يعتقد معظم الناس أن الجهل ينتفي حكماً بالتعليم، وتبعاً لهذا الاعتقاد يكفي أن يكون الشخص متعلماً ويحمل شهادة ما، على اختلاف درجة التحصيل العلمي واختصاص الشهادة التي يحملها، لتنتفي عنه صفة الجهل. ويصبح مخولاً الخوض في أي شأن من شؤون الحياة والناس، بل وقد يصبح شخصية ذات شأن ومكانة اجتماعية، مهنية، اقتصادية، إعلامية، سياسية وغيرها، علاوة على ذلك يصبح من الممكن جداً أن يتولى زمام أمور، ويمتلك سلطةَ قرار في مكان ما.
وهو ما نراه اليوم منتشراً على نحو كبير على جميع الصُّعد، فنرى الشخص الذي يظهر تحت عباءة عائلة أو جماعة أو جهة سياسية أو إعلامية أو دينية أو اقتصادية أو أي جانب أخر من جوانب الحياة المؤثرة في المجتمع. ليتقدم متكئاً على إرث ما أو فرصة ما أو خطة، للوصول إلى سدة منصب وقرار، أو للظهور على منابر إعلامية أو دينية أو حزبية، لكن النتائج السلبية التي أنتجتها بعض هذه الشخصيات ووصلت أحياناً كثيرة إلى درجة إلحاق الفشل والهزيمة بمجتمعاتها وحواضنها ومرجعياتها، وتسببت بالخراب والتدمير لمؤسساتها وبلدانها، تدفع بنا إلى التفكير ملياً بأسباب ومبررات هذه النتائج. لنكتشف دون عناء كبير أن الجهل عندما يجري تعريفه وتوصيفه على نحو صحيح، يبرز كواحد من أهم الأسباب التي أوصلت هذه المجتمعات بوجود وتزعم هذه الشخصيات إلى حالتها المزرية.
عُرِّفَ الجهل في معجم اللغة على أنه نقيض العلم أو هو عدم المعرفة بالشيء، ويعرَّفُ العلم بأنه إدراك كلي، والمعرفة هي إدراك جزئي، أما التعليم، فهو عملية نقل أسس المعرفة ومن ثم التدريب على استخدامها للحصول إلى المعرفة والسَّعي للوصول إلى العلم، لكن التعليم لا يحقق دائماً الغاية التي يرجوها، ونتائجه ليست واحدة وثابتة، بل مختلفة ومتفاوتة، والمحزن أن التعليم في حالات كثيرة لا يحقق جدوى تستحق الذكر، بسبب تفاوت الإمكانات العقلية والفكرية للأشخاص، واختلاف أهدافهم من طلب التعليم.
فإذا تعاطينا مع المعلومات اللغوية السابقة كنسب وحالات رياضية، نجد أن الجهل يتناسب عكساً مع المعرفة والعلم. فكلما زادت نسبة المعرفة والعلم انخفضت نسبة الجهل والعكس صحيح. والتعليم هنا يأخذ دور الوسيلة التي قد تسهم في رفع أو خفض هذه النسب، أما الشهادات التي قد يحصل عليها الشخص نتيجة حصوله على التعليم، فهي لا ترتبط حكماً بارتفاع نسبة المعرفة والعلم، لكونه من الممكن الحصول عليها لأسباب كثيرة تتعلق بالإنتاج الكمي والمادي من التعليم، لا بالإنتاج النوعي والمعنوي منه، لذلك من الممكن أن نرى أشخاصاً يحملون شهادات بمستويات مختلفة، إلا أنهم لم يرفعوا نسبة العلم والمعرفة، بل قد يتمتعون بنسب عالية من الجهل، لتمسكهم بأفكار وقناعات وإيديولوجيات نقشت في عقولهم ولا يرغبون في تغييرها أو تطويرها، لأنها تحقق لهم مصالح ومكاسب خاصة ترضيهم.
فإذا أسقطنا ما سبق على الواقع الحالي للأزمات والحراكات في جميع ساحاتها في المنطقة، والتأثيرات والنتائج السلبية الكبيرة والكثيرة لشخصيات قائدة وفاعلة ومؤثرة فيها، وللغالبية العظمى من أفراد القواعد الشعبية لهذه الحراكات، نرى أنّ الجهل هو السمة الأكبر التي اتسمت بها غالبية المشاركون في هذه الحراكات على اختلاف مسمياتها، وغالبية من تعاطى مع هذه الحراكات معارضاً أو مؤيداً لها. فكان كل مكون من مكونات هذه الحراكات ينطلق في حراكه على أسس خاصة به، ولغايات وأهداف تحقق مصالحة ورؤيته للنهايات والخواتيم عبر الطرق والوسائل التي يقتنع بأنها توصله إليها، ويعتمد في سبيل ذلك على روافع ذاتية، أو على دعم خارجي تختلف أيضاً منطلقاته وغاياته وأهدافه من هذا الدعم.
واستناداً إلى النتائج التي وصلت إليها هذه الحراكات، تبيّن أن معظم هذه المكونات تجهل الأسباب الحقيقية التي أنتجت هذه الحراكات والأهداف الحقيقية المباشرة وغير المباشرة، كما أنها تجهل أيضاً المعطيات والمعلومات. ولا تجيد قراءة الواقع وتحليله على نحو صحيح، أو استقراء واستشراف المستقبل، وتعاملت مع الأزمة معتمدة على نسب متدنية من المعرفة والعلم نتيجة تغليبها المصالح الشخصية والأهداف الوهمية والصغيرة والسهلة، أو نتيجة تغليبها الإيديولوجيات في أحيان كثيرة على ما عداها من ثوابت ومبادئ، أو أسس وأولويات.
ولا ننسى دور هيمنة أطراف خارجية أو قوى داخلية لها أجنداتها الخاصة ومشاريعها التي تسعى إلى تنفيذها في المنطقة، في قرار وتوجه هذا الحراك، ما يؤدي بالنتيجة إلى عجز هذه الحراكات عن رؤية الصورة بتفاصيلها الكاملة وارتباطاتها الجغرافية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، وغيرها من الارتباطات، وعدم القدرة على قراءة الواقع والمستقبل على نحو يعتمد على المعرفة والعلم والاطلاع والدراية الكاملة بالمعطيات والحقائق والأسباب والأهداف، ما يجعلها تفصل الساحة عن محيطها وارتباطاتها. وتقيِّد نفسها بمبررات وأسباب جعلت هذا الحراك بعيداً كل البعد عن حقيقة ما يجري على الأرض، وجعلت نفسها دون أن تدري، وأحياناً بمعرفتها، أداة بيد من لا يريد الخير لهذه الساحة أو تلك، بل شاركت في تحقيق غايات وأهداف أطراف معادية لهذه الساحات وتسعى إلى تدميرها، بعدما عجزت هذه الأطراف عن تحقيق غاياتها بوسائل أخرى، فاستثمرت الجهل وأصحابه لتحقيق ذلك.
وهو ما انعكس على نحو كبير ومؤثر وأحياناً كارثي على بلدان هذه الحراكات، كما حدث في دول «الربيع العربي»، ومنها سوريا، حيث ترجم أبناء البلد الواحد هذا الجهل نتائج أغرقت بلدانهم في مستنقعات الدم والقتل والخراب والتدمير والتهجير، وأخذته بعيداً عن دوره الحقيقي المستهدف، وهو مقاومة المشروع الذي وإن أشرك إسرائيل تكتيكياً في هذا المشروع، إلا أنه في الاستراتيجيات يعدها تفصيلا من تفاصيل الصورة النهائية، التي يريد أن يرسمها للمنطقة، ويسعى في سبيل ذلك إلى استخدام كل الأساليب والوسائل التي يمكن أن يوفرها لتحقيق هذه الغاية، ويعد الجهل أهمها، حيث نجح هذا المشروع حتى الآن بنسبة كبيرة في تصنيع وتوفير مناخ ملائم لوجود مجموعات وأفكار وقناعات يعتقد بعض القائمون عليها (حيث أن البعض الأول يعلم وينفذ ما يؤمر به) وغالبية عناصرها أنهم على الطريق الصواب الذي يوصلهم ويوصل بلادهم إلى الغاية المنشودة والمستقبل الموعود، ورُفعت في سبيل ذلك شعارات وضعت هذه الحراكات في سياقات محددة وصغيرة، تناسب هواجس فئوية ومذهبية وحزبية وعرقية ومناطقية. جميعها قوَّضت جوهر غالبية الحراكات، وضللتها، وقزَّمت في المقابل القضايا الكبرى والأهداف والغايات لما يناسب جهلها، واستنزفت على نحو مقصود ومدروس طاقات وإمكانات المكونات المتصارعة في البلدان المستهدفة التي ابتليت بالأزمات، ما حقق أكبر المكاسب لأصحاب المشروع الذي يستهدف المنطقة بكل بلدانها ومكوناتها.
* اعلامي سوري