريخ أن الدفعة التي دخلت الكلية الحربية عام 1947، أُطلق عليها «دفعة الكوليرا»، وقد ضمّت على تباين توجهات وأدوار عناصرها، الرئيس الأسبق حسني مبارك والقطب الناصري السفير الراحل محمد وفاء حجازي وسامي شرف وزير رئاسة الجمهورية، ومدير مكتب جمال عبدالناصر.
حصدت الأوبئة الثلاثة ـــ «الملاريا» و«الحمى الراجعة» و«الكوليرا» ـــ حياة ما لا يقل عن 400 ألف مصري، وهو رقم مهول بالنظر إلى أعداد السكان في ذلك الوقت.
في العام التالي، 1948، نشبت حرب فلسطين، وكانت نقطة تحوّل جوهرية في التاريخ المصري والعربي الحديث كلّه، ففاقت تأثيراتها الإنسانية ضربات الوباء وأعداد ضحاياه وصبغت نتائجها السياسية والعسكرية ما جرى بعدها، حتى الآن.
رغم أحجام الخسائر الإنسانية الفادحة من ضربات أوبئة الأربعينيات، فإنها لا تُقارن بأحجام الخسائر التي لحقت بمصر وعالمها العربي، من وباء العنصرية الصهيونية وما ألحقته بها من عرقلة لأية فرصة تقدّم تستحقّه.
أمام جائحة «كورونا»، فإن هناك حقائق جديدة تتبدّى في الأفق، من دون أن تستبين ملامحها كاملةً، وعالماً جديداً يوشك أن يعلن عن نفسه. والتغييرات المتوقّعة في بنية النظام العالمي ستنعكس بالضرورة علينا هنا في مصر.
لا شيء سوف يحدث بين يوم وليلة، فقد استغرقت نتائج الحرب العالمية الثانية أكثر من عشر سنوات، حتى تبدّت حقائقها ومعادلاتها وموازين القوى التي تحكمها، وتحدّدت قواعد الاشتباك في النظام العالمي الجديد.
شيء من ذلك سوف يحدث، بتأثير مباشر من الصراع المحتدم مع «كورونا» المستجد، فالوباء هذه المرة في واجهة التغيير لا في خلفيته الاجتماعية والسياسية.
إذا لم نستخلص مبكّراً الدروس الحقيقية، ننظر في المرآة ونصوّب الأخطاء، نخفّض الاحتقانات السياسية والاجتماعية بقدر ما هو ممكن، نُعلي من شأن التعليم والصحة ونُقلّم أظفار الرأسماليات المتوحّشة، فسوف نتلقّى ضربات غير محتملة في عالم ما بعد «كورونا».
* كاتب وصحافي مصري