الانطباع الأوّل الذي يخرج به القارئ غير المتخصّص في التاريخ القديم، حين يقرأ عن المدن الفينيقية، هو أنّ هؤلاء الناس كانوا يعرفون ــ بمقاييس عصرهم ــ معنى «الحياة الجيّدة»: مدن ثرية، آلهة جميلة، انفتاح ثقافي وفكري وديني، مجتمع سياسي مرن، إلخ (وفي قرطاجة، في ما بعد، لم تكن هناك أيضاً قيودٌ على التزاوج فداخلت المدينة، تدريجياً، تأثيرات من اليونان والمتوسّط وشمال أفريقيا، أضيفت إلى الأصل الكنعاني؛ وصارت الأبنية مزيجاً من هندسة فينيقيا واليونان ومصر، وأصبحوا يأخذون بطلاً يونانياً - مثل هرقل - ويعطونه اسماً كنعانياً ويجعلونه إلهاً).
(هيثم الموسوي)

بتشبيهٍ أبسط، لو أنّه قُيّض لي أن أولد في أواخر عصر البرونز، كنت سأفضّل بكثير أن أعيش حياة تاجرٍ أو صانعٍ في مدينةٍ فينيقية ساحلية على أن أجد نفسي، مثلاً، ضابطاً أشورياً أو كاهناً مصرياً. يقول المؤرّخ أندرو لامبرت إن الدول الزراعية والإمبراطوريات القارّية كانت، على عكس مدن الساحل، محافظةً بشكلٍ كبير، تركّز على الاستقرار والتراكم البطيء، وتخاف من تأثيرات البحر أو تسرّب أديانٍ وأفكارٍ جديدة إلى المجتمع. في الأساس، يحاجج لامبرت، فإنّ أحد أهم أسباب ثراء الفينيقيين وتحوّلهم إلى تجّار العالم القديم هو أن دول مصر وبلاد الرافدين كانت تفضّل أن يقوموا هم بدور التبادل والوساطة معها على أن تنتج هي نخبة «بحرية» وتجارية من مجتمعها، مع ما يستجلبه ذلك من تأثيرات أجنبية ومشاكل سياسية. أكثر السرد التاريخي في هذا المقال هو من الفصول الأربعة الأولى لكتاب لامبرت الممتاز عن «دول القوّة البحرية» (منشورات جامعة ييل، 2018)، إضافة إلى مرجَعين حديثَين نسبياً عن الفينيقيين وقرطاجة (كتاب «قرطاجة يجب أن تدمّر» لريتشارد مايلز، دار بينغوين، 2012؛ وكتاب غلن ماركو «الفينيقيّون»، من منشورات المتحف البريطاني، 2002).
حتّى نفهم صعود المدن الفينيقية، يجب أن نعود إلى معادلة وضعها المؤرّخ الفرنسي فرنان بروديل عن «الاختلال في توزّع الموارد في حوض المتوسّط»: في المتوسّط، تجد احتياطات هائلة من المعادن ــ كالنحاس ــ متركّزة في قبرص أو إسبانيا، فيما باقي الإقليم يفتقر إليها بالكامل. في عصر البرونز أنت كنت تحتاج إلى مجموعة من المواد الأولية «الاستراتيجية» لصنع المعدن وتسليح الجيش، ولكن النحاس يأتي من إيبيريا، والقصدير من وسط آسيا، والأخشاب من جبال لبنان. والدول الزراعية الثرية في مصر وبلاد الرافدين تحتاج إلى مددٍ مستمرّ من هذه البضائع ــ ومن هنا وُلدت خطوط التجارة الكبرى في العالم القديم.
يبدو أن الفينيقيين هم أوّل من صمّم وبنى الزورق المقعّر، الذي يسمح بتحدّي أنواء البحر ويحمل كمية كبيرة من البضائع في آنٍ واحد، منذ الألف الثالث قبل الميلاد، ثمّ بنوا مدنهم ومؤسساتها ومعابدها حول هذه التجارة البحرية. تخيّل أنك اخترعت ــ تقريباً ــ النقل البحري بعيد المدى، ثمّ احتكرته. هذه لمحةٌ سريعة عن مستوى النجاح الذي بلغته هذه المدن: لو أنّك اجتزت المتوسّط في سفينةٍ في القرن العاشر قبل الميلاد، وعبرت مضيق جبل طارق ووصلت إلى «نهاية العالم» المتوسّطي، فإنّ أوّل ما سيطالعك كان مستوطنة قادش الصوريّة، ومعبدٌ كبير لإله صور «ملقارت» يحتلّ نصف الجزيرة تقريباً، مبنيّ على منصّة هائلة فيبدو كأنه يطفو فوق البحر. وفي وسط المعبد ــ ينقل مايلز ــ كانت هناك شجرة زيتونٍ مصنوعة بالكامل من الذهب (تبدأ أسطورة تأسيس صور مع شجرة زيتون مقدّسة)، وبجانبها عمودٌ كبير مصنوعٌ من خليطٍ من الذهب والفضّة. العمود هو نسخةٌ عن مثيله في معبد ملقارت في صور على الجانب الآخر من المتوسط؛ وبين الاثنين يمتدّ «طريق الفضّة»، محطّات تجارية ومدن ومستوطنات على طول البحر، وقد كانت قرطاجة وليدته.

أساطير ومرويّات
يجب أن نوضح هنا، أنّه لا حاجة إلى أن نبخّس الفينيقيين أو نقلّل من دورهم في التاريخ (كما يفعل البعض) حتّى ننفي أساطير القومية اللبنانية، ونظريات سعيد عقل وتلفيقات هواة التاريخ في أوائل القرن العشرين. إيّاك أيّها اللبناني أن تقارن نفسك بالفينيقيين أو أن تتوهّم أنّه، لأن لديك مصارف ودعارة، فأنت وليدهم وخليفتهم وتسير على طريقهم. هم كانوا أعظم منك بكثير، وأنت لا تشبههم في شيء. النظرية «اللبنانوية»، كيفما قلبتها، لا تستقيم مع التاريخ. لا حدود الفينيقيين تتّسق مع حدود لبنان (أين تذهب أوغاريت وأرواد ومدن ساحل فلسطين؟)، ولا الكيان اللبناني يمثّل خريطة انتشارهم (ما علاقة عكّار وبشرّي والهرمل وبعلبك، مثلاً، بفينيقيا؟ لو كانت أصولك تختفي في صيدا أو صور قد أفهم، ولكن المشكلة هي أنك تصادف فلّاحاً من أعالي الجرد، أسمر وقصير وسمين، يتزاوج أجداده في الجبال من بعضهم البعض منذ ألفي عام، وهم لم يروا البحر قط ــ ولكنّه يصرّ على أنّه حفيد حيرام). أهمّ من هذا كلّه، المؤكّد هو أنه لم يكن هناك شيء اسمه «شعب فينيقي». هي مجرّد تسمية يونانية لسلسلة من المدن الساحلية، وهم كانوا ينتمون إلى مجموعة إثنية وثقافية أوسع، هي الكنعانية. حتى بعد 500 سنة على تأسيس قرطاجة في غرب المتوسّط، يكتب مايلز، لم يقم القرطاجيون يوماً بالإحالة إلى أنفسهم كـ«فينيقيين» أو «بونيين» (كما أسماهم الرومان)، بل ككنعانيين (اسم قرطاجة، بالمناسبة، هو «قريات حداش»، أي «المدينة الجديدة»). بل إنّ الكثير من المراجع التي وصلتنا اليوم عن الفينيقيين هي من تدوين أنسبائهم العبرانيين، الذين كانوا ينظرون بعجبٍ وحسد ــ وهم يعيشون حياة زراعية فقيرة ــ إلى مدن الساحل الضخمة والثرية.
مساءلة المصادر هنا واجبٌ إن أردت أن تكوّن فهماً تاريخياً عن هذا الموضوع، وتفكّك الرواية «التقليدية» التي تكرّست عبر الزمن (وبعضها، في حالة قرطاجة، من مؤرّخين رومان يكتبون بعد قرونٍ على الأحداث، حين كانت قرطاجة ــ وروما «القديمة» التي حاربتها ــ قد أصبحت مجرّد ذكرى وأسطورة). ميزة كتابَي ماركو ومايلز، هي أنهما يتبعان الأثر الأركيولوجي والاكتشافات الحديثة لتقييم هذه النصوص التاريخية ونقدها، فيقدّمان لنا صورةً مختلفة تماماً للفينيقيين وقرطاجة عن السجل «التقليدي».
المشكلة هي أنّ الفينيقيين أنفسهم لم تصلنا عنهم ولا حتّى وثيقة واحدة، أصيلة أو مترجمة، كتبوها بأنفسهم. وأرشيفات ومكتبات قرطاجة قد ضاعت بأكملها مع تدمير المدينة. كلّ ما نعرفه عن الفينيقيين نقله لنا يونانيون وعبرانيون ورومان. ومن هنا، ارتبطت صورة الفينيقيين بعددٍ هائل من التشنيعات: إنهم كانوا غشّاشين، منحلّين، بلا دينٍ وورع، يضحّون بأبنائهم، ينكثون العهود، إلخ… اليونانيون كانوا يتنافسون مع الفينيقيين، ويخوض المستوطنون اليونان ــ في صقلية ــ حروباً طويلة ضد القرطاجيين. أمّا بالنسبة إلى روما، فقد كانت قرطاجة هي «الآخر»، العدو الأول الذي سحقوه في طريقهم إلى الإمبراطورية، وقد وضعوا فيها كلّ صفات العدو الشرقي اللدود. بعد ذلك، يروي مايلز، جاء المؤرّخون الأوروبيون في القرن التاسع عشر ليعاملوا هذه الروايات المتأخرة على أنها تاريخٌ محقّق، واعتمدوها بلا نقدية لكي ينقلوا إلى العالم المعاصر تاريخ قرطاجة وروما والمتوسّط. ما حصل مع القرطاجيين (والفينيقيين أيضاً) يشبه أن لا تتكلّم وتنطق وتعبّر عن نفسك، بل يبني صورتك عنك من يحسدك ويكرهك ويتنافس معك من حولك ــ والناس أفاعي.
لا حدود الفينيقيين تتّسق مع حدود لبنان ولا الكيان اللبناني يمثّل خريطة انتشارهم


من هنا اعتبار قرطاجة بمثابة «حضارة ضائعة» بالنسبة إلينا، لا لأنها دُمّرت واندثرت، بل أيضاً لأنها ضاعت في السجل التاريخي والروايات ولم تصلنا إلّا كـ«توطئة» لتاريخ روما، وقصة صراعٍ بين شيبيو وهنيبعل، وليس عبر تاريخها الذاتي الحقيقي، وهو يمتدّ لأكثر من ستة قرونٍ سابقة (وحتى بعد هزيمة هنيبعل واستسلام المدينة، لم ينتهِ تاريخ قرطاجة كما يتصوّر البعض، بل ظلّت مزدهرة وثرية لأكثر من نصف قرنٍ بعد ذلك، حين حلّ دمارها النهائي). على الهامش: على الرغم من أنّي ولدت وكبرت على بعد مئات الأمتار من المعبد الفينيقي الوحيد المتبقّي اليوم (وهو للإله أشمون)، فأنا ــ كالكثير من أهل المدينة ــ لم أزره يوماً، وحين نتكلّم على «أشمون» كنّا نقصد في الغالب مطعماً يقع في المنطقة نفسها، لا المعبد الفينيقي. للأمانة، في سنوات المدرسة الأولى، تمّ أخذنا في رحلةٍ مدرسية إلى منطقة أشمون، ولكنّي لا أذكر أني رأيت معبداً وآثاراً، ما أذكره هو أننا ــ أي الأولاد ــ نزلنا من الباصات وانقسمنا إلى فريقَين، واحدٌ اختبأ خلف تلّة والآخر ظلّ أسفلها، وصرنا نراشق بعضنا بالحجارة (فيما الأساتذة يسترخون ويدخّنون النارجيلة على النهر المجاور).

كنعانيّو الغرب
ابتداءً من حوالى القرن الثامن قبل الميلاد، حصلت هجرات متزايدة من صور إلى قرطاجة، بعد بدء مرحلةٍ من الانحدار والضعف في صور (وهذا كان يرجع جزئياً إلى ضغوط الإمبراطوريات المحيطة بها، وأيضاً إلى انهيار قيمة الفضّة). شكّل ذلك دفعةً إضافية في ازدهار قرطاجة واستقلالها، لتبدأ بالتحوّل من محطّةٍ تجارية في غرب المتوسّط إلى مركزٍ لقوة بحرية على مستوى عالمي. تشير الحفريات إلى أنّ المدينة، في بداياتها، قد تطوّرت فعلاً وتوسّعت بشكلٍ سريع، حتّى أصبح تأمين الغذاء لهذه المدينة الكبيرة مشكلة ستستمرّ في تحدّي المدينة وحكّامها. يقول لامبرت إن مُعضلة قرطاجة هي أنها كانت تحتاج باستمرارٍ إلى استيراد الغذاء والأخشاب من صقلية وسردينيا، أي أن قطع التواصل بينها وبين هذه الجزر كان يعني حصارها وتجويعها. خاض القرطاجيون حروباً لأكثر من قرنٍ ونصف في صقلية، ضد المستوطنين اليونان في الجزيرة، لكنّ قرطاجة لم تكن دولة عسكرية: لا عدد المواطنين فيها يكفي لخوض حملاتٍ كبيرة، ولا ثقافتها تعلي (كما في روما) من شأن الحرب والموت في المعركة، ولا هي يهمها الغزو والاستيطان وتصدير السكّان. الحرب كانت تُخاض عند الضرورة فقط للإبقاء على طرق التجارة مفتوحة، أو للحفاظ على محطات تجارية في ساحل صقلية أمام المدّ اليوناني. وبعدما أُبيد جيشٌ قرطاجي في كمينٍ خلال إحدى تلك الحملات، وكان في صفوفه فرقة «العصبة المقدّسة» التي تضمّ أبناء النخبة القرطاجية، أصبح لدى المدينة نفورٌ من الحملات الخارجية ومن إرسال أبنائها للقتال في جبهاتٍ بعيدة، مفضّلين الحروب المحدودة ــ عند الضرورة ــ وباستخدام الحلفاء والمرتزقة قدر الإمكان.
في الوقت ذاته، بلغت المدينة حدّاً أسطورياً من الثراء بسبب نجاحها التجاري. يكتب لامبرت أن قرطاجة راكمت مخزوناً هائلاً من المعادن: الذهب من غرب أفريقيا والفضّة من قرطاجة الجديدة في إسبانيا. بينما حقّقت الصناعات والزراعات التقليدية (كالقماش الأرجواني والمصوغات والفخاريات) دخلاً كبيراً من التصدير. وجد أكبر عددٍ من التحف المصريّة في غرب المتوسّط في موقع قرطاجة، وأصبحت تقنيات قرطاجة الزراعية، وبالأخص كتابات القرطاجي ماغو، بمثابة دليلٍ للأقوام الأخرى. وقد ولد ما يشبه «العالم البوني» (بحدّ تعبير ريتشارد مايلز) في وسط وغرب حوض المتوسّط حول قرطاجة وتجارتها وثقافتها. كان المرفأ، بالطبع، الرمز المادّي للقوة القرطاجية وأشهر ما تبقّى من ذكراها. كانت قرطاجة في الأساس تستخدم خليج تونس مرفأً، لأن شاطئه مناسبٌ لرسو السفن، ولكن من مع مرور الزمن، قام القرطاجيون بتحويل الخليج الطبيعي إلى ما يشبه الأحواض الصناعيّة التي تُحفر اليوم بالماكينات والحفارات، ولكنّه نُحت بالأيدي ورصف بالحجارة الضخمة قبل أكثر من 2500 سنة (وقد أعيد بناؤه وتوسيعه أكثر من مرّة). إن كنتَ تاجراً يحاول الرسو في قرطاجة، فإنّك كنت ستقابل من جهة البحر أسواراً مرتفعة مهيبة، تحمي المدينة بالكامل، مبنية من الحجر الرملي ومطلية بالكلس الأبيض، وفي وسطها فراغٌ أو «بوابة» تدخل السفينة منه إلى المرفأ. وحين تنسلّ إلى المرفأ التجاري ــ وهو حوضٌ على شكل مربّعٍ كبير ــ كنتَ ستلمح الحوض الثاني خلفه، المرفأ العسكري الدائري الشهير: مبني على شكل دائرة ترتصف حولها ملاجئ مسقوفة لأكثر من 170 سفينة كبيرة، وفي وسط الدائرة جزيرةٌ بُني عليها برجٌ كبير يشرف على المنشأة بأكملها، فيه مركز قيادة الأسطول. بُني المرفأ الدائري، حقيقةً، في سنوات قرطاجة الأخيرة، بعد هزيمة هنيبعل في الحرب البونية الثانية بعقود وتجريد المدينة من أسطولها الحربي، وقد كان بناؤه من العوامل التي أدّت إلى استفزاز الرومان والتجييش للحملة الأخيرة ضد قرطاجة.

«قرطاجة يجب أن تدمّر»
القول أعلاه (Carthago delenda est) هو للسياسي الروماني كايتو، وقد ذهب مثلاً عن ضرورة الحسم ضدّ عدوٍّ لدود. في الحقيقة، يكتب مايلز ولامبرت، فإنّ أكثر عناصر الرواية الرومانية عن حروب قرطاجة هي بمثابة بروباغاندا تاريخية. قرطاجة لم تبدأ النزاع، بل كان بينها وبين روما معاهدة قديمة تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد (وكتبت على ألواح من البرونز، أودعت نسخة منها في قرطاجة والثانية في روما) من بنودها عدم تدخّل روما في صقلية. غير أنّ الرومان، ما إن سيطروا على الحذاء الإيطالي، حتى عبروا إلى صقلية مباشرةً وبدأوا بتحدّي القرطاجيين. أكثر من ذلك، فإن هنيبعل لم يبادئ بغزو إيطاليا، بل كان الرومان (خلال الحرب البونية الأولى) أوّل من جرّب غزو قرطاجة، قبل هنيبعل بعقود. فشلت الحملة، ولكنها أثارت هلع القرطاجيين، وأثبتت لهم أن مدينتهم ستكون عرضةً للاحتلال إن خسروا المضيق الإستراتيجي بينهم وبين صقلية، وهذا ما دفعهم إلى الاستثمار في بناء جيشٍ ضخم ودولةً جديدة في إسبانيا (وهو مشروع والد هنيبعل)، لتكون قاعدةً في نزاعٍ محتمل مع الرومان، ففيها موارد وقبائل مقاتلة يمكن كسبها وتجنيدها.
يجب أن نتذكّر أن ثراء قرطاجة ــ وقبلها الفينيقيون ــ لم يأتِ من إبداع أهلها ومهارتهم فحسب، بل أساساً بفضل سياقٍ دولي مناسب لمثل هذه القوى البحرية والتجارية. كان ازدهار قرطاجة في أقصاه جزءاً من مرحلة ازدهار عرفها حوض المتوسّط بشكلٍ عام بعد فتوحات الإسكندر، إذ يُقدّر أن عدد سكان المنطقة قد وصل إلى ما بين 35 ــ 50 مليون إنسان، وهو رقمٌ هائل يشير إلى حالةٍ مديدة من الاستقرار والنموّ والتبادل. «البنية الفوقية» لهذا العالم المتوسّطي كانت إطاراً من «التنوّع السياسي»: عددٌ كبير نسبياً من الدول المستقلّة المتجاورة؛ من مصر البطليمية إلى سلوقيا إلى مقدونيا، إلخ... وبينها هوامش كبيرة لقوى صغرى. سياسياً، هذا هو العالم الذي كانت قرطاجة تحاول الدفاع عنه، وروما قامت على سحقه.
حتى حملة هنيبعل، يؤكد لامبرت، لم تكن تهدف إلى تدمير روما أو إخضاعها، بل إلى «تحجيمها». كان هدف الحملة الوصول إلى موقعٍ على البحر في جنوب إيطاليا، وتأسيس قاعدة لقرطاجة وحلفائها تمنع روما من التوسّع بلا حساب (جمعت قرطاجة حولها حلفاً كبيراً، مقدونيين وسلوقيين وغاليين وأقواماً إيطالية ويونانيين، ضد «الإمبريالية الرومانية» وتوسّعها، ولكن روما في نهاية الأمر حاربت كلّاً منهم على حدة). بمعنى آخر، كان همّ قرطاجة الإبقاء على حالة «توازن قوى» في حوض المتوسّط، فيما روما كانت قوّةً من صنف جديد: ثقافة حربية شرسة بين المواطنين، حيث التطوّع في الجيش واجب وشرف، ممزوجة بحكم أرستقراطي لا يشبع من الغزو والفتوحات، أنتجت توسّعاً وقسوةً بلا حدود. وبسبب هذا التناقض تحديداً كان على قرطاجة، من وجهة النظر الرومانيّة، أن تدمّر. ينبّه لامبرت إلى أنّ روما سوّت، في الفترة نفسها، مدينة كورينث بالأرض. وهي أيضاً كانت قوّة بحرية، لا تشكّل تهديداً عسكرياً على روما، ولكنها تمثّل «نموذجاً» ونمطاً من السياسة قامت روما على نقيضه.
كتب أفلاطون، محذّراً من البحر والمرافئ والأفكار التي تتسرّب عبرها، أن المدينة البحرية، حين تتمرّد وتتملّكها الأفكار الشعبوية، لا حلّ إلّا في تدميرها ونقلها إلى ثمانية أميال بعيداً عن البحر. وحين أطلق الرومان حملتهم الأخيرة على قرطاجة، بعدما أمسك بها لفترةٍ الحزب الشعبوي المعادي للرومان، اشترطوا عليهم هذا الأمر بالضبط: أن يدمّروا مدينتهم وينتقلوا إلى ثمانية أميالٍ في الداخل التونسي. وهو كان بالطبع شرطاً لا يمكن تنفيذه. عام 146 قبل الميلاد، وبعد ثلاث سنواتٍ من الحصار، اقتحم الرومان قرطاجة عبر المرفأ العسكري، واستعبدوا من نجا من المذبحة التي تلت دخول المدينة (تقول المصادر إن العدد كان يقارب الخمسين ألفاً)، بينما أقام آخر المدافعين عن قرطاجة وقفةً انتحارية على تلّة معبد ملقارت، انتهت بقفزهم في النيران التي اشتعلت به. مع هذه الهزيمة اندثرت قرطاجة، وأصبحت «مُلحقاً» بسرديات التاريخ الروماني وجزءاً من روايتهم عن نفسهم، ولكن «قرطاجة الحقيقية» لم نكتشفها بعد.