يستعد رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو لمرحلة جديدة على صعيدَي تاريخه السياسي الشخصي وتاريخ الحياة السياسية التركية، فمن أحد فنادق العاصمة التركية أنقرة أعلن رسمياً أنه قدّم أوراق حزبه الجديد إلى وزارة الداخلية التركية، لبدء إجراءات التسجيل تحت اسم حزب «المستقبل» وشعاره «ورقة خضراء من شجرة الدُّلْب».وقد ضمّ المؤتمر التأسيسي للحزب قرابة 154 عضواً، من بينهم أعضاء استقالوا من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، وجاء ذلك بعدما تقرّرت إحالة أربعة أعضاء خلال اجتماع اللجنة التنفيذية للحزب، والتي جاءت برئاسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى اللجنة التأديبية مُرفقاً بطلب لفصلهم نهائياً من الحزب، وعلى رأسهم أحمد داود أوغلو.
والأسباب المُعلنة وراء قرار تحويل أوغلو إلى التحقيق، وطلب الفصل، أنه جاء بعدما أصدر هذا الأخير بياناً ينتقد فيه سياسات أردوغان، بالإضافة إلى اتّهامات تتعلّق بقضايا فساد ترتبط بحصول جامعة «إسطنبول شهير»، التي أسّسها أوغلو على قروض من دون ضمانات تصل قيمتها إلى نحو 72 مليون دولار، بالإضافة إلى الاحتيال على «بنك خلق» الحكومي. وردّ أوغلو على هذه التهم، داعياً البرلمان إلى بدء التحقّق من مصادر ثروته، وفي الوقت نفسه التحقق مِن ثروة أردوغان وأفراد أسرته، وكذلك كبار المسؤولين الحاليين والسابقين. لكن يبقى السبب الرئيسي، والذي يعود إلى عام 2016، عندما بدأ الخلاف بين أوغلو والرئيس أردوغان، على خلفية انتقاد الأول لسياسات حزب «العدالة والتنمية» وكيفية إدارة الملف الاقتصادي للبلاد، بالإضافة إلى انتقاد أردوغان نفسه.
ومهما كانت الأسباب، فقد تم الانفصال النهائي بين أردوغان وأوغلو، تاركاً مساحات لتساؤلات بشأن ما إذا كان هذا الانفصال والصراع السياسي سيشكّلان ضربة قاسمة لنموذج إسلام السوق التركي، وخصوصاً أنّ الرجلين (أردوغان / أوغلو) برزا كجناحين في السياسية الخارجية والداخلية لتركيا، في ظلّ حكم حزب «العدالة والتنمية»؟ أم هل فقد أوغلو شعبيته في الشارع التركي، في ظلّ التراجع الديمقراطي والتحوّل في نظام الحكم الذي حدث وقت تبوّئه منصب رئاسة مجلس الوزراء؟ أم هل ما زالت شعبية أردوغان قويّة في حواضنه الشعبية التجارية، ما يقلّل فرص منافسه مهما كان قوياً؟
أوغلو بدأ الحرب السياسية باكراً، ذلك أن المتحدث باسم حزب «المستقبل» عبدالله أدباس أعلن أن أوغلو وضع السياسات العامة للحزب استعداداً للانتخابات المقرّر إجراؤها في عام 2023. ومِن المتوقع أن يستهدف أوغلو القاعدة الانتخابية نفسها لحزب «العدالة والتنمية»، من اليمين ويمين الوسط من أصحاب الهوى الإسلامي.
قد يكون أوغلو مشهوراً لدى طبقة الساسة العرب، بأنه صاحب دبلوماسية «صفر مشكلات/ أعداء»، ولا سيما أنّ هؤلاء الساسة كانوا يفضلون هذه النسخة من السياسة التركية. ولكن في الداخل التركي، كان هناك نقد دائم للسياسة الخارجية في ظلّ قيادة أوغلو، على اعتبار أنها لا تأتي بثمارها بل تجعل تركيا أكثر عزلة عن محيطها الإقليمي. وبعدما غادر هذا الأخير منصب وزير الخارجية، بدأت تركيا بدعم ميليشيات مسلّحة في سوريا وليبيا، وتساند الأذرع السياسية والعسكرية لجماعة «الإخوان المسلمين» في المنطقة العربية.
ومن هذه النقطة، يعزّز أردوغان حظوظه أمام خصمه أوغلو، فالأوّل يجذب القوميين الأتراك لسياسته التوسعية والتوهّم بعودة قوة تركيا كما كانت أيام الإمبراطورية العثمانية، ولكن بشكل دبلوماسي. هذا فضلاً عن أن شعبيته لدى القوميين المتطرّفيين نمت بعد حملته العسكرية على الأكراد في سوريا، ونجاحه في صناعة منطقة عازلة، قاضياً، ولو بشكل مؤقت، على مشروع قيام دولة كردية على الحدود التركية. وبهذا، يضمن أردوغان الأصوات القومية المتطرّفة إلى جانب حاضنته التقليدية من الإسلاميين، وطبقات التجار ورجال أعمال الأناضول الملقبين بـ«نمور الأناضول»، ما قد لا يجعل أوغلو يشكل خطراً كبيراً على سلطة أردوغان.
إلى جانب حظوظ أوغلو الضعيفة بين القاعدة التقليدية من ناخبي حزب «العدالة والتنمية»، من المتوقّع عدم حصوله على أي دعم من خصوم أردوغان من الأكراد. فداود أوغلو كان من الداعمين «المتشدّدين» للعمليات العسكرية ضد هؤلاء في جنوب شرق تركيا، بين عامَي 2015 و 2016. كذلك، فإنه بحاجة إلى حملة قوية لغسل سمعته من اتهامات بمشاركته في عملية سيطرة أردوغان على الحكم منفرداً عندما كان رئيساً للوزراء، إضافة إلى حاجته لنفي اتهامات الفساد التي طاولته، حتى يتمكّن من أن يتحوّل إلى قوّة سياسية. لكنّه سيواجه معضلة الوصول إلى وسائل الإعلام التركية، وخصوصاً وسائل الإعلام الحكومية، في الوقت الذي تمكّن أردوغان من احتواء قنوات المعارضة بشكل كبير. وحتى وسائل الإعلام الأجنبية، يمارس عليها أردوغان قيوداً كبيرة، إذ أُجبر ثلاثة صحافيين أتراك على ترك العمل في شبكة «سبوتنيك» الروسية، بعدما بثّت لقاءً مع داود أوغلو، في وقت سابق من هذا العام. ومن سخريات القدر، أن عملية التأميم الخفي لوسائل الإعلام التركية والأجنبية في الداخل التركي، جرت غالبيتها تحت قيادة أوغلو لمجلس الوزراء، لذا، يبدو أن هذا الأخير صنع الحبل الذي سيُشنق به.
وبالرغم من كل نقاط الضعف لدى أوغلو وحزبه، إلا أنه يملك نقطة قوة وحيدة، ألا وهي حصول حزبه على 1% أو 2% من الكتلة التصويتية التقليدية لـ«العدالة والتنمية»، الأمر الذي سيشكل ضربة قاسمة لهذا الحزب، وخصوصاً بعد الخسارة الكبيرة التي مُني بها في الانتخابات البلدية في إسطنبول، والتعثّر الاقتصادي الذي سبّبه تراجع سعر العملة التركية أمام الدولار. وقد وجّه هذا الأمر ضربة، لا يمكن اعتبارها «مدمّرة»، ولكنّها أحدثت شرخاً في الحاضنة الشعبية لـ«العدالة والتنمية»، حيث تفيد التقارير بأن قرابة مليون عضو من أصل أكثر من عشرة ملايين استقالوا من الحزب، خلال عام 2019.
إضافة إلى ما تقدّم، فإن حزب أوغلو لن يكون الأخير الذي سيخرج من عباءة «العدالة والتنمية»، فقد أعلن علي باباجان الذي شغل مناصب عدّة في الحكومة التركية، منها حقيبتا الخارجية والاقتصاد، عن عزمه إنشاء حزب جديد بعد تبادل اتهامات بينه وبين رئيس الجمهورية رجب أردوغان، على خلفية اتهام الأخير له بتخصيص أراضٍ بشكل غير قانوني لداود أوغلو.
وما يحوّل الحزبين الجديدين إلى خطر على سلطة حزب «العدالة والتنمية»، هو أنه يمكنهما جذب أعداد أكبر من الساخطين على سياسات أردوغان، ولا سيما أن اقتصاد البلاد يعاني فترة من الركود، وارتفاع في معدلات البطالة. وقد أشارت استطلاعات الرأي، التي أُجريت قبل تشكيل حزب أوغلو، إلى أنه يحظى بتأييد شعبي بنسبة 3.4٪، بينما يتمتّع باباجان بتأييد شعبي يصل إلى قرابة 8٪.
تواجه تركيا مأزقاً سياسياً، بعدما أمسك أردوغان بكل خيوط اللعبة في يده نتيجة لاستفتاء عام 2017، الذي أعطاه الكثير من الصلاحيات، ما أدى إلى اضطرابٍ في طبيعة النظام السياسي، وعدم وضوح المهمّات داخله. وقد فتح هذا الأمر المجال أمام حدوث انشقاقات داخل الحزب الحاكم، وتولُّد الأزمات السياسية والاقتصادية نتيجة صراع الأجنحة داخل السلطة، الهادفة إلى تحديد الضوابط الوظيفية لكلّ جهة ومنصب.

*كاتب مصري