واهم من يظن أن حكومة الرئيس حسان دياب ستتمكن من السيطرة على الأزمة وستضعها، بالتالي، على طريق الحل الذي تتمناه الأكثرية الساحقة من المتضررين. أسباب عديدة تقود إلى هذا الاستنتاج السلبي أو المتشائم. أول هذه الأسباب عمق الأزمة واتساعها وشمولية الخسائر والأضرار التي نجمت عنها بما وضع البلد في حالة خراب وإفلاس وعجز وفشل. ثانيها أن حكومة حسان دياب لم تولد من محصلة ميزان قوى راجح لمصلحة إحداث تغيير كبير بحجم ما تقتضيه معالجه الأزمة. إنها وليد ضغط شعبي احتجاجي جعل من غير الممكن استمرار الممثلين أنفسهم في تأدية الأدوار الرئيسية مباشرة، ما فرض تغييرهم بممثلين آخرين من ضمن المسرحية نفسها. ثالث هذه الأسباب أن قوى الانتفاضة والاحتجاج لا تملك أحد أبسط شروط النجاح في هذه الحالات: هي غير موحدة الهدف والقيادة والأولويات. أما رابع هذه الأسباب فيكمن في أن قوى التغيير الوطنية القديمة والحديثة، المشاركة في الاحتجاج والإنتفاضة لا تمتلك، هي الأخرى، مشروعاً موحداً يوجَه ويفعِّل حضورها في الساحات وعلى المستوى الوطني. هذا فضلاً عن ضعف هذه القوى التي هي، بأطرافها أيضاً، تتخبَّط بين الفعل ورد الفعل، عاجزةً، قبل الإنتفاضة وأثناءها، عن بناء موقع قيادي جبهوي ومشترك. موقع متنامي الحضور والتأثير يؤهلها لتصبح شريكاً في مشهد الصراع العام، وبالتالي شريكاً في تعديل التوازنات وصنع التسويات والحلول والسياسات اللاحقة. يضاف إلى ذلك سبب خامس يمثله وجود تأثير جدي على حركة الاحتجاج الشعبي، من خارجها، لتوظيفها: مرةً، في الصراعات بين أطراف السلطة، ومرةً ثانية في خدمة مشاريع خارجية أبرزها، راهناً، مشروع تصفية القضية الفلسطينية الذي يحمل إسم «صفقة القرن». هذا المشروع هو امتداد لمشاريع عدوانية سابقة منها مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي حاول المحافظون الجدد، في إدارة بوش الإبن، فرضه بقوة الغزو العسكري والحرب «الاستباقية» ابتداء من أوائل القرن الحالي: عبر احتلال أفغانستان، ومن ثمً العراق قبل حوالي 17 سنة.الأزمة كبيرة وخطيرة جداً. هي أكبر وأخطر من كل التقديرات السابقة بشأنها. ذلك لإنها، فعلاً، عميقة وشاملة وجذرية. هذا يفترض أن تكون المعالجات والحلول، ولو تمرحلت وتجزَّأت، مندرجة من ضمن خطة ذات طبيعة شاملة وجذرية أيضاً.
هذا الأمر لن يحصل من دون جملة شروط تقع مسؤولية فرضها على قوى الانتفاضة عموماً، وعلى القوى الوطنية التغييرية من ضمنها، على وجه الخصوص. أول هذه الشروط امتلاك قناعة راسخة بأن الأزمة مفتوحة (وعلى الأسوأ من الاحتمالات غالباً)، وأن المواجهة ينبغي أن تكون، بالضرورة، مفتوحة ومستمرة بالمقدار نفسه. هذه المواجهة مرت بـ «بروفة» أولى، ينبغي أن تكون موضع مراجعة ودرس بحيث تأتي مرحلتُها الثانية أفضل وأفعل وأوسع من المرحلة الأولى. من شروط ذلك السعي لبلورة توجه عام مشترك بشأن توحيد قوى الانتفاضة، وتوحيد أولوياتها ومطالبها السياسية والاقتصادية، وتوحيد تحركاتها بحيث تصبح أكثر تصميماً ومثابرة وأوسع مدى وأبعد تأثيراً في مشهد الصراع العام. ذلك يستدعي الخروج من العفوية الساذجة أو المفتعلة أو المخادعة، من دون التخلي عن استقلالية الإنتفاضة وعمق ارتباطها بالهم والمصلحة الشعبيين. الأزمة ذات أبعاد سياسية واقتصادية ومالية. المنتفضون ينبغي أن يعتمدوا برنامجاً يتضمن كل هذه العناوين. أي أنه برنامج يتعاطى مع الأسباب والنتائج السياسية والإقتصادية والإجتماعية بشكل متماسك ومتكامل. إن إقرار برنامج موحًد سيساعد، بدرجة كبيرة، في الحد من التدخلات المغرضة أو المشبوهة (لسبب داخلي أو خارجي)، وسيضعف كثيراً محاولات استغلال التحرك الشعبي، أو صرفه عن أهدافه الأساسية.
دور قوى التغيير الوطنية، في هذه العملية، بالغ الأهمية. هو سيكون مبعثراً وملتحقاً وقليل الفاعلية فيما لو استمر على الوتيرة الراهنة. لذلك فإن الحلقة الأساسية هي في التحوُّل نحو دور إيجابي سيكون بالضرورة، دوراً وطنياً وإنقاذياً، إذا ما تجاوزت هذه القوى صعوباتها وفئوياتها وانتقلت إلى التشكُّل في مشروع وطني: موحَّد الأهداف المرحلية والقيادة والأولويات وصيغ النضال المناسبة. وحدها القوى المذكورة، تستطيع من خلال بناء مركز وطني جبهوي، إحداث تغيير جوهري في مشهد الصراع. القوى التي حكمت البلاد عبر منظومة محاصصة ونهب وفساد وتبعية ما زالت قوية وذات مواقع مفتاحية في السياسة والاقتصاد والأمن والإعلام والإدارة وفي الوسط الشعبي. كذلك، فالقوى الخارجية تملك الكثير من عوامل التأثير والضغط والتخريب، خدمة لأهداف تتعدى الوضع اللبناني إلى مجمل الوضع الإقليمي. مواجهة هاتين لن تنجح بقوى مفككة وضائعة وعاجزة.
ذلك يملي إجراء انعطافة جذرية في عمل القوى الوطنية التغييرية. تنطلق هذه الانعطافة من ورشة حوار وطني مسؤول يبلور صيغة ومشروعاً جبهويين. هذا المشروع هو، أولاً، أكثر ما تحتاجه هذه القوى نفسها، للخروج من أزمتها. وهو، ثانياً، حاجه وطنية عامة. وهو، ثالثاً، أحد أنجع السبل من أجل الحفاظ على انجازات الشعب اللبناني وتضحياته المشهودة، في مواجهة اعتداءات واستهدافات المشروع الصيهيوني الأميركي للسيطرة على لبنان وللتحكم بكامل مصائر وثروات شعوب المنطقة.
قوى وبرنامج وصيغة هذا المشروع ستكون موضوع القسم الثاني السبت المقبل.
* كاتب وسياسي لبناني