في عيدهم بدا المعلمون (ومعهم زملاؤهم في القطاع العام)، مرة جديدة، كالكرام على مائدة اللئام. يفضح تحركهم، غير المسبوق، أزمة المعلم والتعليم الرسمي وقطاع الدولة عموماً. يفضح افلاس نظام لا يستبق، ولا، يستمع، ولا يعتبر. الجهد الذي بذله المعلمون وزملاؤهم في قطاع الدولة لتوحيد صفوفهم ومواقفهم وتحركهم في مطلب «السلسلة» ينبغي أن يشكل حلقة في اطلاق مسيرة اصلاحية كبرى وطويلة. الخلل ليس في موقف المسؤولين فحسب. إنّه، أساساً، في نظام المحاصصة الفئوي الطائفي المذهبي. المعلم الذي «كاد أن يكون رسولاً»، هو كذلك لانه يمكن أن يشغل موقعاً لا ينازعه فيه احد في بناء مجتمع سليم: ينمو ويتقدم ويتطور.
بين معلمي لبنان (وموظفيه)، كثر من خرجوا على نهج أراد للتعليم الرسمي خصوصاً وللقطاع العام عموماً، أن يكونا هامشيين بالكامل.
واحد من هؤلاء (تصادف الآن ذكرى غيابه الثالثة والثلاثون) السيد جعفر الامين: المربي الرائد في حقل تأسيس وإدارة المدارس في اكثر من مدينة وبلدة لبنانية.
عاد الينا بعض من ابداع السيد جعفر الأمين في مجموعة أدبية ثلاثية، نسق عملية تجميعها وتدقيقها نجله الصديق اكرم. كتب عديدون في موهبة السيد جعفر الشعرية، وفي ثقافته الموسوعية، وفي ظرفه وسخريته ومساجلاته ومراراته وجرأته... اتيح لجيلي أن يعايش جانباً آخر من شخصية السيد جعفر في ابعادها الاجتماعية والانسانية والتربوية.
يتذكر أخي الاكبر أديب، البالغ من العمر عام 1948 حوالى عشر سنوات، أن السيد جعفر كان على مدخل بلدته «شقرا» يستقبل القادمين من «حولا» هرباً من مجازر العصابات الصهيونية.
يتذكر أخي «عون» أن السيد جعفر، بعد أربع سنوات، قد استقبل تلامذة حولا ووفر لهم السكن.
عام 1958، أي في حوالى العاشرة من عمري، سجلني والدي في مدرسة «شقرا» الرسمية المختلطة التي كان يديرها السيد جعفر. وكان قد سبقني إلى الانتساب اليها عدد يتزايد سنوياً من الفتيان، بسبب أن مدرسة بلدتنا كانت تتوقف صفوفها عند الثالث ابتدائي. إلتقينا هناك بأمثالنا من قرى «المجدل» و«قبريخا» و«برعشيت» و«صفد» و«الجميجمة» و«تولين» و«الصوانة»... وجد ابناء هذه القرى في مدرسة «شقرا» مكاناً يعوضون من خلاله غياب المدارس أو الصفوف في قراهم الفقيرة والمهملة.
لم يكن في الامر تخطيط من قبل وزارة التربية او السلطات الرسمية: انما هو السيد جعفر من بادر وثابر واجتهد وطالب ونفّذ.
كانت صفوف مدرسة «شقراء» تستقبل سنوياً، المزيد من تلامذتها ومن التلاميذ الوافدين. وكان السيد جعفر في سباق مع الزمن وصراع مع الاهمال الرسمي من اجل تأمين الصفوف والمعلمين والغرف والتجهيزات... وقد نجح في مهمته بسبب اصراره ومثابرته، يعاونه في ذلك نفر من المعلمين شكلوا، بقيادته، فريقاً رائعاً صنع لمدرسة «شقراء» دورها وريادتها.
بسط «أبو أكرم» رعايته على التلامذة الوافدين في كل شؤونهم تقريباً: السكن، شروط الاقامة، مواجهة البرد... ولقد بات تقليداً، أن يزورنا السيد جعفر في غرفنا المتواضعة حاملاً وسائل التدفئة، مطمئناً إلى سلامتنا. وهو لم يكن يكتفي بذلك، إذ كرّر استضافة بعضنا في منزله العائلي لمدة يوم أو يومين. كان يختار الاضعف والاصغر سناً. صادف انني كنت دائماًَ من بين هؤلاء لصداقة ايضاً، عميقة ودائمة، جمعته بوالدي، ثم بسبب الزمالة مع نجله أكرم في الصف نفسه.
ينبغي أن أنوّه بأن السيد جعفر قد أولى اهتماماً استثنائياً للتلامذة القادمين من بلدتي حولا. كانوا الأضعف اجتماعياً بعدما اصاب بلدتنا من قتل وتدمير وتهجير على يد العصابات الصهيونية عام 1948. ثم ان افكار التغيير وجدت لها متسعاً بين أبناء حولا، فحفز ذلك إنطلاق حركة مطلبية واجتماعية مثابرة وضاغطة لتحسين الاوضاع في بلدتهم المدمرة والمنكوبة. اثمر ذلك قيام علاقة صداقة عميقة مع السيد جعفر، وتعاوناً خلاقاً وجريئاً في شق طريق بين بلدتي «حولا» و«شقراء» كانت ممنوعة بذرائع الامن. أنجزت تلك الطريق الوعرة (7 كلم) عبر عمل تطوعي كبير شارك فيه كل أهالي حولا، ودعمته «الحركة الوطنية اللبنانية»، ورعاه، بفرح كبير، السيد جعفر وبعض أهالي شقراء، ممن دعموا المبادرة. ربطت هذه الطريق قضاء مرجعيون بقضاءي بنت جبيل وصور. صارت حولا على مسافة 7 كيلومترات من شقراء بعد أن كانت على مسافة 35 كلم منها!
أولى السيد جعفر اهتماماً ريادياً للنشاطات اللاصفية. بات في مدرسة شقراء، إثر ذلك، فرق كشفية ورياضية وفنية وشعبية تمكنت، خلال فترة قصيرة، من أن تقدم مساهمات مهمة وأن تنافس، أو تشارك، في مناسبات على مستوى الوطن او محافظة الجنوب. استقطبت هذه النشاطات اهتماماً اعلامياً متصاعداً فحضر المرحوم «شريف الأخوي» مراراً إلى شقراء مع ميكروفونه الشهير.
نتوقف في مجرى ذلك ايضاً عند اصدار «مجلة الحائط» (هي مجلة كان يحررها التلامذة)، وقد شجعت وحفّزت لدى التلامذة روح الابداع والانتاج والثقة بالنفس... إلى ما كان السيد جعفر يحاول بثه من روح وطنية بين تلامذته من خلال حواراته ومن خلال التشجيع أو التأنيب أو الاناشيد الوطنية: لقد فاجأنا وهو ينشد بصوت شجي عذب نشيد «هوى وطني فوق كل هوى. جرى في عروقي مجرى دمي»، إلى سابقة تعليم ولده أكرم العزف على البيانو!
كان «ابو اكرم» صاحب مواهب وطاقات لا تعد ولا تحصى. اكتشفنا ذلك، تباعاً، بعد ان تعرفنا على حسّه العميق والساخر في النقد الاجتماعي، وعلى موهبته ومساهماته الشعرية الفذة، وعلى سرعة بديهته وطرافته ونكاته التي تناقلتها الالسن وهو يتبادل الهجاء مع اصدقائه او يعرض بمن كان يعتبرهم اهلاً لذلك.
كان بعض نقده يصدر عن مرارة، وبعضه عن رفض واحتجاج ورغبة في تغيير المجتمع والعادات والقوانين والسلوك. لكنه كان كله عميقاً وطريفاً وبليغاً ولماحاً وقاسياً. وكان مولعاً بالسجال الشعري حيث انثالت الأبيات والمعاني
في قصائده كأبلغ ما يكون القول وأجرأ ما يكون الهجاء وأجمل ما تتواطأ المعاني والألفاظ.
لقد انصهر في شعره وفي نهجه وفي سلوكه القول بالعمل، فقدم مثالاً
راقياً للجمع بين الفكرة والتنفيذ. تخطى بأشواط واجباته المهنية إلى مساهمات عميقة التوجس الإنساني. أوليس هو القائل: وما يجدي بربك عذب ماء/ إذا لم يسع يوماً لإنسكاب؟
كابد السيد جعفر مرارة التمييز، فشهد للمساواة. فاجأه الكذب والرياء فأشهر سيف النقد والهجاء. تعجب من الإزداجية والتصنع فإستغرق في الألفاظ والتسميات حتى اقصى الواقعية والجرأة والتحدي.
* كاتب وسياسي لبناني