مسكينة تلك «العولمة» التي تتلقّى الصدمة بعد الصدمة. لم تُشفَ جراحُها من خنجر «الشعبوية» حتى يأتي سكين الفيروس ليمزّق كل قواعدها الأساس التي قامت عليها، بعدما اختفت حرية النقل والسفر وأغلقت الأسواق أبوابها، فيما تتراجع قيمها المؤسِّسة، لتعود «الدولة» الوطنية محاولةً البروز من جديد لاستعادة الدور القديم، في محاولة للحفاظ على ما تبقّى من دورها في مواجهة الأزمات المستعصية. بالمقابل، يتصاعد تيار النزعة الانعزالية والعنصرية بالتوازي مع تصاعد الهوية في الهندسة الاجتماعية.ومع كل أزمة تتلقّاها المدوّرة، يتحرّك الميكانيزم الذهني ليفضّ بكارة الأفكار والنظريات الرئيسية في عالم اليوم، في محاولةٍ لمحاكمة الأفكار على مشرط تلك الأزمات، في استنطاق أبجدياتها لتحليل واقع العالم المعاصر، أو محاولة الذهاب لقراءة تلك الأفكار بواقع جديد، نصرة للعقل المؤدلج تجاه فكرة أو نظرية لعالم ما، وإن كان في سياق رومانسية سياسية في المسرح الدولي.
وحينما نسعى إلى فهم كلّ فعل إنساني في سياق متعدّد الجوانب، سواء أكان نفسياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم اقتصادياً، للبحث عن رؤية إحاطية تحاول الحصول على تفسيرات أقرب للواقع، فإنه لا يكفي فقط الحصول على إطار الصورة الشاملة، بل كيف رُسمت، وما هي الظروف التي صُنعت منها لوحة، وكما يقول مؤسس الواقعية في علم السياسة نيقولا ميكافيللي Nicolas Machiavelli إن «مصوّري المناظر الطبيعية، ينزلون إلى الوديان ليتمكّنوا من رسم الجبال ثم إنهم يصعدون بعد ذلك إلى أماكن مرتفعة حتى يتمكنوا من رؤية السهول والوديان»، وربما بهذا المنهج يمكن التعرّف إلى فاعلية الأفكار والنظريات أو محاكمتها المنصفة.
وكما كان يرى أرسطو، فإن المعتقدات البشرية بخصوص الصواب والخطأ، كانت ترتكز على الطبيعة البشرية ذاتها، لكن من الظلم اختصار بعض المفكّرين والفلاسفة في فكرة وحيدة، سواء أكانت تلك الفكرة مشهورة أم انتقائية، يجب أن نتخلّص من الانتقائية في الطرح الفكري الإنساني، فكارل ماركس وفريديريك أنجلز لا يمثلان فقط دياليكتيك التاريخ، ولا ميكافيللي كلّ فكره كان في عبارة «الغاية تبرّر الوسيلة»، ولا هيغل اقتصر على فكرة المثالية، ولا إيمانويل كانت، لخّصت فكرة «السلام العالمي» كل أفكاره، ولا فوكوياما يرتكز كلّ فكره على نهاية التاريخ، ولا هنتغتون على صدام الحضارات، وغيرهم من المفكرين حيث تشكل هذه الأفكار المشهورة، أو المثيرة للجدل، عبارة عن خزانة صغيرة في غرفة ملابس قصور فكر هؤلاء.
لكن مع كل هزّة جيوسياسية يتعرّض لها العالم، تتعرّض عربة الأفكار إلى مطبّات ثورة من النقد السياسي، سواء أكان النقد هدّاماً أم إيجابياً، وكلّ هذا يأتي مع سطوة الأيديولوجيا والتوظيف السياسي للأفكار، وهيمنة الحرس القديم في المعبد، والجهل بالتاريخ، والتعليم التلقيني، ما يصعّب أن نصنع مفهوم النقد السياسي الحرّ بشكله الأمثل.
نعم، من الصعوبة دفن الأيديولوجيات في مقابر الأفكار، لكن تخلق لحظة الاهتزاز مثل لحظة «كورونا» خطوات إسعافية سريعة تقوم بها الدولة. بالمقابل، تخلق حراكاً ثقافياً للنقاش حول المتغيّرات التي تصاحب تلك اللحظة على مستوى «الإنسان، الدولة، المجتمع»، ولهذا يعاد النقاش اليوم حول نظريات صموئيل هنتنغتون ـــ (صعود كتاب صدام الحضارات إلى قائمة الكتب العشرة الأوائل في نيويورك تايمز آنذاك)، وفرانسيس فوكوياما ـــ «نهاية التاريخ» ـــ كلّما كان هناك صدام أو عمل إرهابي أو حدث عالمي كبير.
أتذكر مع أحداث 11 أيلول 2001، قال أنصار نظرية هنتغتون بأنها انتصرت، وأصبح الصدام الغربي ــــ الشرق أوسطي حقيقة واقعة، عبر ما يُسمى بالحرب على الإرهاب. وقال هنتغتون بصريح العبارة، إن الدول القومية ستبقى الأطراف الأقوى في العلاقات الدولية، غير أنّ الصراعات ستتم بين أمم وجماعات من حضارات مختلفة، أي أنّ التخوم الحضارية سوف تكون تخوماً دموية.
لكن مع كل تقارب بين الصين والغرب، قال آخرون لقد فشلت النظرية، وكانت القرية العالمية التي بشّرت بها العولمة قد رأى فيها هنتغتون فرصة حاسمة للاحتكاك والتنافس بين حضارات تلك القرية بحثاً عن ذاتها، وأن جعل التعاون الصيني ـــ الأوروبي في مواجهة الفيروس هو فشل لهذا الصدام الذي بشّرت به النظرية، فضلاً عن أن أصل ما يروَّج بأن فيروس «كورونا»، هو نتاج هذا الصدام بهوية ثقافية جديدة، وأن انتشاره كان بسبب العولمة، الناقل الرئيس نتيجة لحرية السفر، أو بخصوص ما طرحه تحت عنوان الموجة الثالثة للديمقراطية، وكيف أصبحت هذه الموجة في عالم اليوم تقف متباطئة أمام عوائق عديدة.
سيكون هناك جدلٌ حول من سوف ينتصر أمام الفيروس... الدول الأوتوقراطية أم الديمقراطية؟ وهكذا، سيكون أسهل ردّ هو التذرّع بحجّة هنتغتون التي يريد الكثيرون قتلها، ولكن لا يمكنهم ذلك عبر فكرة صدام حضارات. من خلال نظرة سريعة، سنجد أنّ بلدان حافة المحيط الهادئ في سنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية واليابان، حقّقت أكبر نجاح في المواجهة مقارنة مع دول الحضارة الغربية، مثل الولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا.
لكن ما قدّمه هنتغتون من استشراف لا يقلّ عن صدام الحضارات في بقية كتبه، ففي عام 2004 يقول صموئيل هنتغتون في كتابه Who Are We إنّ «تفتّت الهوية الأنكلوسكسونية في الولايات المتحدة الأميركية قد يولّد حركة من الواسب WASP البيض لإحياء المفاهيم والعرقية للهوية التي قد ضعفت أو تراجعت). وفي عام 2017، أصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، بالاعتماد على نظرية الـ«واسب» الأبيض (الـ«واسب»، طبقة البيض الأميركيين المزيج بين البروتستانت الأنكلوسكسوني).
كذلك، ما يحصل في عالم اليوم، فهناك الكثيرون ممّن يرون فشل نظرية فوكوياما في نهاية التاريخ، بعد أزمة الفيروس، ومفادها أنّ الصين اليوم تقدّم نموذجاً ناجحاً، وهو بعيد عن الليبرالية الغربية في مواجهة «كورونا»، بعكس ما تعاني منه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اليوم. ولهذا، عدّ البعض ذلك، نهاية النظام الليبرالي الذي نادى به فوكوياما وغيره، معتبرين أنّ الفرحة قد حلّت على ماركس في قبره. وباعتقادي، أنّ هذا تجافٍ للحقيقة، فلن يسقط النظام الليبرالي بكل سهولة، ولا يعني ذلك أنّ هذا نجاح للقيم الاشتراكية في السلوك الصيني، بل هو نابعٌ من هفوات اهتزازية يتعرّض لها النظام. في المقابل، تعيش العولمة الليبرالية على جهاز الإنعاش، وهذا باعتراف المدرسة الفكرية الليبرالية سواء من اليمين أو اليسار، ولا سيما أنها قد تحوّلت إلى شكل بشع من نظام السوق المفتوحة، وغولٍ لم يُبق على الجوانب الحية للفكرة الإنسانية.
نعم، نظام العالم الليبرالي بحاجة إلى مراجعة، كما يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس بأن الديمقراطية لا تمثل وصفة نهائية لحلّ جميع المشكلات، وليست فكرة عقلانية مطلقة. وهذا ما ينطبق أيضاً على فكرة نهاية التاريخ، التي في الأصل قد استُخدمت لأول مرة من قبل الفيلسوف الألماني هيغل، الذي بنى أفكاره عبر بوابة فهم التاريخ، وحيث يرى بأنه لا يمكن فهم المؤسسات البشرية من دون فهم تطوّرها على مرّ سجل التاريخ.
في المقابل، يقدّم الفكر اليساري نجاحه، عبر نجاح نموذج السلطوية التي نجحت في كبح مواجهة التحديات. يأتي ذلك فيما تفشل الدول القائمة على نظام الديمقراطية الليبرالية عن احتواء الأزمات، وحماية شعوبها، بطرق فعّالة، كما حصل اليوم في أزمة «كورونا». لكن لا يُعد ذلك انتصاراً للفكر الشيوعي، بل نابعٌ من مراجعة الهوية الصينية الجديدة، الممزوجة بين الهوية الكنفوشوسية والبراغماتية في مواجهة تلك التحديات الخارجية، وتقديمها كأنموذج خاص بها. وهذا لا يعني عدم صحة رؤية ماركس للأخطاء الكبرى في النظام الرأسمالي، فكما كان يرى أنّ قيام حكومة ديمقراطية في مجتمع رأسمالي هو أمر مستبعد، لأنّ هذه الديمقراطية تركز على البنى العليا للدولة من دون تحويل المجتمع ذاته. ولهذا فحين تتعامل الدولة مع الناس تحت شعارات الحريات الفردية وحق التملّك، ستكون النتيجة منحازة حيث لا مهرب من انحياز الدولة ووجود سطوة للملّاكين. ووفق قاعدة ماركس، فإنّ الرأسمالي يستغل فائض القيمة في التوسّع، عبر شراء المعدّات والمصانع لتكون بديلاً عن العامل. ولهذا، وفق وجهة نظره سوف يعاني النظام الرأسمالي المعاصر من مشكلة خطيرة ومتفاقمة، ألا وهي ارتفاع نسبة البطالة، وهذا ما يحصل في عالم اليوم وفق استشراف ماركس، فضلاً عن تزايد رأس المال بيد قلّة من النخبة في المجتمع. ولكن بالمقابل، ثمة خلل يواجه أدبيات اليسار في عالمنا المعاصر، للتعاطي مع الديمقراطية الاشتراكية، فضلاً عن أنّ النظام الرأسمالي، بشكل عام، ساهم في تطوّر العالم شاء أم أبى من أنصار اليسار.
انكفاء العولمة والعزلة الإجبارية وغلق الأبواب وانفجار الثقافات الفرعية قد تغيّر موازين القوة، لمدة ليست بالقصيرة


لم تكن فكرة نهاية التاريخ هي الفكرة الوحيدة لفوكوياما، فقد أجاد في أكثر من مؤلَّف واضعاً أفكاراً أكثر أهمية، ومنها ما كتبه في كتابه «مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية»، الذي يستشرف فيه بزوغ فجر الإرهاب البيولوجي مشكلاً تهديداً حياً، ويشير إلى الحاجة إلى تحكّم سياسي أكبر في استخدامات العلم والتقنية. كما أنّ أعظم التحديات التي فتحتها التقنية الحيوية، ليست تلك التي تلوح في الأفق أمامنا الآن، بل تلك التي سوف تظهر بعد عقد أو جيل أو أكثر، وما يهمّنا معرفته كما يرى فوكوياما أن ذلك التحدّي ليس مجرّد تحدٍّ أخلاقي بل أيضاً تحدٍّ سياسي، فقد أمسينا على وشك الولوج إلى مستقبل بعد بشري، ستمنحنا فيه التقنية القدرة على تعديل جوهر البشر تعديلاً تدريجياً بمرور الزمن. ويتنبّأ فوكوياما بأنّ العالم ما بعد البشري قد يصير عالمياً سلطوياً وتنافسياً، أكثر ممّا هو عليه الآن، وغيرها من الأفكار المهمة جداً، وإن تراجع عن بعضها فهذا سياق طبيعي، فالأرصفة في الشارع هي الوحيدة التي لا تغيّر رأيها، ولهذا عاد يؤكد أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أنّ العلم متطوّر ومزدهر.
وفق رؤية فوكوياما، فإنه علينا تجاهل التقسيمات الثنائية البسيطة، من حيث إنّ الخط الفاصل الرئيسي في الاستجابة الفعّالة للأزمات لن يضع الأنظمة الاستبدادية من جهة والديمقراطيات من جهة أخرى، بل وفق نظره سوف يكون هناك بعض الأنظمة الاستبدادية العالية الأداء، بعضها مع أنظمة ذات نتائج كارثية، وسيكون هناك تباين مماثل له مع الدول الديمقراطية، حيث لن يكون المحدّد الحاسم في الأداء هو نوع النظام، ولكن قدرة الدولة وقبل كل شيء عامل الثقة في الحكومة، حيث إنّ الثقة هي السلعة الوحيدة الأكثر أهمية التي ستحدّد مصير المجتمع، كما يرى فوكوياما، ويعتبر أنّ الثقة مفقودة حالياً في الولايات المتحدة الأميركية.
فالمراجعة لا تعني التراجع، وكما يذهب أرنولد توينبي بأن الأمم التي تنتهي بالوقوع في أخطاء قاتلة لم يكن يتم التعامل معها بنوع من العقلانية، فكان الحل الشائع هو تجاهل هذه المشكلات عسى أن يتم الحل من السماء، لكن المشاكل تتفاقم وتنتهي بانهيار هذه الأمم.
وهكذا، ففي نهاية الإنتاج الواسع، سيكون هناك حيز ثقافي متشظٍّ ومتنوع بدلاً من ثقافة وحيدة وسائدة. ومن المؤكد أن بعد الخروج من هذه الأزمة، سيكون هناك رابحون وخاسرون في ظل توظيف هذا الوباء في البورصة السياسية، سواء أكان العمل على بناء نظام دولي جديد، أم صيرورة علاقات دولية جديدة ترسم معالم العالم بعد هذا الوباء. لكن هذا الأمر بحاجة إلى وقت طويل ليصبح هذا التحوّل ممكناً، لأنه يفكّك تحالفات ويصنع تحالفات، بينما أنصار الرأسمالية سيظلّون ينكرون هذا التحوّل، كما شكّل جدار برلين أزمة تحوّل في الوعي اليساري. ولكن الحقيقة، أنّ هذا العالم الجديد قد يولد من رحم خضم متسارع يعلو على الأيديولوجية، بحثاً عن مشروع بشري يعيد للأرض وضعها الفطري، سواء بالقوة أو بالنظريات في عالم ما بعد الإنسانية.
ويجب على ريتشارد هاس Richard N. Haass أن يضيف «كورونا» كفاعل دولي جديد، ضمن قائمة الفواعل من غير الدول Non state actors مع الفرد والمنظمات الحكومية والشركات العابرة للقارات والإعلام والإرهاب، باعتباره سيشكل عنصراً حاسماً في رسم متغيّرات العلاقات الدولية، وإن كان الفاعل الجديد مزّق سحر النيوبرالية.
انكفاء العولمة والعزلة الإجبارية، وغلق الأبواب وانفجار الثقافات الفرعية، قد تغيّر موازين القوة، لمدة ليست بالقصيرة. يصاحب هذا التحوّل ترجمة قد تصنعها مراكز التفكير المقرّبة لتلك التحولات، كما أنه ليس من السهل تغيير تكنولوجيا المستهلك لصناعة قناعة شرقية بإمكانية تغيير المقبولية العالمية، فضلاً عن الهرمية المجتمعية التي تبحث عن رابح وخاسر في اللعبة الصفرية التي سوف يكون فيها الإنسان «الخاسر الأكبر»، وما زالت خاصية الاستشعار صعبة في أن تتحوّل إلى لعبة «رابح ـــ رابح» في التعاون الدولي، في ظل عقم «الدولة» بفعل سياسات العولمة، جعلتها أقرب إلى أداة غير قادرة على المجابهة والسيطرة في خضمّ حرب عالمية رابعة هي الأخطر، بعد حربين محدودتين جغرافياً، وثالثة واسعة «الإرهاب»، وحرب رابعة أخطر مؤثرة على الحياة والعدم، بل على أنماط الاجتماع الإنساني. وسيعود الفرد بعد دوامة الرعب، ربما إلى تجديد عقده الاجتماعي، بعد فرط صورة الحداثة الجديدة على ساطور الثقة بالنظام الحالي.
كان يتمّ توصيف العولمة نوعاً من الرياضة، فهي أشبه بسباق المئة متر المستمر مراراً وتكراراً، لكن لا يهم عدد المرات التي تفوز فيها، وإنما عليك الاشتراك في سباق اليوم التالي، أما إذا خسرت بواقع واحد على مئة من الثانية، فإن الخسارة ستكون وكأنها بواقع ساعة، كما يصفها الصحافي الأميركي توماس فريدمان Thomas Friedman، وقد ميّز ثلاثة عصور من العولمة:
ــ العصر الأول من 1492 إلى 1800: هذه الحقبة بدأت عندما أبحر كريستوفر كولومبس، فاتحاً باب التجارة بين العالم القديم والعالم الجديد.
ــ العصر الثاني من 1800 إلى عام 2000: وهذه المدة قد شهدت مرحلة الكساد العظيم، والحربين العالميتين الأولى والثانية، وكان العامل الرئيس للتغيير هو الشركات الدولية.
ــ العصر الثالث بدأ من عام 2000: حيث تعمل العولمة على تقليص العالم من حجم صغير الى حجم صغير جداً، وتسطح ساحة اللعب في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي يعطيها شخصيتها الفريدة عبر القوة الجديدة للأفراد على التعاون والتنافس عالمياً، عبر تمكين الأفراد والمجموعات من دخول السوق العالمية بسهولة وسلاسة. ويجب على الفرد الآن، ويمكنه، أن يسأل، أين أنا في المنافسة العالمية وفرص اليوم، وكيف يمكنني بمفردي أن أتعاون مع الآخرين عالمياً؟.
التغيير حاسم وفق وجهة نظري، وإن كان ذلك لا يعني الثورة الشاملة على المفاهيم الحالية للنظام. وقد ترتدي العولمة لباساً جديداً يحافظ على صورة ما تبقّى، وتستبدل الشركات العابرة للقارات أسماءها لتعويض رصيد الثقة بسبب الحرب مع الكائن المجهري.
هذه العولمة الجديدة سوف ترتكز ربما على الإنسان وليس على السوق، على الفرد وليس على البضاعة، على المجتمع وليس على البنوك، عولمة تعيد تفكير الإنسان بالكون والحياة والموت، وربما سيكون الشكل الرابع للعولمة الجديدة وفق وجهة نظري.
عموماً، فإن التعجيل بالنقد الأيديولوجي للجسم النظري يولّد الأفكار السريعة للحظات الصادمة، وأنا على يقين، سيبقى يرى الأنصار بأن ماركس يفرح في قبره بانتظار فكرة المجتمع الشيوعي اليوتيوبي، وإن اعترف البعض بشيخوخة الماركسية بحتمية الطبيعة، والليبرالية بانتظار انتصار الرأسمالية، وهي نهاية التاريخ أو موجتها الجديدة القادرة على التطوّر، وفق كلّ مرحلة لحتمية التاريخ. وهكذا، فإن قصة المراجعة لن تنتهي بحثاً عن الجنة، أو كما يقول نيتشه: «حتى أكثر حبات البندق خواء تود أن تكسر».

* دبلوماسي عراقي وباحث أكاديمي