«لا يخيف أصحاب الحركة الصهيونية التهويل من بعيد والجعجعة. بل الشيء الحقيقي الذي يخيفهم هو الموت. ولو وجد في سوريا رجل فدائي يضحّي بنفسه في سبيل وطنه ويقتل بلفور، لكانت تغيّرت القضية السورية من الوجهة الصهيونية تغيّراً مدهشاً»أنطون سعاده 1925

كان كلّ شيءٍ زائفاً. عينا دونالد ترامب الملوّنتان، انكسار الضوء حولهما ببياضٍ فاقع، وضحكات بنيامين نتنياهو، الهارب من جريمة فساد إلى جريمة تاريخ. الحاضرون جمهور في مسرحٍ هزلي، دُعِيَ لتبادل الاعترافات مع المُهَرِّجَيْن. جلابيب «عرب الاعتدال» الواقفة في الهواء، كانت «كومبارس». تنوّعت انطباعات المشاهدين مع دهشةٍ عامّة (قصيرة الأمد). تماماً، كصدمة تهديد ترامب بقصف مواقع إيران الثقافية (مقدمة لحرب الآلة على الإنسان؟).
قبل ذلك بأيام، في أورشليم المحتلة، سَبَقَ التصفيقُ الصفقة. تظاهرة بألوان العتم. 50 «مقهوراً»، وحزين واحد نادم على الماضي من رؤساء العالم، حضروا على عجلٍ لمسح دموع نتنياهو، في «المنتدى الدولي حول الهولوكوست».
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يفتّش عن نجومية. وهو يحضّر لقانون تجريم معاداة الصهيونية في فرنسا، افتعل غضباً ومنع شرطياً صهيونياً من الدخول إلى الكنيسة. هل هو صراخ عاصمة كاثوليكية لحجز حصّتها من تركة الله المحتلّة؟
اكتفى البريطانيون بحضور الأمير تشارلز ووفد برلماني. جميل بلفور ومارك سايكس، أكبر من عتب نتنياهو.
في احتفال المهزلة، ظهر الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، وأَفَلَتْ أنجيلا ميركل. «الكفّارات» التي تدفعها ألمانيا منذ 70 عاماً ما عادت تكفي. العلاج الفعّال للشعور بالذنب في القرن الجديد، هو مباركة ذنوب الآخرين. السؤال للقرن المقبل: هل سيشعر الأحفاد بذنب آلام الفلسطينيين؟
الرئيس فلاديمير بوتين، كان نجم الحفل بشهادة الإعلام العبري. إسرائيل مدخل روسيا الجديدة إلى الغرب (إذا أحبّك الطفل، قَبِلَك الأهل ولو على مضض). لوبيات المال اليهودية تساعد روسيا في تجاوز العقوبات الأميركية. مليون روسي على أرض فلسطين يمنحون موسكو نفوذاً داخل الكيان. حصار الوحش البولوني أولويّة عند سيد الكرملين. وإسرائيل، «تساعد» أحفاد الجنود الحمر، في كشف التشويه الغربي لدور السوفيات خلال الحرب الثانية. أول «المكاسب»، استعادة أملاك للكنيسة الأرثوذكسية الروسية في القدس. روسيا إذاً حليف سياسي للجميع، من دون عواطف. تساعد سوريا على ضرب الجماعات الإرهابية، وتغضّ الطرف عن إرهاب الدولة اليهودية.
صفقة القرن، فعلاً. اختصار لمئة عامٍ من صناعة الوهم، وآلاف السنين من التزوير. أسوأ ما فيها، نقاش ضحاياها للتفاصيل. الإعلام العربي وبعض الإعلام اللبناني يغرق منذ الثلاثاء الماضي، بشرح الخطّة/ الصفقة: حدودٌ وأنفاق ومصادر رزق. بمعنىً آخر، تبسيط الموت للفلسطينيين بانفراج اقتصادي متخيّل.
الذين ضاقت بهم السبل، حتى صار موتهم سلاحهم، لا يناقشون المسألة الفلسطينية إلّا في جذر الصراع. والأصل، أن عصابات يهودية صهيونية جاءت إلى فلسطين بدعم دولي وخرافات تلمودية، هجّرت الفلسطينيين بقوة الدماء والسلاح والمجازر، وفرضت تغييراً ديموغرافياً عنصرياً لم يسبق له مثيل. لماذا النقاش في التفاصيل إذاً؟ الحل معروف: عودة كامل الأرض إلى الفلسطينيين، وعودة الفلسطينيين إليها.

هل ولدت الصفقة من فراغ؟
اتّسم الرد الفلسطيني، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، بالانتفاضات العفوية، المدنية والمسلّحة. استند أهل الأرض إلى حاضنة، سُمِّيت عربية وإسلامية. لكن الحاضنة تعرّضت لاهتزازات خطيرة. دُقّت المسامير في العروبة كحامل لحقوق الفلسطينيين، منذ صَمَتَ العرب على التقسيم الأوّل في عام 1947. إخراج مصر من الصراع في كامب ديفيد، مسمارٌ برتبة خازوق. توالت الطعنات. محاولة 17 أيار في لبنان، ووادي عربة في الأردن. أما المقتل، فكان أوسلو، وجنوح ياسر عرفات نحو صلحٍ منفرد. سجّل عرفات أوّل تنازل فلسطيني، حين بحث عن وطنٍ بديل، وسمح لمقولة: «نقبل بما يقبل به الفلسطينيون»، أن تصير نهجاً. ورث محمود عبّاس «الأوسلوية»، أو صنعها، وصارت خبزه. أما الحاضنة «الإسلامية»، فانقسمت اليوم، بين إيران وتركيا، مذ صار خادم الحرمين خادماً لإسرائيل أيضاً.
كل هذا، يدفع ترامب إلى الرهان من دون خوف. أن يُصرّ الرئيس الأميركي على اعتراف فلسطيني بيهودية إسرائيل، يعني أن النظرة الأميركية التقليدية للصراع تغيّرت، وأن الولايات المتحدة لم تعد تعترف بالهويات الوطنية أو الدول المركزية. وهذه «المراجعة» لحق تقرير المصير كشف عنها عديدون من مروّجي السياسات الغربية في مئوية سايكس ــــ بيكو قبل أربعة أعوام. وعلى هذا الأساس، فإن شعوب المنطقة، منطقتنا، ليست شعوباً كتلك التي استطلعت لجنة «كينغ ــــ كراين» في 1919 حق تقريرها لمصيرها. بل جماعات، دينية، يؤسس اعتراف ترامب بدولة يهودية، لاعترافه بها، دويلات سنية وشيعية وكردية ودرزية و... في محيط إسرائيل (هذا بالمناسبة، لا ينسحب على شرقنا فحسب. الدعاية الأميركية المكثّفة هذه الأيام حول مظلومية الإيغور في إقليم شيجيانغ الصيني، وتصريحات مايك بومبيو خلال جولته في آسيا الوسطى، وعودة الخطاب الطائفي والعرقي إلى البلقان من بوابة الجبل الأسود، تؤشّر إلى نصفٍ أول صعب من قرن ملتهب).
لوبيات المال اليهودية تساعد روسيا في تجاوز العقوبات الأميركية


حتى الفلسطينيون، لا يتعامل معهم ترامب ونتنياهو وجاريد كوشنير كتلة واحدة. هم ليسوا فلسطينيين أصلاً في حساب هؤلاء، بل سنّة ومسيحيون ودروز وبدو، لكل منهم قوانينهم ومصائرهم (لذلك صمت العرب ورفع رجب إردوغان صوته؟).
مسارٌ بدأ فعلاً مع سقوط بغداد بداية القرن، واستمر بـ«داعش» والحرب على سوريا. وبلغ الذروة، مع تحوّل السّكين (سلاح الفلسطينيين الذين لا سلاح لهم بوجه الماكينة العسكرية الإسرائيلية)، إلى أداة جريمة، بيد متطرفين يطعنون الأبرياء في شوارع المدن الأوروبية.

كيف تنجح صفقة القرن؟
لكي تنجح صفقة القرن، على إسرائيل أن تقضي على كل من يعترض طريقها. مشروع إبادة جماعية من الصعب تحقيقه، إن لم يكن مستحيلاً، بالأسلحة التقليدية. لكن، ما المانع، إذا اقتتل المعترضون والموافقون؟ أو حتى إذا اقتتل المعارضون في ما بينهم، على فُتات الدول والأفكار والأنظمة اللامركزية في الدوائر المفصّلة على قياس الطوائف والمذاهب والجماعات؟
في لبنان، مثلاً، بدأ فارس سعيد ومن مثله في الماكينة الإعلامية، الترويج لـ«السلام» ولـ«لبنان آخر» غير لبنان المقاومة. ويدفع الأميركيون، بخبثٍ كبير، الجيش اللبناني للخروج عن عقيدة ما بعد اتفاق الطائف، بما يؤسس أوّلاً لإسقاط دور الجيش الوطني الواحد، ولاقتتاله مع المقاومة، التي يصرّ ترامب وصحبه على وصفها بـ«جماعة حزب الله»، ليميّزها عن غيرها من اللبنانيين. تخيّلوا، أن ينجح فارس سعيد في تقسيم لبنان!
وفي العراق، دعوات التقسيم أعلى صوتاً من دعوات الوحدة: من الدستور المريض، إلى الاستفتاء على الاستقلال الكردي الذي وأده قاسم سليماني أوّل مرة، إلى تآمر المجتمعين في أبو ظبي للبحث عن إقليم سنّي في الغرب.
وفي الأردن، السيناريوات الأربعة التي وُضعت بين يدي الملك عبدالله، في أحلاها يحتفظ بسلطة معنوية، مقابل سلطة فعلية للفلسطينيين المهجّرين، في ملكيّة دستورية فوق وطنٍ بديل، يقتتل أهله، كل من موقعه على ضفتي نهر العمادة. والأنكى، أن إسرائيل، تخطّط منذ عامٍ على الأقل، لخطة وراثة عبّاس في الضّفة الغربية، بعد اقتتال داخلي وعشائري دامٍ تُسَعِّر ناره بين أشباح السلطة. لدى إسرائيل الجرأة أن تمدّ أعداءها المفترضين بالسلاح، مطمئنةً إلى وجهته.
تبقى سوريا، الدولة الوطنية التي لا تزال تقاتل، منذ عام 1970، ضد التقسيم، في لبنان وفي العراق وفي سوريا ذاتها.
إسرائيل لا تتنفّس، إن لم تكن وسط إسرائيليات لجماعات متناحرة، يكون النموذج اليهودي فيها هو الأقوى والأقدم وصاحب الدعم الدولي الأكبر.

كيف تسقط الصفقة؟
الأنباء الجيّدة، أن الصفقة ليست فرضاً «ترامبياً» على الفلسطينيين فحسب. بل إسقاط على اليمين الإسرائيلي «العميق»، الذي يرفض الحديث أساساً عن أي دولة فلسطينية أو أي حق فلسطيني في «أرض الميعاد» ولو على شبرٍ من الضفة، ومشروعه الأساس «أرض إسرائيل المتخيّلة» من الفرات إلى النيل. أمّا حجّة الرفض لدى لوبيات يهودية فاعلة داخل الولايات المتّحدة، فسببه «تهوّر» ترامب، لأن «قطع الأمل أمام الفلسطينيين بأي تنازلات إسرائيلية، وتهديد إيران بالحرب، ستدفع ثمنهما إسرائيل بلا شكّ، بما يهدّد مستقبل الدولة اليهودية».
إذا فكّر الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون وغيرهم من أصحاب الحقوق بأزمات الكيان لتفاءلوا، على أن لا يصير ذلك دافعاً للخمول. 70 عاماً، ولم تستطع إسرائيل فرض الاستقرار، لتقف الآن على عتبة الوجود: إما تكون الآن، أو لن تكون إلى الأبد.
أخطأ الأميركيون وإسرائيل حين اعتقدوا أن قتل سليماني يمنع خروج باسل الأعرج جديد أو عمر أبو ليلى آخر. وهل يمكن ضمّ الجولان واقعاً، من دون التخلّص من آلاف الجولانيين؟ وكيف يُرَوَّض الأردن، والفلسطينيون فوق الهضبة الأردنية يرقبون حقولهم وبيوتهم؟ المعركة، هي أن تستمر المعركة.
تنتهي الحروب بصيغتين لا ثالثة لهما. طرف منتصر يفرض على طرف مهزوم «صكّ استسلام». من قال إن الحرب في فلسطين انتهت؟ لا أحد يملك قرار إنهاء حق شعب في أرضه المسلوبة. كيف إذا كانت الأرض فلسطين، و«الطرف الآخر» عصابة تحاول أخذ شكل دولة. إلّا أن الحديث عن «نهجٍ سلمي» والقبول بالتفاوض على أساس القرارات الدولية بدأ يتردّد من جديد. طرفة أخرى من طرائف الـ 48 ساعة الماضية. إردوغان في الشمال يتحدث عن حق الدولة السورية في أراضيها، وصهيوني في الجنوب يتحدث عن وهب أرض ليست له. لم ينجُ لصوص الأرض يوماً بفعلتهم ولو عقدوا صفقات مع الشيطان... لقبض أرواحهم!