ما إن ترد كلمة ديموقراطية في حديث أو مقام أو مقال، حتى تنفتح عليها أبواب جهنم، بحيث يغرق مطلقها بسيل جارف من الأسئلة/ التحديات/ الامتحانات/ الإدانات/ التثريبات، حتى يبدو موردها نادماً على فعلته الشنعاء هذه، بداية من سؤال: ما هي الديموقراطية؟ وأعطني تعريفاً واضحاً لها، مستهلين بمدينة أفلاطون الفاضلة، منتهين إلى سؤالٍ في منتهى العبقرية...
أين هي هذه الديموقراطية؟ أعطني مثلاً واحداً عليها وأنا مستعد لنقضه وبالتفصيل، ثم يستطرد مهدداً، أهي في أميركا حيث الشركات المتحكمة؟ أم في فرنسا التي قمعت النقاب وتعتبر نفسها ديموقراطية؟! والسؤال الأبهى هو، هل الديموقراطية تنسجم مع خصوصيتنا وتراثنا وتقاليدنا؟! أوليست غربية وتقليدها يعني التشبّه به على أقل معصية... وإلخ...
طبعاً من العبث ملاحقة أسئلة العجز هذه للرد عليها، فهي أخطبوطية عنكبوتية لا نهاية أو طائل لها، كذلك فإنّ من العبث، إثبات أن الديموقراطية موجودة لأنها موجودة بالفعل، ومعمول بها وناجحة بكل المقاييس المعرفية الدنيوية منها والماورائية. وهي في حالة تطورٍ دائم، ولا يخشى عليها إلا من موجات الهجرة العالم ثالثية التي قد تودي بها إلى بئس المصير.
ولعلّ أكثر ما يؤرق هؤلاء الذين يستكثرون على أنفسهم اختيار حكّامهم، نظراً إلى تعقيداتها التربوية والمؤسساتية، هو أن الديموقراطية لا تعني فقط اختيار الحكّام المسؤولين عبر آلياتها وتكنولوجياتها، بل تفترض مراقبتهم ومحاسبتهم أيضاً. وهذه جرعة معرفية نوعية، لا تقدر على احتمالها عقول وأجساد من لا يزالنا يفكرون بالوالي والأمير، حيث من الثبور النظر إليه فكيف بمحاسبته؟! وهنا الطامة الكبرى التي أوقفت الديموقراطية معرفياً وممارساتياً عند حدود التهذيب والاحتشام، أو ما يسمى الواقعية السياسية والاجتماعية التي تفترض وجود مجتمع ودولة دون أدلة كافية على وجودهما، ما جعل طريق الوصول إلى «دولة» ما قبل المجتمع أقصر بكثير من درب الديموقراطية للوصول إلى الدولة الحديثة. وفي سبيل ذلك، قام الكثير من «المفكرين» العالمانيين وغير العالمانيين، بالخلط بين مفهوم الأكثرية السياسية، والأكثرية المذهبية الدينية. فهذا الطريق أقصر للوصول إلى «الحق»، في خلط واضح بين الحق ككلمة مواربة لغوياً وإجرائياً وبين الحقوق كمفهوم حاسم وأساسي في الثقافة المجتمعية وفي صياغة العقد الاجتماعي، عبر هذا النوع من الحق لا يمكن تأسيس مجتمع ورعايته بالمعنى التقني القادر على إفراز دولة تستطيع الوصول إلى نقطة اللاعودة عن منجزاتها الحقوقية. وهنا بغض النظر عن الخطأ والصواب أو الفائدة والضرر، يلتقي أصحاب الأسئلة الآنفة أعلاه، وأصحاب هذه الحلول على تدشينٍ وإعلان فراغٍ معرفي يتجاوز الفوات الذي نحن فيه من حيث الاتساع، هو نوع من الفراغ الذي لا يملأ إلا بالعنف، الذي رأيناه مقنناً في اللادول التي تحكم، والذي نراه منفلتاً في لحظات «الوعي الثقافي الفائق!» هذه الأيام.
المهم أن الديموقراطية موجودة في العالم، ولا تحتاج إلى إثبات، ولكنها ويا «للأسف!» تعتمد على أغلبية أو أكثرية انتخابية سياسية. وهو الأمر الذي لا يستوي مع شعوب ما قبل المجتمع، وربما كان من المعقول النظر إلى تجربتين مهمتين بهذا الخصوص، الأولى هي التجربة التركية الهادئة والمتمهلة في معركتها للقضاء على الديموقراطية التي تبيح للمواطن المشاركة في تأسيس مجتمعها ودولتها، وذلك عبر إدارة معارك منفصلة ومتدرجة من أجل تغيير الدستور. أمّا التجربة الثانية، فهي التجربة المصرية بعد يناير 2011، المتسرعة والمنفعلة عبر صياغة دستور يُستبدل به الاستبداد الشرعي، بالاستبداد الكافر، وفي المسارين هناك التلويح بتعريف الديموقراطية مع إغفال صفة المساءلة والمحاسبة. لنعود لذات السؤال: أوليست هذه هي الديموقراطية؟! عند هذه النقطة بالذات تتمحور علّة الثقافة السياسية لجماهيرنا، النقطة التي يمكن تسميتها «النقطة القاضمة للأرض» التي تعيش فيها الحقوق قبل أن تتحول لأمرٍ غير قابل للرجوع، وادعاء الديموقراطية يتطلب الدليل الأكثر سطوعاً على وجود الديموقراطية في بلاد المجتمعات الحديثة؛ إذ إن «نقطة اللارجوع» و«الثقافة» هما الحدث اللذان يتفاداهما ومن مسافة أكثر من كافية، كلّ من يريد أن يحكم بلاد اللامجتمع باللادولة عبر قضم وإفراغ المسافة بين صندوق الاقتراع ونقطة اللاعودة عن الديموقراطية حتى ولو امتلأت بالعنف.
نقطة اللاعودة هي النقطة المحورية في وجود الديموقراطية، وهي الدليل القاطع على ممارستها، والتي تكمن في مقدرة أعضاء المجتمع الحديث المتعاقدين فردياً وجماعياً على محاسبة حكّامهم حسب خصوصية دستورهم الذي اجترحوه اتكاءً على الحقوق الأصلية للفرد المجتمعي من أجل غاية محددة، هي الحضور في العالم بسبب الإنتاج. ومن هنا تبدو تأجيلية تلك الكلمات الشرطية التي ترافق كل إعلانٍ عن ديموقراطية ما، هي طبخة بحصٍ، فهذه شعبية، وتلك تعبيرية، وثالثة شرعية، ورابعة جماهيرية... إلخ، حيث يمكن تفسير أو تأويل أو تبرير هذه الصفة/ الشرط، حسب المقام، وخصوصاً عند وجود دستور اجترحته ضرورات خصوصية (كالانقلابات مثلاً، أو وجود عدوّ خارجي، أو إعلانات أيديولوجية ذات أولوية!)، حتى لو أدّت هذه الخصوصية إلى خرق التعاقد الاجتماعي من الناحية العملية.
إذاً، هو الخوف من نقطة اللاعودة هذه عند طالبي الحكم، أو العجز عن تصورها عند المحكومين أو الثائرين، ما يتطلب ارتجال ديموقراطية بحماية الاستبداد، وما يتطلب أيضاً مرجعية جمهرية تطوعية بغض النظر إذا كانت سياسية أو لا، وبغض النظر أيضاً إذا كانت موافقة أو لا، وبغض النظر ـ وهذا الأهم ـ عن مصلحة المجتمع العليا التي هي هدف كل ديموقراطية تسعى إلى نقطة اللاعودة؛ فغاية «المجتمع» ومصلحته تغدوان في تحقيق هذا النوع الاستثنائي «الخصوصي» من الديموقراطية هو إثبات «الحق» من طريق الغلبة، وليس تنظيم وتفعيل الطاقات والإمكانات الوطنية إنتاجياً في سبيل الشبع والمنعة، وهنا يولد نظام الشكل الامتثالي بديلاً من نظام النهج الإنجازي، مؤسساً لفراغ لا يملأه إلا العنف مرة أخرى، لتظل هذه الشعوب متفاجئة ومندهشة وربما (فرحة ومنتشية، من يعرف؟) من احتمالها لتلقي الصفعة الألف على «حين غرة».
ليست الديموقراطية حلماً صعب التحقّق؛ فقد تحققت في الكثير من البلدان، التي ازدادت إنتاجيتها وتغيرت مكانتها ومنعتها. إنّها، أي الديموقراطية، تكنولوجيا يمكن توظيفها واستثمارها بالإرادة حصراً، في بناء المجتمعات وصناعة منعتها ومكانتها، هي ليست مدينة أفلاطون الفاضلة المتخيلة، بل هي ماكينة ملموسة صممت للاستخدام البشري في هذه الدنيا بالتحديد.
* سيناريست سوري