بهدوء... وبعدَ صدْق التجربة في العمل السياسي والنضالي، وأنا كنت أحد القريبين من «الحزب الشيوعي اللبناني»، لفَتتني مقالات ومقاربات عدّة تتناول الحزب ونشاطه وعمله، وتنتظره بتتبُّعٍ عند كلِّ منعطف ومفترق، وكأنَّ البقية الباقية من الأحزاب آلهة منزَّهة عن الأخطاء، والأصغر شأناً فيها متورِّط حتى الأذنين في مفاسد السلطة، أو بأسوأ الأحوال متفرِّج على هذه المهزلة والمَفْسدة لبلد اسمه لبنان. وقد لفتني مقال للزميل أسعد أبو خليل صادر بتاريخ: 15/2/2020، بعنوان: «المصالحة والتنسيق بين الحزب الشيوعي وحزب الكتائب»، وقد وردَت فيه معلومات كثيرة، منها ما هو محقٌّ، ومنها فيه الكثير من التجنّي والافتئات، وأنا هنا لا أحاسب العمل السياسي بمفعول رجعي لسنوات الحرب الأهلية اللبنانية، بل انطلاقاً من الحدث المستجد على الساحة بحسب ما يقتضيه نضوج الظروف النضالية الموضوعية. وقد بتنا اليوم في لبنان أمام تحوُّلات سياسية واجتماعية، لم تقرأها أحزاب السلطة الكلاسيكية والعلمانية منها، كما قرأها «الحزب الشيوعي اللبناني» بعد 17 تشرين، لا بل منذ انتفاضة النفايات عام 2015 التي أجهضتْها سلطة الأحزاب الطائفية والمذهبية.لا نقدر أن نحاكم ونجلد ذاتنا وغيرنا نضالياً، انطلاقاً من ظروف الحرب الأهلية اللبنانية وتحالفاتها التي طُويت صفحتها عام 1990، فمن الخطأ القول مثلاً: هل «الكتائب» يخجل باللقاء، فيما يزهو به الحزب «الشيوعي»؟ أو القول: يبدر عن الجيل الجديد من «الشيوعيّين» اللبنانيّين (الواقعين تحت تأثير بروباغندا هائلة لـ ١٤ آذار ــــ وهي بروباغندا ناجحة)، حدّة في العداء ضد «حزب الله» تفوق الحدّة في العداء ضد اليمين الانعزالي...
علينا أولاً أن نحدِّد من هو اليمين في لبنان. هل يتمثَّل فقط في حزب «الكتائب»، أم في الأحزاب الدينية بحسب ممارساتها؟ طيِّب هذه الكُتل الطائفية والمذهبية، المقاومة منها وغير المقاومة: كيف تعاطت مع الأحزاب النضالية والعلمانية المقاومة بعد اندثارها؟ أليس عن طريق الإقصاء والإبعاد؟ فماذا أبْقوا لـ«الشيوعيين» ولغيرهم من مساحة سياسية للتعبير والقبول؟ وما الذي يُفرِّق هؤلاء عن أحزاب اليمين المسيحية التي كانت تسمَّى انعزالية؟ فالأزمة الحقيقية اليوم بالتحديد، هي حيث برزت صورة الانتفاضة العارمة للشعب اللبناني، وظهرت كحالة مخيفة تطلب الدولة المدنية وسيادة القانون ومحاسبة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة وتعديل سلوك المصارف وتأميمها، وهي مطالب تلقى تجاوب كل الشعب اللبناني وقبوله، وبمختلف تلاوينه. لكنّ المشكلة الحقيقية، أن لا تلقى التجاوب والترحيب من قبل الأحزاب الطائفية وتكتّلاتها المذهبية، فسار بها ومعها وغذّاها «الحزب الشيوعي اللبناني»، ودوَّر زواياها حزب «الكتائب اللبنانية»، رغم عدم اقتناعه بها واقتناعنا بصدقيّته، وشعوراً منه بعدم الوقوف بوجه جموع الناس المنتفضة، باستثناء أحزاب فريق 8 آذار وغالبيّته، والتي كان مِن المُمكن أن تشكّل له هذه المطالب الفرصة الملائمة لإعادة تصحيح المسار والتصويب على بناء الدولة الحقيقية والقادرة الخالية من الفساد، حمايةً للمجتمع المقاوم، فهذا هو إخفاقهم الحقيقي كون الفكر الديني لا يقبل بمدنية الدولة وبعلمانيتها.
وعليه، كانت أحزاب السلطة كلّها، المقاوِمة وغير المقاومة، لا تجد حَرَجاً في تقاسم النفوذ والحكم حتى مع عُتاة اليمين الانعزالي في لبنان بمسلميه ومسيحييه، لكنَّها تخجل حياءً من اللقاء مع «الحزب الشيوعي» ومناصريه والتنسيق معهم، حتى لو كان ذلك في أحْلَك الظروف التي مرّت بها المقاومة إبّان استهدافها عام 2006.
صحيح أن هناك اختلافاً في معايير الأحزاب البورجوازية عن تلك التي في الأحزاب الشيوعية كونها أحزاباً عقائدية، لكن الثبات على عقيدة بصرف النظر عن شعبيّتها أو انعدامها، كما يورد الأستاذ أسعد أبو خليل، معايير لا تصحُّ اليوم لأنَّ طبيعة الظروف الاجتماعية والنضالية والحراك الجماهيري مختلفة عن السابق، وإلّا لماذا نتّفق مع حركة «أمل» الحزب النضالي مثلاً، و«المستقبل» و«التيار الوطني الحر» وما هي الضرورة لذلك؟ أَلَم يَحْقُن رئيس «التيار الوطني» جماهيره بالحُقَن الفئوية والطائفية والمذهبية طوال عشر سنوات؟ فلماذا كانت وكيف للمقاومة أن تبرِّر حاجتها إليه في تغطيته المسيحية لعمل المقاومة؟ وكيف نفهم هذه المقاربة مثلاً؟
إذاً، المشكلة هي في المياومة السياسية عند كلِّ الأحزاب التي تناولت السلطة، وليست عند «الحزب الشيوعي» جراء لقائه بحزب «الكتائب» واغتباطه به. فلا نقدر أن نعيش حالات النوستالجيا الدائمة في صراعاتنا التاريخية التي مرّت علينا، حتى لو عاد الزمن بنا إلى الوراء أيام الحرب الأهلية فإني أؤكِّد بأن اختيارنا سيكون منصبّاً على غير هذه المواقف وغير هذه التحالفات، بدليل أن ما وصلنا إليه من تظلُّم ووحشية في ممارسة الحكم في لبنان ومن التفاف التكتّلات المذهبية، ومن ترهُّلٍ في الأحزاب الطائفية المتلطّية بحركة النضال الفلسطيني وقضايا التحرير، لَهُوَ أمر أصعب بكثير ــــ ولا يُقاس ــــ من بناء تحالف أو تفاهمٍ مع حزب هزيل يميني شاخ وكَبُرَ في السن، فيما لا تزال الجذور الطائفية والمذهبية عميقة تحفر نهباً وسرقة وفساداً في أجساد الفقراء من أبناء الوطن، الذين كانوا يعوِّلون على التحرير وبناء الدولة المدنية، وعلى ما كان مفترضاً أن نسمِّيه اليسار الحقيقي للبناء الاجتماعي.

*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية