ربما ظهر للبعض أنه من باب المغالاة القول إن ضربة إيران الصاروخية على القاعدة العسكرية الأميركية في بغداد، هي بموازاة ضربة الولايات المتحدة الأميركية لقنبلتَي هيروشيما وناغازاكي عام ١٩٤٥، اللتين انتهت بهما الحرب العالمية الثانية. بالتأكيد، تُعتبر موازاة الضربتين من باب المغالاة، في ما لو أخذنا في الاعتبار تأثير وقوة كل ضربة على المستوى العسكري، والتدميري. لكنّ الضربتين متوازيتان في ما تعنيانه على المستوى الاستراتيجي. الولايات المتحدة الأميركية برزت كقوة ضاربة كبرى في العالم، عقب دخولها الحرب العالمية الثانية. قبل ذلك، قاد العالم محور الحلفاء الاستعماري (حلف بريطانيا ــ فرنسا)، وإلى جانبه الاتحاد السوفياتي في مواجهته الكبرى مع ألمانيا الهتلرية. وفي خضمّ الحرب العالمية الثانية، أخذت الولايات المتحدة تلعب دور الحلف الغربي، وتتبوّأ صدارته بعدما أنهكت الحرب العالمية الأولى، والثانية، الحلف الاستعماري الأوروبي، فتصدّرت الولايات المتحدة الأميركية زعامة العالم الغربي، وتُوّج دورها في المواجهة الحادة مع اليابان، وعجزها عن إخضاع هذه الأخيرة، التي استخدمت أسلوب «الكاميكاز» الانتحاري من الجو، والذي أنهك سفن الولايات المتحدة، وبوارجها، بضربات «كاميكاز» متتالية، فلجأت أميركا عندها إلى آخر، وأخطر سلاح، لم يسبق أن استُخدم، وهو السلاح النووي، فألقت منه القنبلتين الشهيرتين على مدينتَي هيروشيما وناغازاكي، اللتين أبادتهما في لحظات. والحقيقة، أنه يُسجّل للولايات المتحدة تقدّمها على أي ارتكاب آخر في العالم، بهذه الوحشية التي قضت بلحظات على مئات الآلاف من البشر، ولم يكن من وازع أمامها لتحقيق غايتها بتصدّر العالم.
لقد وضعت القنبلتان النوويتان أميركا في صدارة العالم، ولم يعد أحد يجرؤ على مجابهتها بسبب الخوف الناجم عن القنبلتين اللتين أرعبت بهما العالم، ولولا نمو الاتحاد السوفياتي كقوة نووية كبيرة، لاستباحت الولايات المتحدة العالم، تماماً مثلما استباحته عند سقوط الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩٠.
ربما صحّت مقارنة كمية القصف الهائل الذي مارسته أميركا في حربَيها على العراق، بالقنبلتين النوويتين، لكن في ما عدا ذلك، لم يسبق أن استخدم العنف العسكري المعادي للجنس البشري، كما استخدمته الولايات المتحدة الأميركية ضد هيروشيما وناغازاكي.
بعد تَينِك الضربتين، خضع العالم للهيمنة الأميركية المتوحّشة، بينما لعب الاتحاد السوفياتي دور المقيم للتوازن الاستراتيجي النووي معها، على قاعدة المقاومة غير المباشرة لها، وليس على باب المجابهة العسكرية المباشرة، فكانت الحرب الباردة، ولم يشهد العصر الأميركي قوة عالمية تتجرّأ على الهجوم على الولايات المتحدة عسكرياً، وبشكل مباشر. وبذلك، أصبحت هذه الأخيرة بعبع العالم، من دون منازع، وظلّت منذ عام ١٩٤٥ وحتى نهاية عام ٢٠١٩، القوة التي لا تتجرّأ أية قوة أخرى على مجابهتها بشكل علني ومباشر.
لكن بعد اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو المهدي المهندس، وصحبهما، وجّهت إيران ضربة غير مسبوقة للأميركي بقصف قاعدته في بغداد بصواريخ. وكانت قد سبق لها أن أعلنت عن نيّتها القيام بذلك، فتبنّت العمل متوعّدة بالمزيد، إضافة إلى مطالبتها واشنطن بالانسحاب العسكري من الشرق ــ غربي آسيا.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الضربة الإيرانية للأميركي توازي قنبلتَي هيروشيما وناغازاكي، فمثلما صعدت الولايات المتحدة بواسطتهما للسيطرة على العالم، بدأت تتساقط هيبتها بالصواريخ الإيرانية التي أوصلت التحدّي لأميركا، لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، إلى ذروته، والآتي أعظم. القنبلتان اللتان رفعتا أميركا، سقطت هيبتهما بالصواريخ الإيرانية، كذلك هيبة الدولة القاذفة لهما، ودخل العالم مع الصواريخ الإيرانية، والأخرى المرتقبة، إن مباشرة مع إيران، أو بصورة غير مباشرة مع حلفائها، مرحلة جديدة من الصراع، أقلّ عناوينه خروج الولايات المتحدة الأميركية من الشرق.
قيل الكثير من الترّهات عن الضربات الإيرانية، إذ ثمّة من اعتبرها اتفاقاً مع الولايات المتحدة، التي سمحت بها ترضية لإيران، وكبحاً لبلوغ مرحلة حرب غير مرجوّة. وثمّة من قال إن إيران تعمّدت أن لا تصيب الجنود الأميركيين بأذى تاركة الباب مفتوحاً أمام الحوار، إلى ما هنالك من كلام خارج عن سياق الصراعات التاريخية.
مردّدو هذا الكلام فئات، منهم من لا يريد الاعتراف ببداية سقوط علنيّ للهيبة الأميركية، ولا بخسارة المعركة، رغم خسارة العديد من المعارك السابقة. حتّى إن الأميركي لفّ ودار حول حقائق الضربة ومفاعيلها، فكانت البداية في تراجعه عن رسالة الانسحاب التي سُلّمت ليلة الضربة للقيادة العراقية، ثم بالقول إن «كل شيء جيد»، كما ورد على لسان الرئيس دونالد ترامب، وبعد ذلك بالتحدث عن عدم وقوع إصابات. كل ذلك في استعادة مباشرة لكمية الكذب الإعلامي الهائل، الذي مارسته الولايات المتحدة في حربَي العراق، أي في التمهيد لها، وفي سياقاتها على فترات مختلفة. بل يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية قضت على حيادية الإعلام، ومصداقيّته، وكرّسته إعلاماً موجّهاً طالما اتُّهمت أنظمة العالم بممارسته.
المقتنعون بتمثيليات الضربة، وانعدام تأثيرها، يمارسون رغبتهم الذاتية، وهم ينتظرون التالي كي يبحثوا عن تبريرات أخرى أكثر سخافة. لكن الأهم، أن كلّ المتحدثين بهذا التوجه، يجهلون حقيقة كبيرة لا يمكن القفز عليها، ولا تجاوزها على الإطلاق، وهي المصداقية التي يتمتع بها كبار القادة الشيعة كآية الله علي خامنئي، والسيد حسن نصرالله. القادة من هذا النوع، لا يقدمون على كلمة إلا بعد أن يكونوا قد وصلوا إليها بتثبّتهم منها، واتخاذهم قرارهم، ففي ضمير هؤلاء، وفي معتقدهم، ملايين البشر ينتظرون كلمتهم، ليأخذوا بها. ومن هذا المنطلق، نزلت الملايين في تشييع القائدين الشهيدين وصحبهما.
عقب عملية الاغتيال، أعلنها السيد نصرالله: «أميركا خارج المنطقة»، ليأتي آية الله خامنئي ويؤكّدها في خطبة أمام الحشود التي جاءت تشارك في عزاء القائدين، وصحبهما، وفي تشييعهم. خاطب خامنئي الجماهير برويّة، من دون أي انفعال، وتحدّث عن خلفيات الحدث، كما وضع خطة المواجهة بين أيدي الجمهور، خطوة خطوة بمنهجية عقلية لم تكن أقلّ أهمية ووعياً ومعرفة استراتيجية، ممّا نطق به كبار القادة الثوريين في العالم. وضع الأساسيات في المقدّمة، والثانويات في الصف الخلفي، فكان الأساس خروج الولايات المتحدة الأميركية من المنطقة. أما الدول الحليفة لها، فإذا تدخّلت سيصيبها ما أصاب سيدتها. وبذلك، يكون خيرُها بالوقوف على الحياد في الصراع. أما الدول الصديقة لإيران، والتي شاءت ظروف التاريخ أن تكون هناك قواعد أميركية على أراضيها، فهي مستهدفة في حال استخدمت واشنطن تلك القواعد، وفي ذلك تحريض لأصدقائه على منع استخدام تلك القواعد ضد إيران، وكأنه يلمّح أساساً إلى دولتَي تركيا وقطر، اللتين دخلتا في تفاهمات كبرى مع إيران على مستويات اقتصادية وسياسية مختلفة.
في حديث خامنئي عمق والتزام ثوريان، هي الثورة التي يحملونها في دواخلهم منذ نشأتهم، ولم يتمكّنوا من تحقيقها حتى انتصار الثورة الخمينية، أواخر سبعينات القرن الماضي. عبّر خامنئي عنها بوضوح، فتحدّث عن الإنسانية والتغيير والانتقال إلى عالم أفضل، كما تحدّث عن السلام العالمي وعن نبذ الظلم وإحقاق العدالة، وهي الميّزات التي تمتّع بها القائد قاسم سليماني، وكل القادة الثوريين الأحرار. قالها آية الله الخامنئي، الذي إذا قال صدق، وإذا وعد وفى، وليس بعد كلامه من خيار آخر.

* كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية