قبل نصف قرن، حذّر برتراند راسل وألبرت آينشتاين، من أننا نواجه خياراً «صارماً ومميتاً لا مفرّ منه يتمثّل في السؤال التالي: هل يجب علينا القضاء على البشريّة أم على البشريّة التخلّي عن الحروب؟». ما زال هذا السؤال ملحاً، الآن، مع إضافة مخاطر الكوارث البيئيّة والتلوث والأوبئة والأمراض، وقد عرفنا منها «إيبولا»، «جنون البقر»، «إنفلونزا الخنازير»، «إنفلونزا الطيور»، «كورونا» وغيرها. ومع انتشار نظام العولمة الذي فرض التكنولوجيا وأنظمة الفساد والرأسمالية المتوحّشة، توسّعت الهوة والفوارق بين الطبقات وبين الدول الغنية والدول الفقيرة، ما وضع العالم أمام تحديات مصيرية كبرى. ولأنّ «المصيبة تجمع»، تجتمع اليوم الدول الفقيرة والدول الغنية لمواجهة تحديات صعبة، ما يطرح سؤالاً حول استمرار الجنس الإنساني نفسه. وهذه المصاعب الوجودية هي كوارث إنسانية وطبيعية وبيئية، نجمت عن سياسة الإنسان تجاه نفسه وتجاه الطبيعة.
اليوم، يقف البشر أمام أهم تحدٍّ في وجود الإنسانية، وهو تحدي البقاء. فمع التغيّرات المناخية الضخمة التي أدّت إلى مشاكل بيئية لا تُعد ولا تحصى، ومع المشاكل الاقتصادية التي يغرق فيها العالم أجمع، وخصوصاً بعد ارتفاع أسعار النفط والغذاء العالمي وانتشار المجاعة في عدد من دول العالم، هل يمكن للإنسان أن يواجه هذه الأخطار، ويبقى على وجه هذه الأرض... أم سيزول؟
ربما يرى البعض في هذا السؤال ضرباً من الخيال، ولكنّه مبني على وقائع وأحداث تهدّد وجود الطبيعة البشرية والكائنات الحية على هذه الأرض. منها:

التغيّرات المناخية
تميّزت ظاهرة التغيّرات المناخية عن معظم المشكلات البيئية الأخرى، بأنها عالمية الطابع، بحيث إنّها تعدّت حدود الدول لتشكل خطورة على العالم أجمع. وقد تمّ التأكد من الازدياد المطّرد في درجات حرارة الهواء السطحي على الكرة الأرضية ككل، بحيث ازداد المتوسط العالمي بمعدل يتراوح من 0،3 حتى 0،6 درجة خلال المئة عام الماضية. وقد أشارت دراسات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغيرات المناخية (IPCC) إلى أن هذا الارتفاع المستمر في المتوسط العالمي لدرجة الحرارة، سوف يؤدي إلى مشكلات خطيرة كارتفاع مستوى سطح البحر ما يهدّد بغرق بعض المناطق في العالم، وكذلك التأثير على الموارد المائية والإنتاج المحصولي، بالإضافة إلى انتشار بعض الأمراض.
وباء «كورونا» سيغيّر العلاقات والمفاهيم والأفكار السائدة في العالم، لكن هل سيغيّر الإنسان سلوكه ووعيه وأولوياته وقيمه؟


من جهة أخرى، أفادت دراسة علمية بأن التغيرات المناخية قد تؤدي إلى انقراض ملايين من الكائنات الحية بحلول عام 2050. وقد أوضح معدو الدراسة، التي نُشرت في دورية «نيتشر»، أنه بعد دراسة مطوّلة لست مناطق في العالم، تبيّن أن ربع الكائنات الحية التي تعيش في البر قد تنقرض، مشيرة إلى أن اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقليل نسبة الغازات المسبّبة لظاهرة الاحتباس الحراري، وعلى رأسها ثاني أوكسيد الكربون، قد ينقذ العديد من أنواع الكائنات الحية من الاندثار.
من جانبها، أكدت الأمم المتحدة أنّ تلك الظاهرة الخطيرة تهدّد ملايين البشر الذين يعتمدون على الطبيعة للبقاء على قيد الحياة.

ذوبان الثلوج
يبدو أن جليد القطب الشمالي لا يذوب فقط، بل إنه دخل مرحلة الذوبان العظيم، ما يترك تأثيراً خطيراً على العالم كله، ولا بد أن يشغل بال الجميع من الطامعين بالثروات الدفينة إلى الذين لا يعنيهم ما يجري في القطب الشمالي، لأنّ العواقب ستكون كارثية على العالم.
وفي هذا السياق، يقول العلماء إنه في العقود الأخيرة بدأ ذوبان جليد في الصيف يتسارع إلى حد مقلق جداً. والمتفائلون من العلماء يخشون أن يختفي الجليد من القطب كلياً، ابتداء من عام 2020.
إن السبب الرئيس الذي يُجمع عليه العلماء لهذا الذوبان هو ارتفاع حرارة الأرض، أي التغير المناخي الذي يتسبب به النشاط البشري والناتج أساساً من انبعاث غازات تحصل بوتيرة متسارعة جداً تهدّد مستويات الحياة على الأرض كلّها.

الرأسمالية ودورها
يحذر الكثير من المحلّلين من أن الأزمة المالية العالمية الراهنة قد لا تشبه تماماً الأزمات السابقة.
في أواسط القرن الماضي، تنبّأ العديد من الاقتصاديين بأن المستهلكين لن يستطيعوا استيعاب السلع الكثيفة التي تفرزها أدوات إنتاج رأسمالية متطورة. فإذا بالرأسمالية تفاجئهم بإنتاج الرغبات قبل السلع. فهي لم تعط المستهلكين ما يريدون، بل جعلتهم يريدون ما تعطيهم. وهذا كان انقلاباً هائلاً لا مثيل له في التاريخ.
ثم في أوائل التسعينات، ومع بروز العولمة كنظام حياة وإيديولوجيا (برغم أنها ليست شيئاً آخر غير الرأسمالية العالمية بحلّة جديدة)، سرت المقولة بأن الثورة الاجتماعية العالمية آتية بسبب الفروقات الهائلة بين أغنياء وفقراء. الفروقات حدثت، لكن الثورة لم تقع. بدلاً منها، نشأت مراكز رأسمالية ضخمة جديدة في الصين والهند، ستؤسّس لاحقاً لما قد يثبت أنه أكبر تجمّع للطبقات الوسطى في كل الحضارات البشرية.

الجوع من آثارها
في عام 1996، اتفقت «قمة الغذاء» في روما بتصديق 185 دولة من دول العالم، على خفض نسبة جائعي العالم إلى النصف بحلول عام 2015. إلا أنّ هذا الاتفاق واجه صعوبات جمّة في التنفيذ.
يمكن تقسيم جائعي العالم إلى قسمين:
الأول: الجياع غير القادرين على الحصول على الغذاء رغم توفره، إما بسبب عدم توفر القدرة الشرائية (الفقر)، أو بسبب التواجد في أماكن منعزلة جداً.
الثاني: الجياع الذين لا تتوفر لديهم الأغذية من الأساس، وذلك ينطبق على الذين يعانون من المجاعات بسبب الجفاف.
والخطير أن آثار المجاعة ما عادت تقتصر على أفريقيا فقط، بل باتت مبعثرة في كل مكان حتى إنها طاولت بلداناً تُعد من البلدان غير الفقيرة نسبياً، كالمكسيك والفيليبين.

الأزمة الاقتصادية العالمية
في ما يتعلق بالأزمة الاقتصادية الراهنة ، تشهد الولايات المتحدة ـــــ القوة العالمية العظمى ـــــ أزمة مالية عنيفة انتقلت عدواها إلى الأسواق المالية لمختلف الدول، وبات علاجها عسيراً. ولم تعد الأزمة الأميركية الحالية جزئية تقتصر على العقارات، بل أصبحت شاملة تؤثر مباشرة على الاستهلاك الفردي الذي يشكل ثلاثة أرباع الاقتصاد الأميركي، وهو بالتالي الأساس الذي ترتكز عليه حسابات معدلات النمو.
ولا تأتي الأزمات المالية من فراغ، بل تتفاعل مع الوضع الاقتصادي الأميركي الكلّي، الذي يعاني من مشاكل خطيرة، في مقدمتها عجز الميزانية واختلال الميزان التجاري وتفاقم المديونية الخاصة والعامة، إضافة إلى الارتفاع المستمر لمؤشرات البطالة والتضخّم والفقر. هذا بالإضافة إلى تداعيات انهيار قيمة العقارات التي أدّت بعد انفجار الفقاعة العقارية إلى تراجع الاستهلاك اليومي وبالتالي إلى ظهور ملامح الكساد.
هذه الأزمات العالمية المنتشرة في كل مكان، عدا عن الحروب والكوارث الطبيعية، تضع الإنسان أمام أسئلة كبيرة عليه أن يجيب عليها وأن يجد لها حلولاً سريعة، فقبل أن يجيب على سؤال: كيف نطوّر حياتنا؟ عليه أن يواجه سؤال: كيف نُبقي عليها؟
وباء «كورونا» سيغيّر العلاقات والمفاهيم والأفكار السائدة في العالم، لكن هل سيغيّر الإنسان سلوكه ووعيه وأولوياته وقيمه؟ التحديات والتحوّلات التي نواجهها، اليوم، سوف تعيد الاعتبار إلى الإنسان أولاً. كان حلمنا تغيير العالم، أصبح همّنا الأول المحافظة على العالم في بيئة نظيفة توفّر الصحة السليمة والتنمية المستدامة والأمان الوجودي. بعد وباء «كورونا»، سيكون مطلبنا الأول الحق في الحياة، وهو بقاء الإنسان على قيد الحياة، ومن ثم ندافع عن حقوقه... وجود الإنسان أولاً، ومن ثم نعمل من أجل تحسين هذا الوجود.

* كاتب وناشر لبناني