شهد العصر الحديث امتداداً لمفهوم الحدود السياسية مِن البرّ إلى البحر (والجو)، بحيث صار للدولة ــــ إلى جانب حدودها البرية ــــ حدود بحرية حيثما يتاح ذلك (وحدود أخرى جوية)، الأمر الذي يضاعِف من الإشكالات والنزاعات الحدودية المنتشرة أصلاً أينما كان. تُعيّن الحدود البحرية السياسية في مياه البحار والمحيطات المدى المائي الذي تمارس الدولة سيادتها وحقوقها عليه، كما على اليابسة من أراضيها، وُتعتبر الحدود السياسية في المسطحات المائية، وفق القواعد الدولية المتعارَف عليها، خطوطاً تحيط بمساحات من المياه المكوّنة للبحار والمحيطات. ‬
حداثة الحدود البحرية ‬
لم تُعْنَ الدول في الماضي، كما تُعنى اليوم، بالمسألة الحقوقية الخاصة بمياه البحار والمحيطات. كانت هذه المياه، على مشارف القرن الثامن عشر، موزعة على نطاقين بالنسبة إلى الدول الأوروبية التي كانت تشهد أنشطة بحرية تجارية وعسكرية متصاعدة: الأول يٌغطّي مساحات مِن المسطحات المائية بعيدة نسبيّاً عن الشواطئ، وتُعتبر بحاراً حرّة، حيث سُمّيت باللاتينية mare ،liberum منفصلة عن التأثير المباشر لعموم الدول؛ والثاني يغطّي مساحات مائية قريبة من الساحل، تَفرض عليها الدولة المشاطئة لها أو المعنيّة بها سيطرتها بالقوة، وتتعامل معها على أنها ملك لها، وسمّيت باللاتينية mare clausum. ‬
خلال القرن الثامن عشر، اتّسع النطاق الثاني الملحَق بالدول الساحلية المقتدرة، وصار يغطّي المساحة المائية التي تطاولها مدفعية الدولة المشاطئة لها، والتي كانت حدودها تقع على بعد يتراوح ما بين 2 و5 كيلومترات عن الشاطئ، أي المسافة التي كانت تتعامل معها المدفعية في ذلك التاريخ. على أنّ التقدّم العلمي والتقني واتّساع حركة الملاحة البحرية واستثمار ثروات البحار والمحيطات، ثم ازدياد حمولة النقل البحري ونتائجها الاقتصادية والسياسية على مدى القرن التاسع عشر، جعل مِن الحقوق البحرية الدولية مسألة ملحّة، فلم يعد في الإمكان التغاضي عنها، وإلّا دبّت الفوضى في مختلف المجالات المتعلقة بالتعامل مع البحار والمحيطات. لكن عمليات التداعي الجدّي لإجراء الاتفاقات في شأن الحقوق البحرية لم تبدأ إلا في القرن العشرين الذي شهد عدة مؤتمرات دولية للبحث فيها، بعدما عمّ الشعور بضرورة تعيين حدود سياسية بحرية تفادياً لتضارب مصالح الدول المطلّة على البحار والمحيطات والفصل بينها، وللبحث أيضاً في تنظيم التعامل مع المياه البعيدة والتي لا بد وأن تكون مشتركة بين العموم. فكان أن عُقد أول المؤتمرات في هذا الشأن في مدينة لاهاي من هولندا عام 1930 برعاية «عصبة الأمم» التي كانت قد تأسّست عقب الحرب العالمية الأولى، وأخذت على عاتقها العمل على فضّ الخلافات بين الدول. لكن المؤتمر لم يصل إلى نتائج حاسمة، لذا  تلاه مؤتمرات عدة في جنيف، تكفّلت بها «منظمة الأمم المتحدة»، وريثة «عصبة الأمم» بعد الحرب العالمية الثانية. انتهت المؤتمرات المتتالية، أخيراً، بعد مفاوضات وتعديلات عديدة، إلى إبرام اتفاقية «مونتيغو باي» (Montego Bay) ــــ مدينة من جامايكا ــــ والتي دخلت حيّز التنفيذ عام 1994، بعدما وقّعتها 117 دولة. اليوم، تشكّل هذه الاتفاقية المرجع الأساس لحلّ النزاعات الحقوقية البحرية، على الرغم من أنها تعاني مِن ثغرتين تحدّان من فعاليتها في المجالات التطبيقية: الأولى توقيع الولايات المتحدة إنما دون التصديق عليها، أي دون الالتزام القانوني بها؛ والثانية موقف دول الداخل القاري الحذِر منها. فالأولى تنال حكماً من إجراءات الاتفاقية المذكورة، ولا سيما متى تعارضت مع مصالح الولايات المتحدة التي قلّما تقيم وزناً يذكر للاتفاقات الدولية، والثانية تتمثّل في ما يمكن أن يُثار مِن توتّر في العلاقات الدولية، يتسبّب به تحفظ الدول القارية الداخلية لاستبعادها مِن المفاوضات في شأن الحقوق البحرية، رغم ما تبديه مِن إلحاح على إشراكها في استثمارات المياه الدولية باعتبارها إرثاً إنسانياً عاماً. ‬
على أنّ كل ذلك لم يمنع اتفاقية «مونتيغو باي» مِن أن تحظى بهذا القدر أو ذاك من التوافق الدولي على اعتبارها منطلقاً للتعامل مع  التقسيمات الحقوقية لمياه البحار والمحيطات.   ‬

تقسيمات مياه البحار والمحيطات
تتراتب التقسيمات المائية البحرية والمحيطية انطلاقاً مِمّا يُدعى «خط الأساس البحري»، وهو عبارة عن خط مستقيم يصل بين رؤوس النقاط البارزة لشاطئ الدولة المطلّة على البحر، شرط أن لا يبتعد عن الاتجاه العام للشاطئ، على أن يؤخذ به كخط تماسٍ بين اليابسة والمياه عند تشكُّل الجزر في حدّه الأدنى. وقد جاء ترتيب تقسيمات مياه البحار والمحيطات على النحو الآتي: ‬
ــــ المياه الداخلية: هي البحار المغلقة وشبه المغلقة، الألسنة البحرية، الأجوان (جمع جون) والخلجان (جمع خليج)، ويتخذ الخليج عند اليابسة شكلاً نصف دائري، ولا يُعتبر خليجاً وفق اتفاقية «مونتيغو باي» إلا متى كان قطره لا يتعدى مسافة 24 ميلاً بحرياً، (والميل البحري يساوي 1852 م). وتبقى المياه الداخلية جزءاً لا يتجزّأ مِن أراضي الدولة المعنية بها لجهة ممارسة سيادتها عليها. ‬
الحوض الشرقي للبحر المتوسط مقبل، بفعل التنقيبات الغازية والنفطية الجارية فيه، على إشكالات ونزاعات حدودية بحرية سياسية وحقوقية


ــــ المياه الإقليمية: هي امتداد لأراضي الدولة على اليابسة وجزء لا يتجزّأ منها، شأنها في ذلك شأن المياه الداخلية من حيث ممارسة سيادة الدولة المعنية بها. تصل حدود المياه الإقليمية في عرض البحر إلى 12 ميلاً بحرياً، انطلاقاً من «خط الأساس البحري» على الشاطئ. ‬
ــــ المياه الاقتصادية الخالصة: تمتدّ حتى مسافة 200 ميل بحري، ويحقّ للدولة المشاطئة لها اعتبارها مجالاً لأنشطتها في مختلف الاستثمارات البحرية والمحيطية من منجمية ونفطية وغازية... وسائر الثروات السمكية والحيوانية، إنما دون ممارسة السيادة الحصرية عليها.
ــــ مياه البحار العليا: في ما مضى، كانت تغطي المساحات الواقعة إلى ما وراء المياه الإقليمية، ولكن بعد سريان مفعول اتفاقية «مونتيغو باي»عام 1994، صارت تعني المساحات المائية الواقعة إلى ما وراء «المياه الاقتصادية الخالصة»، وليس لأيّ دولة الحقّ، وفق الاتفاقية المذكورة، في أن تضع يدها على أي جزء منها، أو جزء من قيعانها البحرية أو بالأحرى المحيطية، وبالتالي فهي مجالات حرة وتُعتبر إرثاً إنسانياً مشتركاً. 
الواقع أن مسألة تقسيمات المياه البحرية والمحيطية وحدودها، تنطوي على تعقيدات تجعلها مصدراً لإشكالات بين الدول، أكثر خطراً مِن تلك التي تنتجها الخلافات في شأن الحدود البرية، ولا سيما أن مختلف الأفرقاء يلجأون في تعاملهم مع البحار والمحيطات ــــ من وقت إلى آخر ــــ، إلى تجاهل الحدود الدولية فيها، أي المقرّرة بموجب اتفاقية «مونتيغو باي». كما أن الدول تختلف في ما بينها لجهة الأخذ بالتقسيمات المذكورة في المجالات التطبيقية. ذلك أنّ خط الأساس البحري الذي تنطلق منه الأقيسة، يثير في حدّ ذاته إشكالات عديدة لاختلافه من مكان إلى اخر بحكم علاقته بحركات المدّ والجزر التي تتباين، تبعاً لأشكال المسطحات المائية وطبيعة السواحل التي تحفّ بها، وتبعاً  لاختلاف الخصائص الفيزيائية والكيميائية للمياه... الأمر الذي يجعل لكلّ حوض من الأحواض المائية، في البحار والمحيطات، حركات مدّ وجزر خاصة به ومستقلة عن غيره. هكذا، على سبيل المثال لا الحصر، فإن عملية المدّ والجزر التي تحصل في البحار شبه المغلقة، مثل البحر الأبيض المتوسط وبحر البلطيق أو البحر الكاريبي، تبقى متواضعة بحيث لا تتعدّى المتر الواحد، في حين أنها تصل على بعض السواحل الأطلسية إلى 20 كيلومتراً... وعلى هذا، تتغيّر مقاييس التقسيمات البحرية والمحيطية من مكان إلى آخر بتبدل المساحة التي تغطّيها حركة المدّ والجزر. 

مداخلات دولية
تتخذ بعض الدول قرارات في شأن تحديد «مياهها الإقليمية» أو «مياهها الاقتصادية الخالصة» مِن دون العودة إلى المرجعيات الدولية. فثمة دول تقرّر أن تجعل حدود مياهها الإقليمية دون مسافة الـ 12ميلاً المقرّرة في اتفاقية «مونتيغو باي»، بحيث لا تتجاوز ثلاثة أميال مثل: ألمانيا، بلجيكا، أوستراليا، كوستاريكا، كوبا، الولايات المتحدة، هندوراس، إيرلندا، أيسلندا، هولندا والمملكة المتحدة، ودول أخرى تقرّر بأن تكتفي بمياه إقليمية لا تتعدى مسافة 4 أو 6 أميال بحرية، مثل: اليونان، تركيا ، النروج، فنلندا... وغيرها. في المقابل، فإن بعض الدول تريد أن تحوّل مجمل ما يحقّ لها من «مياه اقتصادية خالصة» إلى مياه إقليمية خاصة، حال: الأرجنتين، الإكوادور، البرازيل، بنما، بيرو، سان سلفادور وأوروغواي في أميركا اللاتينية؛ بينان، كونغو، برازافيل، غانا، نيجيريا، ليبيريا، سيراليون والصومال في أفريقيا. أما تشيلي، فتذهب إلى أبعد من ذلك، وتعلن عن إرادتها في مدّ حقوقها إلى ما هو أبعد من «المياه الاقتصادية الخالصة». ‬
يعود الاختلاف بين الدول في مواقفها مِن التقسيمات المائية في البحار والمحيطات إلى علاقات الجوار  بين بعضها البعض، حيث تبرم في ما بينها اتفاقات جانبية تنظِّم المشاركة في استثمار المياه التي تطلّ عليها أو البعيدة عنها، بما يؤمِّن شروط تفادي تضارب المصالح الخاصة بكل منها. أما الدول التي تطالب بحقوق إقليمية واسعة من حيث المساحة، فلأنها ترى أن ذلك حق لها ينبثق عن النسب الكبرى لأطوال سواحلها قياساً على غيرها.
إلى ذلك، فإن توزيع اليابسة والمياه على سطح الكرة الأرضية قد يُدخل على مواقع الدول حالات تختلف من مكان إلى آخر؛ فالدول المحاذية للبحار الضيقة، مثل الأدرياتيك، والبحر الأحمر...، يكون تقاسم المياه في ما بينها مسألة لا يمكنها أن تعتمد في حلّها على ما يرد في اتفاقية «مونتيغو باي» بخصوص المياه الإقليمية، إذ لا تتوفر في هذه البحار مسافة 12 ميلاً بحرياً لكل دولة من الدول المطلة عليها، الأمر الذي يحتِّم إجراء  توافقات محلية مستقلة عن القوانين الدولية، وغالباً ما تكون هذه التوافقات معرّضة للانتكاسات مِن وقت إلى آخر بحكم ما يطرأ مِن مستجدات على موازين القوى أو على المصالح الاقتصادية الخاصة بهذه الدولة أو تلك مِن الدول المعنية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الدول المطلّة على المساحات المائية الواسعة، ولا سيما المحيطية منها، تجد «مياهها الاقتصادية الخالصة»، في معظم الأحيان، عرضة للاختراقات المتعدّدة مِن قِبَل أساطيل الصيد الكبرى أو مِن القطع البحرية العسكرية التابعة للدول النافذة إقليمياً أو دولياً. ‬
وعليه، يتبيّن مِن مجمل ما تقدَّم أن الحقوق البحرية والتقسيمات الملازمة لها لا تزال، على الرغم مِن الجهود الدولية الساعية إلى تنظيم التعامل معها، بعيدة عن تأمين الحلول المريحة للجميع. يُستشف من كل ذلك، في ما يعني منطقتنا، أن الحوض الشرقي للبحر المتوسط مقبل، بفعل التنقيبات الغازية والنفطية الجارية فيه، على إشكالات ونزاعات حدودية بحرية سياسية وحقوقية، قد تصل إلى تصادمات متعدّدة المقاييس تشكِّل امتداداً  لتلك التي تحتدم  في محيطه الشرق أوسطي على «أرضٍ لا تهدأ». ‬
 ‬
لمزيد من التفصيل في جيوبوليتيكا البحار، انظر: معين حدّاد «إشكالية المكان دور البر والبحر في الصراع بين الشرق والغرب والعالم الإسلامي»، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 2015. ‬

* أستاذ جامعي ‬