... والمستطيع هو محمود عباس... ولا هي لمراد المؤسسة الأميركية الحاكمة منه توقيع صك كفيل بحزمة كوارث تضاف على ما فوق رأس الشعب الفلسطيني من مصائب وتؤبدها.منذ عام ونيف تحدثت عن جدية المسعى الأميركي وضراوته لفرض تسوية نهائية للصراع العربي _ الإسرائيلي، مبعثهما عاملان متناقضان في الظاهر ومترابطان في العمق:
1ــ تقدير واشنطن أن قوى الإعاقة معاقة... والحديث هنا عن إيران وسوريا والمقاومات المتحالفة معهما، فيما حماس قد تدحرجت من طور المقاومة إلى محضن الإخوان، فخرجت من حسابات الأولى، ولم تفز إلا بالنوازل من الثانية.

ومن ثم ففرصة واشنطن للنفاذ بتسويتها قد أطلّت وأخيراً بكامل هيئتها ومن دون كثير حاجة لمراعاة «تزيد» المفاوض الفلسطيني.
2ـ تقديرها أنّه طالما ورهان كسب سوريا معاقٌٌ بقوة صد معسكر الخصم، فالتعويض في فلسطين موقوت، بل كفيل بإضعاف ذلك المعسكر، وبما قد يفضي إلى العودة للكسب في الشام، ولو بعد تأخير.
لم تكن قناعتي حينها مثار استساغة لفرط ما لحق مساعي «السلام» السابقة من فشل مزمن مدعاته - حقاً وفعلاً - تصميم واشنطن الثابت، عبر نصف قرن، على فرض نسخة سلْمها... وحدها ولا شيء سواها.
على خلفية العاملَين أعلاه تحركت واشنطن بمثابرة لا تلين وراء سعيها إلى فرض تسويتها... وبرغم أنّ وفير مداد أهرقه كثيرون تحدثوا عن جبروت إسرائيل وقدرتها ورغبتها مجتمعتين على إفشال تسوية يريدها حليفها الأكبر. وكما اعتادت - عندهم - أن تفعل في كل السوابق، ولا سيما وهي - عندهم أيضاً - في أحسن حال اقتصاداً وأمناً ومقاماً. مقولة تصبّ في سياق تصور وتصوير إسرائيل سيدةً للقرار الأميركي، فيما واقع الأمر أنها جزء نسغي وامتداد عضوي للولايات المتحدة، نسيجاً ومؤسسةً وقراراً ودوراً ومقاماً... لا تقل بشيء، إن لم تزد، على أي من ولاياتها الخمسين. من هنا فعلاقتها بالمركز علاقة طرف به... نعم يمكن أن يؤثر لكنه يتأثر بأكثر، بل وبكثير، ولا سيما إن تباينت الرؤى حول مسألة، فكيف بتلك الفلسطينية.
والحاصل أن مقاربتي - تاريخياً - لموضوعة التسوية انطلقت، وما فتئت ومن زاوية أميركية هي عندي الأساس، ومنذ ما بعد حرب السويس أي مذ بدء الصراع العربي _ الأميركي وتعاقبت أطواره: الترويض - مبدأ أيزنهاور، الغواية - مبيعات القمح، العقاب - الانفصال، الاستنزاف - اليمن، والتصفية 67 -70، ليصل عدد من أطرافه العرب - مصر على وجه الخصوص - إلى ولوج حِقب السطو والتبعية، بل والعبودية.
والشاهد أنّ قرار واشنطن منذ يوم 11 حزيران 1967 كان عدم السماح بتسويةٍ تشمل انسحاب إسرائيل الكامل من الأراض المحتلة (67) لقاء إنهاء حالة الحرب. ثم كان غضّ الطرف عن استيطانها الضفة ورقة مساومة ثمينة مقابل أساسيات القضية الفلسطينية، فضلاً عن السماح بضم القدس الشرقية، ولحين يطول، جائزة شكر لنجاحها الباهر في مهمة 76.
والحال أنّ ما همّ واشنطن منذ ذلك التاريخ كان أولاً إخراج مصر من معادلة الصراع، وتحقّق لها ذلك مع أنور ساداتي. وكان ثانياً لحاق حافظ الأسد به، وهو ما لم يتحقق لها البتة بفعل أن «الشام» هو ما يدور الصراع فيه وعليه... أما همها النهائي فهو إنتاج كيان فلسطيني في الضفة والقطاع، يكون ملحقاً بإسرائيل ومتخلياً عن مرامي العودة والتحرير.
قراءة واشنطن لراهن المشهد تقول: مصر على حالها ولا خشية من تغير... سوريا غارقة في دمائها... حماس «في خبر إخوان»... وعباس عاجز إلا على الانصياع.
ولكن، هل صحيح أن قبول عباس بتسوية كيري قدر مقدور؟ الجواب هو بلا مؤكدة... لماذا؟ لأن ولوج الولايات المتحدة عصر الأفول (أكرر: ليس السقوط) سمح ويسمح، وسيزداد سماحه، باتساع هامش حركة المرتبطين بها، ممن هم غير راضٍ عن موقفها من أمرٍ يهمه، وتزاول عليه ضغطاً يمجّه بغية تماشيه معه... نلحظ هنا صنفان من المرتبطين: من لا حيلة لهم إلا الاتكال على الولايات المتحدة، لعضويّ صلته بها، ولاستحالة مغادرتهم مجرّتها إلى منظومة أخرى: إسرائيل والسعودية مثالان ساطعان على هذا الصنف. في المقابل، فالصنف الثاني هو ممن يمتلكون بدائل يمكن الاستعاضة بها عنها، إن طاولها وهن كما الحال الآن... أبرز مثالين من هذا الصنف هم: نوري المالكي، مستنداً إلى حائط إيراني... وحميد قرضاي، متكئاً على سند روسي _ هندي _ إيران.
استطاع المالكي أن يصرّ على تضمين اتفاق sofa في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 فقرة انسحاب أميركي تام خلال سنوات ثلاث، ثم صمم على إنفاذ هذا الانسحاب بحذافيره عندما أزف وقته، رافضاً بثباتٍ بقاء قوة إعاقة أميركية مع حلول موعد الانسحاب نهاية 2011.
يكرر قرضاي المسار ذاته الآن برفضه القاطع توقيع اتفاق sofa، وحتى آخر يوم من ولايته الشهر القادم - وبرغم موافقة اللوياجيرغا المشروطة على مسودته - وهو ما يكفل اضطرار واشنطن إلى سحب كامل قواتها نهاية العام، حتى ولو قبل خلَفه التوقيع، إذ لن تدور عجلة الموافقة والإنفاذ إلا مع آب القادم، وحينها يكون قد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان... بذا يحبط الرجل رغبة واشنطن المحمومة في استبقاء قوة إعاقة مهمتها التدخل في آسيا الوسطى، المحطة القادمة للتوتير بعد أوكرانيا ومولدافيا و... سوريا.
معطوفاً على أداتي القياس أعلاه، هل من حواضن إقليمية وكونية لعباس تتمكنه من قول لا؟ لنستعرض الأمر:
1ــ لا قبل لإيران بإمرار تسوية منقوصة للملف الفلسطيني لما لذلك من تأثير سلبي فارق على وجودها شرق المتوسط، وجودٌ ضاعف من أهميتها الجيوستراتيجية وحولها من دولة برزخ مهمة، بين قزوين والخليج، إلى قوة إقليمية عظمى، متحالفة مع «سوراقيا»، ومقررة في ملف الصراع مع إسرائيل. الثابت أنّ أوزن أسباب تحرق واشنطن على اختراق نخبة الحكم الإيرانية هو إخراج إيران من هذا الصراع، وردّها شرقاً إلى البرزخ. ولعل حادثة سفينة السلاح الإيرانية المتجهة إلى غزة دلالة بينة على موقف إيران الفعلي من تسوية كيري.
2ــ ليس في وسع سوريا إمرار تسوية منقوصة، فذلك يتركها وحيدة في العراء من دون جولان مسترَدّ، وفق تسوية شاملة مُرضية. إسهامها في إرسالية السلاح المحمول على الباخرة الإيرانية دليل على توثبها لإعاقة كيري... عبر تسخين موقوت من القطاع، ولا سيما أن ليس لسوريا ما تخسره أكثر تبعاً لتلك الإعاقة. فلقد صبّت عليها واشنطن كل ما يمكنها صبّه من حمم ولم تنل وطرها كما اشتهت بالتمام، وإن كانت قد خلّفت تشوهات خطيرة في الاجتماع والعمران السوريَّين.
3ــ ليس من حافز لروسيا أن تكون عراباً لتسوية أميركية تأخذ من درب حليفها السوري، ولا تعطيه قيمة مضافة. نعم، هي مؤيدة لتسوية نهائية للصراع العربي _ الإسرائيلي، ولضمان أمن إسرائيل في حدود 67... لكن ما ينظم مقاربتها للتسوية نواظم ثلاث:
أن تكون هي سيدة قرار الطاقة شرقي المتوسط، وعلى إسرائيل أن تندرج في ناموس تلك السيادة، وهو أمر لم يتأتَ لروسيا بعد.
ألا تخرج واشنطن بصولجان صانع السلام، دون مشاركة روسية وأن يكون الجولان جزءاً من التسوية.
الآن، هل بإمكان محمود عباس أن يقول لا؟ فالتلويح بوقف التمويل الغربي لسلطته مردودٌ بواقع أن إسرائيل ستكون حينها هي المسؤولة عن احتلال ثلاثة ملايين فلسطيني، أمرٌ تخففت من أعبائه بحبورٍ تام منذ أنعم عليها أوسلو بذلك.
الأهم، هو أن سمتين أميركيتين واسمتين لاتفاق الإطار الأميركي المقترح هما من صنف ما لا تستطيع حتى روابط القرى (المنحلة) بلعه وهضمه: يهودية إسرائيل، ووحدانية مرجعية «الإطار».
لماذا تصر واشنطن على يهودية إسرائيل؟ ببساطة لأنها تبغي قبر السردية الفلسطينية للصراع، وإبطال مشروعيتها، وجعل مئة عام من نضال الشعب الفلسطيني - وشعوب أمته العربية - من أجل أرضه وحقوقه وقضيته فعلاً قبيحاً منكراً، استحق هزيمته - بل ونالها - على يد سردية صهيونية تملك «حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره على أرضه التاريخية» والقوة، يقرّ لها الشعب الفلسطيني بخطيئته، ويسبغ على أحقيتها بركة قبوله.
ترجمة ذلك العملانية هي إسقاط حق العودة. أما من يمطّ «اليهودية» إلى ترحيل وترانسفير من 67 أو 48، فهو تزيّد لا مكان له من الإعراب، ببساطةْ لاستحالته الآن وما قبل وفي كل آن. في المقابل، فمقصد «اليهودية» الآن عقائدي، وليس إجرائياً كما في لغة قرار التقسيم.
لماذا تصرّ واشنطن على وحدانية مرجعية «الإطار»؟ لأنها تريد له أن يجبّ ما قبله من قرارات الشرعية الدولية، من أول 181 إلى 194 ووصولاً الى 242... وكلها مما أوردها صداعات مزمنة ناكسة أن أوان سحبها من التداول مرةً وإلى الأبد، فيضْحي «الإطار» المرجعية الوحيدة الناظمة للمسألة الفلسطينية، ونقطة آخر السطر... أي لا تقسيم ولا عودة ولا تعويض ولا عدم جواز الاستيلاء بالقوة على أراضي الغير... كلها إلى متاحف التاريخ الفاقد الذاكرة.
في بال واشنطن أن اتفاق الإطار هذا يفضي تبعاً إلى اتفاق تنفيذي ينظم الترتيبات الميدانية للتسوية. في هذا الصدد، تشدد نتنياهو يشدّ من أزر كيري في الضغط باتجاه اليهودية ووحدانية مرجعية الإطار.
عند واشنطن إن الأهم مع إسدال عصر الأفول أستاره أن يكون امتدادها العضوي - إسرائيل - في وضع آمن وطبيعي، ولا سيما أن دورها الوظيفي آفل بدوره، في توازٍ مع السيد.
هل من مصلحة أو حافز لمحمود عباس في التملص من تسوية كيري؟ كل المصلحة وكل الحافز... ولو بالسلب، إذ المطلوب جسيم، وتحمل وزره فوق الطاقة، وعقابه بغير حساب.
هل يستطيع حماية قراره بالتملص؟ خلفه كل الفصائل ومحور الممانعة وروسيا... أي شبه آمن. ما الذي هو مقبل عليه؟ أظنه لن يضع إمضاءه على صك الإطار... فحسبة الورقة والقلم، ومنطق التاريخ، وموازين القوى كلها تصرخ: تستطيع أن تقول لا.
* كاتب عربي