في أزمة صحية دولية تكاد تشلّ الحياة تحت الإقامة الجبرية، الكلمة الأولى للعلم والطب لتطويق ضربات وباء «كورونا» المستجد وخفض الكلفة الإنسانية والاقتصادية، غير أن المسؤولية السياسية تلاحقها كظلّها.يُقال، عادة، إنّ الحروب أخطر من أن تُترك للعسكريين وحدهم. نحن، الآن، أمام مشاهد حرب عالمية جديدة مروعة، من دون طلقة رصاص واحدة. العواصم والمدن الكبرى شبه خالية، منارات الحضارة أُطفئت، الاقتصادات الدولية تنكمش، وبعضها يقترب من حافة الانهيار، المستشفيات تعجز عن الوفاء بمهامها في إنقاذ مئات الآلاف من المصابين، شاحنات تحمل جثث الذين قضوا بأثر الوباء إلى المحارق، كما في إيطاليا، كأنه موت بلا وداع وربما بلا دموع، جفّت من فرط الهلع الجماعي.
ليس من شأن الأطباء وحدهم إدارة مثل هذه الحروب، هي شأنٌ عام يدخل ضمن المسؤولية السياسية للدول والنظم والمجتمعات.
حُسن إدارة الأزمة واتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة في مواقيتها الصحيحة، مدى جاهزية النظم الطبية، نسبة ما يخصّص للصحة والتعليم والبحث العلمي في الموازنات العامة، قدرة المؤسسات العامة على أداء المهام العاجلة من دون صخب أو ادّعاء، وتأكيد ثقة المجتمع في نفسه، وفي قدرته على مواجهة الوباء والانتصار عليه، كلّها أمور تدخل في المسؤولية السياسية.
ولكن بالتعريف، فإنّ المسؤولية السياسية غير التوظيف السياسي. في دولة كفرنسا، تعرّضت لضربات «كورونا» القاسية، ارتفعت شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون، ووصلت إلى أعلى معدلاتها منذ سنتين. وبقدر الجدية وروح المبادرة التي أبداها، وقدرة خطابه على الإقناع، استعاد ما فقده من رصيد في أزمتَي تظاهرات «السترات الصفراء» وإضرابات قانون التقاعد.
لم يكن الأمر على هذا النحو في بريطانيا، التي ارتبك رئيس وزرائها بوريس جونسون في إدارة الأزمة. تأخّرت إجراءاته عن مواقيتها الصحيحة، وكان خطابه الأول كارثياً حين طالب البريطانيين بالاستعداد لوداع أحبائهم، كأنها دعوة للفزع العام، من دون أن يقدِم على أية إجراءات مقنعة.
في الحالتَين، كان الاختبار سياسياً لا طبياً. قدر التضرّر الفرنسي من ضربات الوباء، أكبر ممّا حدث في بريطانيا، حتى الآن، غير أنّ الاضطلاع بالمسؤولية السياسية خفّف من قدر الغضب الشعبي.
في الحالة الأميركية، وصل التوظيف السياسي إلى أعلى مراحله وأسوأ تجلياته، كأن دونالد ترامب وجد في أزمة «كورونا» فرصة انتخابية سانحة لحصد ولاية ثانية، فراح يتحدث طوال الوقت بعلم وبغير علم، في ما يعرف وما لا يعرف. وبحسب ما كشفته الصحف الأميركية، فقد أبلغته استخبارات بلاده، مبكراً، بخطورة ما يحدث في الصين من تفش للوباء، وأنه قد ينتقل إلى مناطق أخرى في العالم، بينها الولايات المتحدة، لكنّه استخف بما تلقّاه من تقارير، واستهزأ علناً بأية مخاوف محتملة، الأمر الذي أوصل الولايات المتحدة إلى إعلان واشنطن ونيويورك وكاليفورنيا، مناطق كوارث موبوءة.
باليقين، فهو يتحمل المسؤولية السياسية عن تفشّي الوباء داخل أميركا، لكنّه بقدرة غير طبيعية وغير عادية على التوظيف السياسي، حاول أن يتصدر المشهد كأحد أبطال الحرب على الوباء. ومن هذا المنطلق، أعلن عن عقار لم يتم اختباره والتأكد من صلاحيته وفق القواعد العلمية المتبعة، وهو ما جرى نفيه في المؤتمر الصحافي نفسه. كان ذلك مهيناً، ومدعاة للسخرية من ساكن البيت الأبيض.
حاول ترامب أن يشتري شركة ألمانية تُجري تجارب متقدّمة، حتى يمكّنه ذلك من الادّعاء بأنّه الرجل الذي أنقذ الأميركيين من الوباء المستشري. وكانت تلك فضيحة مدوية.
دخل في مماحكات زائدة عن الحد، وبلا حيثيات جدية، مع الصين وإيران. فوصف الوباء بـ«الفيروس الصيني»، وكان ذلك سبباً لتعرّضه للانتقاد على أوسع نطاق دولي، على اعتبار أن الفيروس بلا جنسية. لكنّه عاد إلى تخفيف لهجته، قائلاً إنه غاضب من الصين «قليلاً»!
لم يكتفِ بذلك، فقد شدّد العقوبات على إيران، التي تتعرّض لضربات الوباء في بنية مجتمعها، من دون أن يتوقف عن إبداء الاستعداد الكلامي لمدّ يد العون نحوها. كان ذلك أقرب إلى مزيج سياسي، يحاول بألعاب الهواة أن يقتنص فرصة الوباء لإحكام الحصار على إيران، وربما توجيه ضربة عسكرية على ما دعا وزير الخارجية مايك بومبيو، في مداولات مسرّبة من داخل البيت الأبيض.
كان ذلك محض كلام في فضاء المؤتمرات الصحافية، إذ لم تمدّ الولايات المتحدة يد العون لحلفائها الغربيين في القارة الأوروبية المنكوبة، مثل إيطاليا الأكثر تضرراً من ضربات الوباء المميتة، بالقياس إلى الصين نفسها.
وللمفارقة، مدّت ثلاث دول من خارج المنظومة الغربية يد العون إلى إيطاليا المنكوبة، وهي:
1 ــــ الصين، التي نجحت في تطويق الوباء وأثبتت قدرتها الطبية والتكنولوجية والتنظيمية على اكتساب صفة الدولة العظمى، بادرت إلى إرسال خبراء وأطباء وأجهزة طبية ضرورية.
وهنا، تنطوي الفكرة على مسؤولية سياسية إنسانية، تعدّ من مؤهلات التقدم لتولّي مقعد القيادة الدولية، وهو ما تحاول الصين بكل الطرق عدم الوقوع في إغوائه حتى تستكمل عناصر قوتها الاقتصادية والعسكرية. لكنّ الحقائق سوف تفرض كلمتها بعد انقضاء الجائحة.
2 ــــ روسيا، التي تتعرّض بدورها لضربات الوباء، وجدت في نفسها الثقة الكافية لأن ترسل معدات وأدوية، ومختصين في مكافحة الأوبئة بزيّ عسكري. وهذه مسألة رمزية ربما كانت مقصودة، فالجيش الأحمر، الذي يُعتبر العدو التقليدي لدول «حلف شمال الأطلسي»، هو الآن المنقذ في مهمة إنسانية. وفي هذا السياق، كان لافتاً ما صرّحت به موسكو، عن أنّ الجسر الجوي الذي ربطها بمطارات إيطالية لا يرتبط، أو يرتهن برفع العقوبات عنها. وهكذا، صيغت بدبلوماسية بعض أهداف التقدّم الروسي، للعب دور إنساني في وقت محنة مشتركة. إنه نوع من الاستثمار السياسي المستقبلي ينطوي على بعد نظر.
3 ــــ كوبا بدت الأكثر لفتاً للأنظار في رحلات المساعدة إلى إيطاليا المنكوبة. أرسلت أكثر من 50 طبيباً متخصصاً، لديهم خبرات متراكمة في مكافحة الأوبئة في دول أفريقية ولاتينية، مثل «إيبولا». هؤلاء قالوا لدى هبوطهم في مطار إيطالي، وهم يحملون صور الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو وأعلام بلادهم: «نحن لسنا أبطالاً خارقين، بل أطباء ثوريون». كانت الرسالة الرمزية، أنّ كوبا المحاصرة نجحت في صياغة واحدة من أهم التجارب الطبية والعلمية في العالم، وأن ما أحرزته من تقدم طبي وعلمي ملكٌ للبشرية كلّها، وأنها ليست بوارد التخلّي عن الخيارات الرئيسية للثورة الكوبية، رغم رحيل قادتها الكبار.
اللافت في التجربة الإيطالية، قدر ما يستشعره الإيطاليون من مشاعر عزلة وإحباط بسبب تنكّر الحلفاء الغربيين لمعاناتهم المرعبة. وهذه المشاعر نفسها تنتاب مواطني إسبانيا، التي يضربها الوباء من دون أن تجد سنداً أوروبياً. هناك ما يشبه الانكشاف الكامل للاتحاد الأوروبي فلسفة وعملاً، فالحدود أُغلقت من دون تشاور، والإجراءات اتُّخذت على انفراد، ومستقبل الاتحاد بين قوسين كبيرين، حيث غابت المسؤولية السياسية المشتركة.
أما في الإقليم الذي نعيش فيه، فمن أسوأ مظاهر التوظيف السياسي، هو ما صدر في إسرائيل من قرارات لمواجهة الوباء، مصمَّمة على أساس تمييزي بين العرب واليهود. وهذه نظرة عنصرية أمام وباء، لا يفّرق بين البشر على أسس عرقية ودينية. وكان الأكثر سوءاً، توظيف رئيس حكومة تصريف الأعمال بنيامين نتنياهو الوباء، من أجل البقاء في منصبه. قال هذا الأخير إن إسرائيل تبدو كسفينة «تايتانيك» توشك على التحطّم والغرق، وكأنّه يريد أن يقول إنها تحتاج له رغم تكليف خصمه بيني غانتس بتشكيل الحكومة الجديدة. بالتالي، يناور ويعرض فكرة الحكومة الوطنية، التي تتطلّبها مواجهة الوباء شرط أن يترأسها هو. هذا نوع من التوظيف السياسي، بذيء في أسبابه ومنطقه.
المسؤولية السياسية قضية أخرى نحتاج إلى أسبابها ومقوّماتها في مصر. نحتاج إلى تعبئة مجمل طاقات الدولة والمجتمع، لمكافحة الوباء وتخفيض أضراره، واستقطاب ثقة الرأي العام بالشفافية والمعلومات الحقيقية لا بإعلام الصوت الواحد. ويجب تصحيح السياسات والأولويات، ورفع المظالم السياسية والاجتماعية بقدر الإمكان، والاستفادة من كل الكفاءات المعطَّلة، حتى يحتفظ البلد بقدرته على التحدّي والصمود، والخروج بعد الأزمة أكثر ثقة بنفسه ومستقبله.

* كاتب وصحافي مصري