«إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين مِن الأمة على هواه وليس مَن يعترض منهم، أفلا يحقّ لجمال الدين أن يلعب بمسبحته؟»جمال الدين الأفغاني رداً على رئيس ديوان السلطان عبد الحميد بعدما لفت نظره إلى أن اللعب بالمسبحة في حضرة الخليفة العثماني تقليل من احترامه.

أثارت مداخلة شيخ الأزهر الإمام الأكبر، أحمد الطيب، رداً على رئيس جامعة القاهرة، محمد عثمان الخشت، وهو مندوب السيسي للتجسّس على الأساتذة والطلاب، العديد من ردود الفعل. وقد رأيتُ أنه من الواجب أن نوضح بعض الحقائق ونطرح بعض التساؤلات، مهتدين بما قاله الشيخ «الفتنة اليوم سياسية وليست تراثية». حسناً أيها الإمام، هل العلاقة المريبة بين الأزهر الشريف ودولة الإمارات تندرج ضمن التراث أم السياسة؟ نقول ذلك ونحن نعرف أن الشيخ الجليل يعلم بالتأكيد دور أبو ظبي في ذبح ما تبقّى مِن القضية الفلسطينية تحت اسم «صفقة القرن» وغيرها من قضايا الأمة التي يدافع عنها الطيب أمام عدسات الكاميرات.
شاءت الأقدار أن يتولى الطيب رئاسة مشيخة الأزهر في وقت عصيب، فسرعان ما هبّت انتفاضة يناير محمّلة برياح التغيير. حافظ الرجل على مقعده وسط أعاصير وعواصف. وتطلبت منه تلك المرحلة أن يؤسس لانحيازات جديدة وخطيرة في آن، إذ لم يكتف باستدعاء عشيرته مِن «دوار آل الطيب» في الأقصر ضد خصومه، بل امتدت استراتيجيته في صراعه مع رأس النظام المصري، في ما بعد، إلى أبعد مِن ذلك، بالتحديد إلى الديوان الأميري في أبو ظبي، وأحياناً في الرياض. سلسلة طويلة من الأحداث، كان بطلها الأوحد الإمام الأكبر: أبرز حسناتها القليلة، التصدي لسياسة نظامية انتهجها عبد الفتاح السيسي للتغوّل على كل مؤسسات الدولة؛ وسلبياتها كثيرة أخطرها الانحراف عن منهج الجامعة الإسلامية السنية الأكبر في العالم، المشهور عنها الوسطية والتقريب بين المذاهب الإسلامية المختلفة إلى مساندة العدوان والتحريض المذهبي بشكل غير مباشر.
«الأزهر الشريف يحمد الله كثيراً على ظهور هذه الصحوة العربية التي بدأت تدوّي في المنطقة، ويشد على أيدي قادة الأمة في الدفاع عن بلادهم والذود عن أوطانهم، ويقدر هذه الرسالةَ غير المسبوقة التي تضع حداً حاسماً سريعاً لكل من يسوّل له غروره العبث بوحدة الأمة العربية». مقتطف من بيان الأزهر في اليوم الثالث للعدوان السعودي - الإماراتي على الشعب اليمني.
شيخ الأزهر لم يكتفِ بتأييد العدوان على شعب شقيق واعتبار ذبح الآلاف «صحوة عربية»، بل صرّح بأن قصف «أنصار الله» للسعودية دفاعاً عن بلادهم المستباحة من آل سعود هو «استفزاز لمشاعر ملايين المسلمين». وسارعت جامعة الأزهر بعد أقلّ مِن عام على بدء العدوان، إلى استنكار فتوى منسوبة لأحد أساتذتها، وهو الشيخ أحمد كريمة، تفيد بأن قتلى السعودية في اليمن ليسوا شهداء بل بغاة، وقالت إن «الفتوى شاذّة» قبل أن يتراجع كريمة نفسه ويقول إنه لم يدل بأي فتاوى بخصوص اليمن وتحالف السعودية. ثمّ تحوّل الأمر إلى شيء شبيه بالمهزلة التي يعتبرها نجيب محفوظ أصدق إبداعات الإنسان، إذ أنه بعد أربع سنوات مِن بدء العدوان، ندّد بابا الفاتيكان في زيارته إلى الإمارات بالمقتلة المنصوبة للشعب اليمني، بينما شيخ الأزهر يقف إلى جانبه دون أن ينبس ببنت شفة، أو كما يقول المصريون: «عامل نفسه من بنها».

الشيخ السياسي
فهم أستاذ العقيدة في جامعة الأزهر، أحمد الطيب، معنى الاقتراب من السلطة مبكراً؛ لذا بادر إلى الانتماء إلى «الحزب الوطني الديمقراطي» الحاكم، ومن ثمّ تسلّل إلى مكتبه السياسي إلى جوار ثلة من رموز النخبة المصرية التي تربّت على الأحلام الناصرية، وجرى تسمينها في زمن انفتاح السادات لتبشر في حقبة مبارك بالانعزالية والاستسلام للعولمة وإسرائيل (المفارقة أنه كان مِن ضمن المعارضين، بعض مِن رموز حركة كوبنهاغن لتسويق التطبيع، وكان على الشعب المصري أن يختار بين قبيحين للأسف). ثم قفز الشيخ إلى لجنة السياسات (هذه المرة إلى جوار الصحافي عضو «حزب العمال الشيوعي» السري السابق، مجدي الدقاق، وبارون الاحتكار أحمد عز، ولصوص كثر للمال العام) المخوّلة بتعبيد الطريق أمام توريث الحكم إلى نجل الرئيس الأصغر جمال مبارك.
كانت السلطة سخيّة مع الشيخ، إذ ترأّس دار الإفتاء مِن 10 آذار/ مارس 2002 إلى 27 أيلول/ سبتمبر 2003، ثم رئاسة جامعة الأزهر من 28 أيلول/ سبتمبر 2003 إلى 19 آذار/ مارس 2010، ثم تولّى المنصب الديني الأهم في مشيخة الأزهر وصار الإمام الأكبر الثامن والأربعين في 19 آذار/ مارس 2010. وصدر عدد جريدة «الدستور» المقربة من المخابرات العامة ورئيسها عمر سليمان بعنوان «عضو المكتب السياسي للحزب الوطني شيخاً للأزهر»، ما أدى إلى استقالة الشيخ مِن الحزب في نيسان/ أبريل من العام نفسه، لذرّ الرماد في العيون، في سلسلة من الأحداث لم تنجل طلاسمها إلا بعد سنوات من انتفاضة يناير وسيكون عنوانها الأبرز: الصراع بين الجنرالات ورجال الوريث.
شيخ الأرهز هو الوحيد الذي حافظ على منصبه في زمن السيسي، وحصّن مقعده مِن عواصف التعديلات الدستورية


الطيب لم يتأخّر عن محاولة دعم نظام مبارك المتهاوي، وأصدر أثناء اعتصام المصريين في ميدان التحرير البيانات تباعاً؛ أولاً عن «المطالب العادلة»، ثم تحدث في آخر عن «عواقب الفوضى» لتنتهي سلسلة بياناته قبل خلع مبارك بيوم واحد إلى أن «التظاهرات حرام شرعاً». لم تسعف استغاثات الشيخ رئيسه مِن مصيره المحتوم. لذلك، سيتحول الطيب سريعاً إلى نصير للثورة وشبابها وسيقدم في نيسان/ أبريل على شيء استعراضي، ويعلن التخلي عن راتبه لصالح الاقتصاد المأزوم، في محاولة غزل واضح للميدان الثائر، وسيحاول بعدها لعب دور الوسيط بين القوى السياسية المدنية والدينية. تلك المرحلة بدأت في أيار/ مايو 2011 عندما استقبل في مقر مشيخة الأزهر في حي الدراسة القاهري وفداً من قيادات الإخوان.
الشيخ الطيب ليس إخوانياً، لكنه، في الوقت نفسه، لا يمانع مِن تديين المجتمع. وقد تسببت إدارته لجامعة الأزهر المتساهلة مع التيارات الدينية في ما عُرف إعلامياً بـ«العرض العسكري لميليشيات الإخوان داخل الحرم الجامعي» في نهايات عام 2006، وخلافاته مع الإخوان بعد صعودهم إلى الحكم كانت بسبب محاولاتهم الاستيلاء على منصبه مع إشارات واضحة إلى انتمائه إلى النظام السابق.

الحجّ إلى ديوان ابن زايد
في عام 2013 بعد أحداث الحرس الجمهوري ومقتل بعض أنصار الإخوان بعد أنباء تردّدت أن الرئيس الراحل محمد مرسي مُحتجز هناك، تغيّرت معالجة الشيخ للتطورات السياسية، وبدا أنه يتراجع عن دعمه السابق للجيش على وقع مزايدات عنيفة مِن حاضنته الدينية التي يمثّل الإخوان جزءاً مهماً منها، ولجأ إلى أسلوب لي ذراع الدولة بمكانته الدينية، وأعلن أنه سيعتكف في بيته احتجاجاً على الأحداث (هذا الأسلوب يعرفه المصريون جيداً وكان السبّاق إلى تنفيذه البابا الراحل للأقباط شنودة الثالث، وكان يعتصم غالباً في دير وادي النطرون). من هنا، بدأ الشقاق بين السيسي وشيخ الأزهر، وهو النزاع الذي سيلجأ الطيب على إثره إلى دولة الإمارات باعتبار حكّامها العدو الإيديولوجي للإخوان، وتحتاج إلى غطاء ديني في حربها ضد التنظيم في كل الدول العربية، وقد كان هذا الغطاء هو الأزهر الشريف.
وثّق الشيخ الطيب علاقته مع ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، وقدّم كل منهما خدمات كبيرة للآخر؛ الشيخ هو المسؤول المصري الوحيد الذي حافظ على منصبه في زمن السيسي، وحصّن مقعده في مشيخة الأزهر مِن عواصف التعديلات الدستورية الأخيرة، بعد تدخل مباشر مِن أبو ظبي، واستفاد مِن منح مالية هائلة لصالح المؤسسة الدينية الرسمية.
في المقابل، انحرف الشيخ الطيب بالأزهر عن تاريخه الطويل في الوسطية (شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت اعترف بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً للمسلمين السُّنة)، وبات من المعتاد رؤية الشيخ الطيب مع بابا الفاتيكان، فيما مِن النادر أن يتحدّث عن التقارب بين المذاهب الإسلامية، وهذه مفارقة تستحق التأمّل، وسيحاسبه التاريخ على تحالفاته السياسية دون كثير نظر إلى موقفه من فاشية السيسي ومحاولاته التدخل في الشأن الديني، لأن السيسي وابن زايد يندرجان في خانة واحدة ضد آمال التحرّر ويعملان سويّة على تحقيق أمن إسرائيل والتبعيّة لأميركا.

إعلام المخابرات والشيخ
وجد شيخ الأزهر نفسه وحيداً بلا آلة صحافية في مواجهة الإمبراطورية الإعلامية للنظام من الصحف القومية والخاصة التي استولى عليها بالإضافة إلى عدد كبير من الفضائيات، فسعى إلى تحديث جريدة «صوت الأزهر» ومجلة «الأزهر»، وتأسيس «بوابة الأزهر الإلكترونية» وغيرها مِن المنصات بدعم إماراتي مالي وتقني.
الواقع الجديد في مؤسسات الصحافة المصرية متردٍّ إلى حدّ بعيد، ليس فقط على مستوى السقف السياسي وتعليمات «أبانا الذي في المخابرات» إلى رؤساء التحرير، بل وصل الأمر إلى مستوى المحررين، بعد ابتعاد العديد بالسفر أو البطالة، ولم يبق على فوهة نشر الأخبار سوى المتردية والنطيحة وما يعفّ السبع عن أكلها. لذلك تتسرب، بين الحين والآخر، أخبار كاشفة ومهينة أيضاً لسيطرة الذي في المخابرات، ومنها ما نشرته ثلاث صحف خاصة قبل أكثر من عام بعد مناوشات السيسي والطيب في الاحتفال بذكرى المولد النبوي في نوفمبر 2018، وسرعان ما حذفت الصحف الثلاث الخبر مِن مواقعها الإلكترونية. كان الخبر المحذوف يفيد بأن المئات من الأشخاص ذهبوا إلى «دوار» آل الطيب في الأقصر وأرادوا الخروج في تظاهرة للتنديد بالحملة التي يتعرّض لها الإمام من الصحف، حسب الخبر، ومحمد الطيب، قطب الطريقة الصوفية الخلوتية والشقيق الأكبر لشيخ الأزهر، منع المحتجين مِن التظاهر.
في كانون الأول/ ديسمبر 2018، بعد أقل من شهر من تظاهرة دعم الإمام، بدا أن ثمة ترتيبات تجري في الغرف المغلقة في شأن تغيير في مسألة المواريث على غرار ما فعله الرئيس التونسي الراحل قايد السبسي بالمساواة بين الرجل والمرأة، لأن ملفات المرأة والأقباط، بالإضافة إلى الهجرة غير الشرعية، يستخدمها السيسي باستمرار في تقديم نفسه للدول الغربية بوصفه نصير النساء والأقلية الدينية من جهة، ومن أخرى حامي الحدود الأوروبية من تدفقات بشرية عالمثالثية لا حصر لها. وحدث أن نشر أحد أساتذة الأزهر القريبين من جهاز الأمن الوطني في جريدة «الأهرام» - صوت الدولة شبه الرسمي - مقالاً يطالب صراحة بالمساواة. على إثر المقال، اجتمع مجلس كبار العلماء وأصدر بياناً عاصفاً، ملوّحاً بأن الشعب المصري لن يسمح لأحد، أياً كان، بالاقتراب مِمّا اعتبره «ثوابته الدينية»، مهدداً، في الوقت ذاته، بأنه حال الإقدام على ذلك، فإن شرعية أيّ نظام على المحك لأنه يخالف «المعلوم مِن الدين بالضرورة». كان البيان واضحاً، الطيب يهدِّد السيسي بالثورة.
تحرك الأب الرؤوم لرؤساء تحرير الصحف سريعاً ووضع نص البيان على غروب خاص بالأوامر على تطبيق «واتسآب»، وشدد على عدم الإشارة بأي شكل إلى البيان، وسيوافيهم بعد قليل ببيان جديد. ارتبكت صالات التحرير في القاهرة على وقع الأزمة، لكن الجميع التزم بالأوامر ولم تجرؤ أي صحيفة على النشر، حتى وصل بيان آخر من المفتي شوقي علام يقطع بأنه لا اقتراب من المواريث، وأن الدولة ملتزمة تماماً بالنصوص القطعية للقرآن. نشرت الصحف الخاصة والقومية بيان المفتي، وسجّل شيخ الأزهر انتصاراً جديداً على السيسي.
في الواقع، دائماً ما ينتصر الشيخ الطيب حتى الآن بفضل داعميه في أبو ظبي، لكن انتصاراته لها ضريبتها مِن قيم المؤسسة الدينية التي يجلس على مقعد قيادتها في وقت عصيب، ويدفع ثمنها العالم الإسلامي كله، لأن تحالفات الإمام الأكبر تؤسِّس واقعاً جديداً ينفي الإسلام ذاته، ويكرس الكراهية ويخلف وراءه أرضاً «مفروشة بالجثث والمصاحف».

* كاتب مصري