لا دقّت أجراس إنذار، ولا تبدّى أي تهيؤ قبل أن تجتاح العالم أخطر جائحة في التاريخ الإنساني الحديث. ضرب الارتباك مراكز صناعة القرار، تغيّرت أولويات وألغيت التزامات وأزيحت أزمات جوهرية إلى الخلف موقّتاً، لتتصدّر المشهد وقائع وتداعيات الحرب مع وباء «كورونا» المستجد. كان ذلك تطوراً جوهرياً غير معلنٍ، لكنّه ملموس وماثل في بنية النظام العالمي وصلب توجهاته وأولوياته.لم تبارح أية أزمة طبيعتها، ولا تعدّلت حقائق الصراع فيها، ولا جرى اتفاق بين القوى والأطراف المتنازعة على تخفيض حدّة التوتر. إنها هدنة إجبارية في البيئة الدولية بدواعي الفزع الجماعي. هدنة موقّتة إلى أن ينقشع الوباء العالمي.
يكاد المشهد الإعلامي باتساع العالم من دون استثناء، واحد يلخّصه عنوان «الحرب مع كورونا»، ومدى تغلغله وانتشاره وخسائره البشرية والاقتصادية وإجراءات مواجهته، بينما أزيحت بقية الأخبار إلى الخلف. بضغط الشوارع المذعورة، طُرح السؤال ملحّاً على صناع القرار: كيف يمكن إدارة المصالح العليا في ظل المعطيات الجديدة؟ بصيغة أخرى: ما الإجراءات العاجلة لحفظ حياة المواطنين، وإنقاذ الاقتصاد من أشباح الكساد والانهيار غير المستبعد؟
لا توجد بيئة سياسية محلية أو دولية ترشّح الآن أية أزمة للتصعيد، فلا يقبل أحد بكلفة التصعيد في وقت وباء يخشى من تبعاته الكارثية على مناحي الحياة كافة. بأي حساب لا يمكن تجميد الأزمات الإقليمية والدولية في ثلاجة، هذا مستحيل تماماً، فالصراعات الكبرى تعبير عن صدامات مصالح واستراتيجيات ومشروعات وموازين قوى.
نحن أمام هدنة غير معلنة تدعو إليها ضرورات الحرب مع الوباء، كأولوية لدى الدول كافة على اختلاف مصالحها وأوزانها. أولوية «كورونا» اختيار سياسي إجباري. من زاوية موضوعية فإنها مسألة شرعية، ومسألة أمن قومي باتساع مفهومه. في اختبارات الشرعية، كما الأمن القومي، فإنّ حفظ سلامة المجتمع وحياة المواطنين أولوية مطلقة. كيفية إدارة الأزمة تدخل ـــــ بالقطع ـــــ في حساب كفاءة النظم ومدى قدرتها على بناء التوافقات الوطنية وما تبثّه من ثقة في أوصال مجتمعاتها في أوقات شدة. الاختبار الأكبر للشرعيات، هو مدى جاهزية نظمها الطبية في مواجهة أي تفشٍّ للوباء، ومدى قدرة اقتصادها على تحمّل أعباء التعطيل الإجباري الموقّت لفاعليته وحيويته.
استراتيجيات المواجهة مسألة شرعية، كما هي قضية حياة وأمن قومي. بصورة أو أخرى، تبنّي العالم، ومنظمة الصحة العالمية نفسها، الاستراتيجية الصينية في العزل والحجر المنزلي وإغلاق المدارس والجامعات والمقاهي والمتاحف والمزارات السياحية ودور العبادة وأية تجمّعات رياضية وفنية، للسيطرة على الوباء ومنع انتشاره. لم تكن هناك استراتيجية أخرى قادرة على الوفاء بمتطلّبات المواجهة لحين التوصل إلى عقار ناجع، وهذه مسألة قد تستغرق وقتاً.
بنصيحة من المستشارين الطبيين لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، طُرحت استراتيجية أخرى مُفزعة بأي منطق إنساني وأخلاقي باسم ما تسميه «مناعة القطيع»، فإذا ما أصيبت نسبة كبيرة من السكان بالوباء تحدث مناعة ذاتية، وهو رهان يفضي بالضرورة إلى التضحية بنسبة أخرى من السكان بين كبار السن والمرضى المزمنين، رغم الادعاء الملتبس بضرورة خضوعهم للحجر المنزلي.
يستدعي النموذج البريطاني للذاكرة، النظريات البيولوجية التي تقول بـ«البقاء للأقوى»، الأصح بدنياً، الأكثر شباباً والأكثر غنى وقدرة على توفير الحماية والعلاج. إنها صياغة طبية لنوع من الرأسماليات المتوحّشة، فيما العالم يبحث عن أمل في إنقاذ البشرية وتأكيد وحدته الأخلاقية أمام الخطر الداهم.
نحن أمام هدنة غير معلنة تدعو إليها ضرورات الحرب مع الوباء كأولوية لدى الدول كافة على اختلاف مصالحها وأوزانها


من المرجّح أمام تصاعد نسب الإصابات بـ«كورونا» في بريطانيا، اتخاذ إجراءات احترازية تحتذي ما يحدث في العالم، بينما سبق المجتمع المدني حكومته في اتخاذها. الفارق بين دولة وأخرى، هو في سرعة الاستجابة، فكلّما كانت الإجراءات في مواقيتها تنخفض نسب تفشي الوباء وتزداد احتمالات السيطرة عليه.
في بلد مثل بريطانيا أزمتها مزدوجة، فقد جاء الـ«كورونا» في زمن الـ«بريكست»، أو ربما الـ«بريكست» في زمن «كورونا»، وكلتاهما تضربان في الاقتصاد وركائزه ومستويات معيشة المواطنين. بأية قراءة موضوعية، يصعب التعويل على أي دور بريطاني في أي أزمة دولية أو إقليمية مثل الأزمة الإيرانية ــــ الأميركية، أو الأزمة السورية، فأي حضور بريطاني سوف يكون رمزياً أو أدبياً على أقصى تقدير.
رغم اختلاف استراتيجيات المواجهة مع «كورونا»، فإنّ الاتحاد الأوروبي في وضع انكشاف بفلسفته ومؤسساته وكفاءة إدارته لأزماته المشتركة، كما لم يحدث من قبل. فكل دوله تصرّفت على نحو منفرد، حيث أغلقت مطارات وأوقفت حركات التنقل وأغلقت الحدود تقريباً بين دوله من دون تشاور مسبق، أو أدنى تنسيق.
كان ذلك ضرباً في صلب مشروع الاتحاد الأوروبي، وهو ما استدعى التساؤل في مركزية القياديين باريس وبرلين، عن قدر خطورته على مستقبل المنظومة الأوروبية، بينما بدأ الحديث عن إجراءات مشتركة تفتح الحدود بين دولها وتغلقها مع الآخرين. هذا تطور لا يمكن إغفال مدى تأثيره على مستقبل الاتحاد الأوروبي وأدواره في الأزمات الدولية، وخصوصاً في الإقليم الذي ننتمي إليه. شيء ما انكسر ربما تتضح فرص ترميمه بعد انقضاء الجائحة. شرعية الاتحاد الأوروبي على المحك.
من جهتها، بدت فرنسا حالة خاصة في مراجعة الشرعيات. أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون إجراء الانتخابات البلدية في مواقيتها، رغم ما تعانيه عاصمة النور من إغلاق لكلّ مناراتها الحضارية ومواطن الحيوية فيها. لماذا؟ إنها مسألة شرعية، فإذا ما تعطلت الانتخابات يهتزّ النظام السياسي بأسره ويضعف موقع السلطة التنفيذية، لكنّه بعد إجراء الجولة الأولى أعلن تأجيل الثانية. لماذا؟ إنها مسألة شرعية من نوع آخر خشية أن يؤدي التزاحم في اللجان الانتخابية إلى تفشّي الوباء والإضرار الفادح بحياة المواطنين. هذه الخطوة العكسية لم يقدم عليها، إلّا بعد التشاور مع الرؤساء السابقين والأحزاب السياسية والكتل النيابية. تراجعت شرعية الانتخابات لصالح شرعية سلامة المجتمع. وقد جرى ذلك بالتوافق لا بالانفراد.
في اختبارات الشرعية، أحرزت الصين، مركز الوباء، نجاحاً ملموساً في السيطرة عليه، أثبتت قدرتها على اكتساب صفة الدولة العظمى، التي تحاول تأكيدها بالتوصل إلى عقار ناجع قبل الولايات المتحدة. أما من يسبق أولاً؟ فهذه مسألة لها دلالاتها في حسابات القوى وموازين المستقبل.
وفي غضون ذلك، نشبت تحرّشات معلنة ومكتومة صينية ـــــ أميركية. فقد اتهم الصينيون الجيش الأميركي، بلا دليل مُعلن حتى الآن، بمسؤوليته عن تهريب الوباء إليها، بينما أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب عليه وصف «الفيروس الصيني»، وهو توصيف جرى اعتباره على نطاق دولي واسع نوعاً من العنصرية، ذلك أن الفيروس لا جنسية له.
كان سعي ترامب إلى شراء شركة ألمانية لاحتكار حق تصنيع العقار، على أن يقتصر استخدامه على المواطنين الأميركيين، فضيحة سياسية وأخلاقية، فالمصير الإنساني واحد، والتكاتف ضروري لمواجهة الوباء العالمي. الاعتبارات الأخلاقية تلاحق الاعتبارات السياسية، تواجهها وتستخدم في توجيه الضربات الموجعة أمام رأي عام إنساني قلق على مصيره.
هكذا، دخلت روسيا على الخط الصيني في إدانة العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، التي تعاني بقسوة من ضربات الوباء من دون قدرة على توفير المستلزمات الطبية الضرورية. لم يكن أحد يتوقع أن يكون مثل هذا الحدث المفاجئ أكثر العناوين أهمية في الانتخابات الرئاسية الأميركية، الخريف المقبل، ولا أحد الاختبارات الكبرى لمدى تقبل الرأي العام الأميركي لهذا النوع من الرئاسات، ولا أن يجد العالم نفسه مدفوعاً بالإجبار إلى هدنة غير معلنة تختبر فيها شرعيات النظم.

* كاتب وصحافي مصري