بدأت الأسواق المالية بإطلاق اسم "الأربعاء الأسود" على يوم أمس، الذي شهد ــــ وهذا لم يكن غير متوقّع بالكامل ــــ انتكاسةً شاملة للبورصات في اميركا واوروبا، ودخولاً رسمياً لهذه الأسواق في حالة ركودٍ وبيع (يعرّف التّجار السوق المتهاوية ــــ bear market ــــ بتلك التي تخسر أكثر من عشرين في المئة من قيمتها خلال فترةٍ وجيزة). ما يجعل هذه الأزمة مختلفة هي أنها لا تطال أسواق أو قطاعات معيّنة، بل هي طالت أسعار الأسهم والنفط والسلع سوية، وضربت الأسواق الغربية كما الأسواق الناشئة. بل لعلّ الدول النامية (التي عانت، اقتصادياً، من سنة كارثية في 2015) هي الضحية الأكبر للإنكماش القائم: خسرت هذه الدول، كالبرازيل وتركيا والهند، أكثر من تريليوني دولار من قيمة أسواقها المالية العام الماضي (بحسب مؤشرات "بلومبرغ")، وهذه الرساميل التي انسحبت منها ــــ بسرعة وخفّة كما دخلت ــــ لن تدمّر أسهم شركات الدول النامية فحسب، بل قد تكسر قطاعها المصرفي وعملاتها وتخرّب الاقتصاد بأكمله.
يقول صندوق النقد الدولي ان اقتصاد البرازيل سينكمش بأكثر من 3.5 في المئة هذه السنة، وهي نسبة كارثية، وروسيا سيتقلص اقتصادها بما يقارب الواحد في المئة، ويتنبأ المحللون بصعوبات كبرى ستواجه العملة والاقتصاد في تركيا، في حين خسرت السوق السعودية، في الأسابيع الأولى لهذه السنة فحسب، أكثر من خُمس قيمتها الاجمالية. بمعنى آخر، في حين أن البعض يركّز على الأسباب الآنية لهذا الهبوط (التباطؤ في الصين، رفع معدلات الفائدة على الدولار، الخ)، فإن البعض الآخر يرى في ما يجري بداية أزمةٍ معمّمة في الاقتصاد الدولي، قد لا يخرج العالم منها مثلما دخل، وربما تعلن نهاية نمط النمو الذي حمل الرأسمالية طوال العقدين الماضيين، والذي قام على توسع الانتاج الصيني بموازاة زيادة الاستهلاك في الغرب.
مع كلّ أزمة اقتصادية كبرى (وآخرها كان في 2008)، يتفاءل العديد من اليساريين ومناهضي الرأسمالية، مفترضين أن وقوع الأزمة والإنهيار، في حدّ ذاته، سيؤدي الى إعادة النظر بالنظام الرأسمالي أو ضرب الإيمان بايديولوجيا السوق وفتح الباب على بدائل واحتمالات تغييرية. هذه الآمال لا مبرّر لها في الواقع فالرأسمالية، منذ صعودها في القرن التاسع عشر، تمرّ بأزمات وأطوار، ولم يؤدّ أي منها الى انتكاسها أو تحويل مسارها. على العكس تماماً، فإنّ استمرار الأزمة وآثارها السلبية على الاقتصاد والمعيشة ــــ في حال عدم توافر نقدٍ جذري ومشروع بديل ــــ كفيل ببعث الحنين (لدى النخب والناس) الى فترة "الازدهار" السابقة، وهم سيكونون على استعدادٍ للقبول بأي اجراءات تتخذها السلطات بغية انقاذ الوضع وإعادة انتاج النظام الذي سيحظى، عندها، بالشرعية الكاملة.
لدى احتدام الأزمة المالية العالمية عام 2008، ظنّ البعض أن تصاعد الانتقادات ــــ في الإعلام السائد وفي صفوف الخبراء ــــ ضد القطاع المصرفي، والسوق المنفلت، و"اقتصاد الفقاعات"، هو اشارة الى نشوء وعيٍ نقديّ حول النيوليبرالية وآفاتها، وميلٌ صوب احياء "الكينزية" وتجديد دور الدولة في الاقتصاد. هذه "التنازلات" من المؤسسة الحاكمة، في الواقع، لم تكن الا تمهيداً لضخّ الدولة آلاف المليارات بغية إنقاذ المصارف الكبرى وصناديق الأموال (التي كانت من أبرز المسؤولين، أصلاً، عن قيام الأزمة)؛ أي أن "انتهاك" النيوليبرالية لم يكن ابداً بهدف تعزيز التوظيف أو العدالة الإجتماعية. لهذه الأسباب ايضاً، نجد أنّ الآراء "النقدية" في فترات الأزمة تنصبّ على ايجاد الحلول للمشاكل القائمة واستئناف النموّ وتصحيح أخطاء الماضي، أي ترميم النظام وتجديده، بدلاً من مواجهة الاسئلة الفلسفية الحقيقية حول طبيعة الرأسمالية، وضرورتها، والهدف من الانتاج والنمو والعمل، والطريقة التي تحدد بها السوق قواعد الملكية وشكل الاستهلاك وقيمة الأشياء ونفعيتها (بلغة السوق ومنطقها، مثلا، تساوي لعبة "كاندي كراش" 5.9 مليار دولار).
من الصّعب أن نعرف المدى الذي ستبلغه الأزمة الحالية، ولكنّ حتى مركز "ستراتفور" (اليميني) يشير الى أنّ أسباب الانهيار قد تكون بنيوية، وتؤشر الى استنفاد نمط التراكم الرأسمالي الذي غذّى النظام العالمي لعقود. في تقريرٍ عن الصين، يقول تحليل "ستراتفور" أن ما تواجهه الصين اليوم قد يتجاوز مشكلة تباطؤ أو ركود: كانت دول شرق آسيا تنمو، تباعاً، عبر التخصص في التصدير الى اقتصادات الغرب التي تحولت، منذ السبعينيات، الى اقتصادات خدمات واستهلاك. وحين كان البلد يصل الى مستوىً من الدخل تصعب معه المنافسة في تصدير السلع الرخيصة، كان ينتقل الى صناعات أكثر تعقيداً ومنتجات ذات قيمة مضافة عالية، يشتريها ايضاً الغرب المستهلك والعطش الى السلع. هذا ما حصل مع اليابان أوّلاً، ثمّ كوريا وتايوان في فترة تالية، والصين ــــ يجمع الإقتصاديون ــــ تمرّ اليوم بمرحلة التحوّل ذاتها. المشكلة، تقول الدراسة، هي أنّ حجم الاقتصاد في الغرب لم يعد يكفي لاستهلاك كلّ السلع التي ستنتجها الصين (اضافة الى الانتاج القائم في السوق العالمية)، والسوق الصيني نفسه من الصّعب أن يتوسّع، وأن يصير المواطن الصيني مستهلكاً على الطريقة الغربية، بالسرعة اللازمة لتمويل النمو.
كما هي الحال في كلّ أزمة عالمية، أكثر الدول تأثراً ستكون تلك الأكثر ارتباطاً بالسوق الدولية واعتماداً عليها؛ من بلدان (كالبرازيل وتركيا) قام نموّها على القروض الخارجية، الى تلك المصدّرة للمواد الأولية كالسعودية وروسيا. هذه الدول تدفع اليوم ثمن ربط اقتصادها بسلعٍ وأسواقٍ لا يمكنها التحكّم بها؛ وحين تضرب الأزمة وتنكشف نقاط الضعف، لا يعود النقد ــــ في ذاته ــــ فعلاً جذرياً، ولا يكون "نقد النظام" ذا قيمةٍ الّا إن سعى لاستبداله.