في الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة السورية، حقّق النظام انتصاراً عسكرياً إضافياً نوعياً سيعزّز قوته في الداخل السوري، وبالتالي موقفه في أي مفاوضات مقبلة. فهو سيطر على مدينة يبرود وأحكم بذلك سيطرته شبه الكاملة على جبال القلمون الاستراتيجية. فمنذ أشهر عديدة، كانت هذه المدينة الواقعة غرب الطريق الرئيسي الذي يربط دمشق بحمص، وشرق الحدود اللبنانية _ السورية تتصدّر عناوين الأحداث في سوريا.
وكان السؤال الأساسي للمتابعين العارفين بالأزمة في سوريا وبخاصة للجغرافيا السورية: متى ستسقط يبرود؟ كون سقوط المدينة بأيدي قوات النظام المدعومة بعناصر من حزب الله كان متوّقعاً، لا بل حتمياً، للأسباب الآتية:
أولاً، إنّ قوات المعارضة المتمركزة في يبرود كانت شبه معزولة منذ سقوط مدينة القُصير بيد الجيش السوري النظامي ومقاتلي حزب الله، وبعد إحكام هؤلاء السيطرة على مدينة حمص، باستثناء قلب المدينة التاريخي المحاصَر.
ثانياً، منذ أشهر أحكم الجيش السوري وحزب الله الطوق على مدينة يبرود من الجهتين الشمالية والشرقية باستعادته السيطرة على مدن قارة ودير عطية والنّبَك الواقعة على طرفي طريق دمشق _ حمص. وبالتالي فالمدينة أصبحت ساقطة عسكرياً، ولم يعد لها منفذ سوى باتجاه الحدود اللبنانية _ السورية نحو بلدة عرسال، التي هي بدورها تعاني نوعاً من الحصار في لبنان.
ثالثاً، إن فصائل المعارضة التي كانت تتحصّن في يبرود لم تكن موحّدة في قيادة واحدة كما هي حال الجيش النظامي وقوات حزب الله. فإذا كانت «جبهة النصرة» هي الفصيل الأساسي في المعركة، كان هناك إلى جانبها فصائل أخرى لا تأتمر بغرفة العمليات ذاتها. وقد ظهر ذلك جلياً في البيان الذي أصدرته الجبهة على أثر إعلان النظام سيطرته الكاملة على يبرود، إذ تساءل البيان منتقداً انسحاب باقي فصائل المعارضة: «فهل تم تسليم يبرود بالمجّان؟! أم تم شراؤها؟!».
رابعاً، نقول إنّ سقوط يبرود كان حتمياً نظراً إلى عدم تكافؤ القوى العسكري لصالح النظام. فهذا الأخير يتفوّق عسكرياً بشكل كبير من حيث قوّة النيران (الطيران والمدفعية الثقيلة والراجمات والدبابات) والاحتراف العسكري لدى كتائبه ومجموعات حزب الله. أما تفوّق فصائل المعارضة بالعديد الذي كان يعوّض في بعض المعارك عدم احترافها، فقد فقدته بعد محاصرتها في يبرود.
بعد هذا الإنجاز العسكري الاستراتيجي للنظام، أصبح السؤال الأساسي: ماذا بعد يبرود؟ في السابق قيل إنّ ما قبل القُصير غير ما بعدها. واليوم يمكن القول، أيضاً، إنّ ما قبل يبرود سيختلف عما بعدها على مستويات عدة:
أولاً، على المستوى الاستراتيجي العسكري، يسيطر النظام على كل منطقة القلمون، وبالتالي على كامل محافظة ريف دمشق. ويكون بذلك قد أبعد الخطر عن العاصمة الذي كان داهماً منذ أشهر، ما اضطره في أيلول 2013 إلى استعمال السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية لإبعاده. وبالمناسبة فهو دفع بالخطر نحو مدينة عرسال اللبنانية بتركه المجال لمقاتلي المعارضة للانسحاب غرباً باتجاه جرود عرسال.
ثانياً، بسيطرته على مدينة يبرود يكون النظام قد أحكم سيطرته العسكرية على حوالى 70 في المئة من «الجغرافيا السورية الأساسية»، التي يعيش فيها حوالى 80 في المئة من السكان (قبل التهجير والنزوح). فسيطرة قوات النظام تمتدّ اليوم من أقصى الجنوب حتى الوسط، فالساحل، مروراً بالعاصمة. ولم يبقَ له سوى حلب في الشمال حيث يسيطر على قسم كبير من المدينة، وبعض المدن في محافظة إدلب الحدودية مع تركيا (إذا ما استثنينا المناطق الشرقية والشرقية الشمالية الواسعة التي ليست أولوية بالنسبة للنظام اليوم بسبب الكثافة السكانية الضئيلة والغالبية الكردية). فهل سيتابع النظام معاركه العسكرية للسيطرة عليهما؟ لا نعتقد أنّ استغلال النصر العسكري في يبرود سيكون عسكرياً في حلب، وإنما سياسياً في دمشق وذلك لأسباب عسكرية وسياسية هي الآتية:
على المستوى العسكري، سيعطي النظام فترة راحة لقواته العسكرية التي تخوض منذ ثلاث سنوات تقريباً كل أنواع المعارك على مساحة الجغرافيا السورية الواسعة. كما أن مجموعات حزب الله الداعمة له، هي أيضاً، بحاجة إلى فترة راحة بعد سنة ونصف من القتال في معارك شرسة على أرض غالبيتها ليست صديقة لها وفي قتال يختلف بأسلوبه عن الذي خاضته ضد إسرائيل في الجنوب اللبناني. كما أن الحزب بحاجة الى عدم إبراز مشاركته في القتال في سوريا من أجل تخفيف الضغط السياسي (المُعلن) والشعبي (غير المُعلن) عنه في الداخل اللبناني في المرحلة المقبلة التي ستشهد، مبدئياً، انتخابات رئاسة الجمهورية.
وسيستغلّ النظام هذه الفترة للتحضير لمعركة حلب، التي هي أصعب بكثير من معركتَي القصير ويبرود، لأسباب عسكرية وجغرافية وديموغرافية عدة، لا يسعنا تفصيلها في هذا المقال، علماً بأنه يسيطر على أجزاء استراتيجية من مدينة حلب، وهو كان قد أعاد تشغيل مطارها منذ بضعة أسابيع.
أما على المستوى السياسي، وهو الأهم، فإن النظام سيتفرّغ لمعركته الأساسية القادمة، ألا وهي رئاسة الجمهورية التي من المفترض أن تجرى في تموز المقبل. فقد أصبح شبه مؤكد أن الرئيس الأسد سيترشّح وسيكون المرشّح الأبرز. وقد أعطى النظام أكثر من إشارة الى هذه المسألة، كان آخرها ما أعلنه وزير الإعلام السوري عمران الزعبي «أنّ الشارع السوري سيضغط على الرئيس بشار الأسد ليرشّح نفسه لرئاسة الجمهورية». وما صرّح به نائب وزير الخارجية الدكتور فيصل المقداد بأن «ترشّح الرئيس السوري بشار الأسد للانتخابات الرئاسية القادمة هو ضمانة حقيقية لأمن واستقرار سوريا للمرحلة القادمة». وبالتالي سيعمد النظام الى تهدئة جبهات القتال لهذه الانتخابات التي لا يخوضها ضد مرشّح أو مرشّحي المعارضة، وإنما مع المجتمع الدولي. وتجدر الإشارة هنا الى أن الدستور السوري الجديد (الذي تم الاستفتاء حوله في بداية عام 2012) ترك مجالاً لاستمرار الرئيس الأسد في السلطة حتى ما بعد انتهاء ولايته. إذ تنص الفقرة الثانية من المادة 87: «إذا انتهت ولاية رئيس الجمهورية ولم يتم انتخاب رئيس جديد، يستمر رئيس الجمهورية القائم بممارسة مهامه حتى انتخاب الرئيس الجديد». كما يعطي هذا الدستور الأسد إمكانية الترشّح لأن المادة 88 لا تنطبق عليه. فهي تنص على أن إعادة انتخاب الرئيس لولاية واحدة «تبدأ من تاريخ انتهاء ولاية الرئيس القائم».
ولكن، ماذا عن موقف الدول المتصارعة على الساحة السورية؟ لا شك أن انتصار بوتين في معركة أوكرانيا، وانتصاره في استفتاء شبه جزيرة القرم الذي أتت نتيجته مطالبة الغالبية العظمى من السكان بالانضمام الى روسيا، سيجعلانه أكثر تشدّداً في سوريا، وربّما دعمه لترشّح الأسد للانتخابات الرئاسية تحت عنوان احترام إرادة الشعب السوري. وفي هذه الحال، لن يكون بمقدور الأميركيين المتردّدين في المسألة السورية، كما في غيرها من قضايا العالم، منع الأسد من الترشّح. أما الأوروبيون والدول الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية فهم سيستمرون بمطالبتهم بإسقاط الأسد، ولكن دون نتيجة في المدى المنظور.
فهل هذا يعني أنّ المجتمع الدولي الداعم للمعارضة سيقف متفرّجاً وعاجزاً أمام المعركة السياسية المقبلة في سوريا؟ بالطبع كلا. فهو سيستعمل سلاح «عدم الاعتراف الدولي» بنتائج الانتخابات. ولكنه سلاح غير فعّال في المدى القريب، وخاصة أنّ روسيا والصين، وبعض الدول الإقليمية، أبرزها إيران، ستعترف بنتائج الانتخاب.
من هنا، ما يجب أن يشغل المتابعين للشأن السوري والمعنيين به من الآن وصاعداً، ليس التحليلات العسكرية حول الأهمية الاستراتيجية ليبرود ومنطقة القلمون، بل ماذا بعد يبرود؟!
* أستاذ جامعي