منذ 17 تشرين الأول الماضي، يدور نزاع على وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيّد بالمطلق للتظاهرات ورافض بالمطلق لها. ينطلق المؤيّد ممّا يرغب به، وينطلق الرافض ممّا يتخوّف منه. كلاهما يتصرف من موقع المحبة والحرص، إلا أنهما يستخدمان أدوات تحليل مختلفة وينظران إلى الأزمة من زوايا متباعدة. هذا الواقع يذكّر بقصة تقول: «إنّ فارسين من فرسان القرون الوسطى التقيا عند نصب قديم فاختلفا في لونه، أحدهما يرى أنه أصفر والآخر يرى أنه أزرق. والواقع، أنّ النصب كان أصفر وأزرق في آن واحد، حيث كان مصبوغاً في أحد وجهيه بلون يخالف لون الوجه الآخر. ولم يشأ هذان الفارسان الباسلان أن يقفا لحظةً ليتبيّنا لون النصب من كلا وجهيه، لقد كان همّ كل منهما مُنصَبّاً على تفنيد الآخر وإثبات خطئه. وكلّما اشتدّ الخصام والجدل بينهما، ازداد إيمانُ كلٍّ منهما برأيه الخاص. وهذا النزاع بينهما أذهلهما عن تبيُّن الحقيقة الوسطى، ودفع بهما نحو التعصُّب وشدّة العداء». ربما هذا حال كثر على المقلبين. مَن ينزل إلى الشارع مناضلاً من أجل وطن أفضل، ومَن يقاوم قوى الشر والإرهاب من أجل وطن أفضل أيضاً، أكثر عدالة وقوة وحرية وكرامة لجميع مواطنيه. لكنَّ هذا المشهد على وسائل التواصل الاجتماعي هو جزء من مشهد أكبر، يعكس تضخّم الأزمة وتعقُّدها بين مسارها الداخلي وروافدها الخارجية. جزء من السلطة والحكومة الراحلة لم يبدِ أي استعداد للدخول في حوار جدّي مع مَن هُم في الشارع. جزء آخر ليست لديه النية للتخلّي عن مكاسب حصل عليها بشقّ الأنفس. العماد ميشال عون يتحسَّس مؤامرة الإطاحة به. «التيار الوطني الحر» لا يؤمن بسياسة التنازلات من جانب واحد. حزب الله لا يمكنه المشاركة مع شارع لا يعرف مَن يحرّكه ولا يعلم مطالب موحّدة له، ويحذّر من أن تتحول الشعارات النبيلة المرفوعة بشأن الإصلاح السياسي والاقتصادي ومكافحة الفساد، ومحاسبة الناهبين، إلى سياسات مُنظَّمة تتَّصِل بعملية إضعاف موقعه في المعادلة الداخلية والإقليمية. «الكنيسة» مُتَوجِّسة من الفراغ والحرب الأهلية وهجرة المسيحيين مجدّداً. الرئيس سعد الحريري يعيش عقدة «هولوكست» صنعها لنفسه. جنبلاط لا يجد طريقة للتخلّص من مشاعره المتناقضة. جعجع، يتحسّرُ على «جنّته المفقودة» ويتمنى لو يعود قائداً عسكرياً. «الكتائب» لا يساعد نفسه على التخلّص من أوهام الماضي. حركة «أمل» لا تهتم لما كانته، بل فقط لما ستصير إليه حالها. «المردة» يحتفظ لنفسه ببطاقة الاعتراض على العهد. قوى أخرى على ضفاف 8 آذار أو 14 آذار تشارك في ما يجري بصفة المراقبة.
أميركا أخذت دوراً رئيسياً في الأزمة، ولم يكن سياق العقوبات والتضييقات وإرباك الواقع النقدي «خطوة خطوة» بتاتاً تطوّعاً بالخير لإنقاذ البلد، وإنّما كان في إطار الدوافع الاستراتيجية لدورها وصدارتها في المنطقة والعالم. فرنسا انحصر دورها في الاستطلاع وتقديم الاقتراحات. السعودية تتوارى عن موقع القيادة في إدارة الملف اللبناني، بترك الأزمة تضغط على الجميع وكأنّها في خصومة مع الأصدقاء والأعداء على حدّ سواء.
«الشارع» اليوم ليس «ثورة». يطيب للإعلام والمتحمّسين أن يصفوه بذلك لكن الحقيقة العلمية لا تهضم هذا النعت


الإمارات وتركيا قوتان صاعدتان على الساحة اللبنانية، تباشران عملياتهما ذات التأثير المحدود ولكنهما تعتبرانها بداية جيدة للحلول محل السعودية التي ابتعدت بفعل قوانين العمر، وسوريا بسبب اختبارات الحوادث... هؤلاء جميعاً وغيرهم كثر يملؤون مخاوف اللبنانيين وأحلامهم وحيرتهم التاريخية، بإيجاد وطن مستقر لم تحتمله الظروف القديمة ولا الدعاوى المتعارضة الآن!
حالياً، وبعدما تشكّلت الحكومة، يأتي السؤال عمّا إذا كان من الممكن فكّ الاشتباك بين مَن هم في الشارع وبين الحكومة الجديدة التي ألّفتها الأكثرية النيابية؟ الجواب: الإمكانية مُتاحة مع افتراض المشهد التالي:
1ــ أن تتوقف المجموعات الموجودة في الشارع عن التعامل بنوع من الاستعلاء «الثوري»، وتكفّ عن تصوير نفسها وكأنها «الممثل الشرعي الوحيد للشعب اللبناني». وكذلك عن رفع الشعارات الإقصائية والشعارات الملتبسة التي تعمل لتوجيهها في إطار حدود تقدرها بنفسها. وأن تنخرط في حوار مع الحكومة ضمن محاولات إطفاء الحريق ووقف النزيف والبحث عن الحلول الوطنية الصحيحة.
2 ــ أن تسعى الحكومة التي تواجه أزمة خيارات ضاغطة، إلى سلسلة من الإجراءات الإصلاحية العاجلة تتماشى مع المرحلة وضروراتها. الحكومة مطالبة بأسلوب مختلف في الفكر والسياسات والحركة والأداء، بأن تقتنع أنها بحاجة إلى نصر بقوة الناس، فتفاوضهم من موقع الضعف بلا تعنُّتٍ وفَوقية. كذلك، فإنها مطالبة بمراعاة ثلاث حقائق: الأولى: أنها حكومة أكثرية وليست حكومة وفاق وطني. ما يعني أنها أمام خطر السقوط بفعل الاختلال في موازين القوى. الثانية: إنّ قراراتها واقعة تحت ضغط شعبي وإعلامي وسياسي لم تتعرّض لمثله حكومة من قبل. الثالثة: إنّ ظروف الإقليم الملتهبة يمكنها أن تنعكس بالسلب على اتِّساع مساحة الانكشاف الأمني في الداخل، وبالتالي على أداء وبقاء الحكومة.
3 ــ أن تتساكن القوى الخارجية، التي كانت ترغب بحكومة تلبي شروطها، مع حكومة الرئيس حسان دياب. بحيث تتمسّك بتحفُّظاتها حول طريقة تشكيل الحكومة وهويتها ولكن لا تضغط لإسقاطها، ولا توعز لحلفائها في لبنان لممارسة أي توتير سياسي أو إذكاء للشكوك حول طبيعة الوضع الاقتصادي بما يؤدي إلى التشويش على عملها وعلاقاتها. وبعبارة أخرى، تترك الحكومة الحالية بلا دعم حقيقي يُخرج لبنان من أزمته، وبلا ضغط، فتضطرب معه الأمور أكثر وتؤدي إلى انهيار شامل وفوضى عارمة.
لكن، هل فعلاً ستمضي الأمور ضمن هذا التصور، أم أنّ المجموعات التي تتحرك في الشارع ستمارس المزيد من الضغط انسجاماً مع رفضها المطلق لهذه الحكومة، واستناداً إلى أنّ التأليف على النحو الذي تمّ به لا يرسم خريطة حل للخروج من النظام الطائفي، ولا يأتي بمستقلّين لتكون نهاية سليمة للأزمة بحسب زعمهم؟ ثم هل إنّ القوى الرئيسية التي خرجت من الحكومة، أي «تيار المستقبل» وحزب «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، ستقرّ بالهزيمة النفسية بعدما وُجّهت إليها تهمة الفساد وإيصال البلد إلى هذا المنحدر الخطير، وبالهزيمة السياسية التي قلّصت دورها بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، والآن بعد عدم قدرتها إعاقة الأكثرية عن تشكيل حكومتها ما لا يترك مجالاً للشك بتغيّر هائل في موازين القوى وتآكل لأدوارها؟ فهل تقف هذه القوى مكتوفة الأيدي، تحسّساً بالمخاطر الجسيمة التي تضرب البلاد، أم تتولّى التحرّك لاسترداد مواقعها ولو أدى ذلك إلى المزيد من التصدع في بنيان الدولة والسلم الأهلي معاً؟ ثم ماذا إذا كان التقدير حول مساكنة القوى الخارجية، التي وقفت في صف قوى الرابع عشر من آذار تاريخياً وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لحكومة حسان دياب خاطئاً، وأصرّت على وضع أقدامها بقوة داخل دوائر صنع القرار السياسي والاقتصادي في البلد ليصب في إطار تغيير الموازين مجدداً وإدارة الصراع وتوجيه نتائجه لصالحها بما يتسق مع مجريات «صفقة القرن»؟!
الأمر الآخر الذي يجب التوقف عنده يتعلق بالصدع في البنيان الاجتماعي، والذي لا يملك أحد أدوات السيطرة عليه ما يجعل النتيجة النهائية ضد الحكومة وليست لصالحها. فماذا لو عاد الناس للنزول إلى الشارع، لا بسبب شكل الحكومة وحصص القوى فيها، ولا بسبب انعدام التوازن بين قوى الثامن من آذار والرابع عشر من آذار، وإنّما بسبب الجوع!
«الشارع» اليوم ليس «ثورة». يطيب للإعلام والمتحمّسين أن يصفوه بذلك. لكن الحقيقة العلمية لا تهضم هذا النعت، مع التداخلات العجيبة في شؤونه. هذا «شارع» يصلح للمخرجين المتخصّصين بإعداد نهايات سعيدة لأفلامهم. «الشارع» هذا لا تسيّره المقادير الوطنية الصافية. ما يجري مجرّد تعبير سياسي عن دوافع متعدّدة لتحقيق أهداف متعدّدة. لم يرق «الشارع» إلى قوة سياسية تربط ناسه بالتزام وطني وتتّسع مبادئه لمقاربة واقعية وإنسانية، بما يتيح الانتقال من الإنشائيات والمناوشات الصغيرة إلى السياسة في أعماقها. لا صورة واحدة لـ«الشارع»، بل ارتباطات متغيرة ومصالح طارئة والتباسات مع قوى الداخل والخارج أيضاً. منذ السابع عشر من تشرين الأول، لم يغيّر الشارع من طبيعته وبالتالي علاقاته. تماماً كما فعل كل من تَعاقَب على السلطة. وربما لهذا السبب يعيش الجميع هشاشة مفتوحة على التاريخ، حتى تأتي الكتلة الحقيقية التي تصنعه. حينها، سيتوحّد مَن يرى النصب أصفر ومَن يراه أزرق!

* كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية