إن مبرّر طرح هذا السؤال عن دور العلمانية في خدمة دولة العدالة، هو أن بعض العلمانيين يطرح العلمانية كحلٍّ وردي لجميع المشاكل والأزمات التي تعاني منها مجتمعاتنا وأوطاننا وأمّتنا. وقد وصل هؤلاء إلى أن إقصاء الدين عن الاجتماع السياسي واجتماع الدولة، يوصل إلى بلوغ الأهداف التي تنشدها مجتمعاتنا من الدولة المعاصرة وبنائها، في موقف تقليدي ينطوي على الكثير من الإشكاليات، وعلى أكثر من نقاش علمي.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

من الواضح أن هذا الموقف يتضمّن فرضية تقول إن جوهر أزماتنا ومشاكلنا يكمن في الدين. وعليه، إذا ما عملنا على إقصاء الدين فسوف نصل إلى بناء الدولة التي نريد، وإلى حلّ مجمل مشاكلنا وأزماتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية... أو في الحد الأدنى، فإن إقصاء الدين سيساعد في الوصول إلى تلك الأهداف التي نريد من الدولة وبنائها.
إن المشكلة التي وقع فيها هذا الموقف، أنه أخطأ في تحديد السبب الأساس وراء ما تعاني منه مجتمعاتنا من مشاكل، وبالتالي أخطأ في توصيف العلاج الذي يجب أن يُعتمد في تجاوز الأزمات. فهل تكمن الأزمة في الدين أم في مكان آخر؟ هنا، يجب أن نمارس نقداً موضوعياً للموقف من الدين، لكن قبل ذلك من الضروري أن نفرّق بين الدين والطائفية، حيث إن الدين جوهر، والطائفية جوهر آخر. كما يجب أن نميّز بين أكثر من فهمٍ للدين، أو تفسيرٍ للإسلام، ذلك أنه يمكن القول إن بعض التفاسير قد تكون تفاسير بنّاءة وذات مضمون إنساني، أو مدني، أو حضاري، في حين أن تفاسير أخرى قد تكون هدّامة، أو تعاني من أكثر من خللٍ أو نقصٍ، في مضمونها ومنهجها والنتائج التي تترتّب عليها.
وعليه، سيكون من المفيد أن نشير إلى أكثر من خلل في ذلك الموقف العلماني من الدين:
1. يمارس تعميماً غير منهجي في أحكامه، فهو في الوقت الذي يستند فيه إلى بعض التجارب الدينية الفاشلة في التاريخ، تراه يعمّم حكمه على التجارب التي لم يُعاينها، لا بل على التجارب الناجحة أيضاً.
2. يفتقد الأساس المنهجي في حكمه، فهو حتّى يُصدر حكمه على الدين يحتاج إلى أن يستقصي جميع التجارب الدينية، لينتهي إلى القول بأن الدين فاشل، لأنّ جميع تجاربه فاشلة؛ وهذا لم يحصل، أو أنه يحتاج إلى دراسة بنية الدين وماهيته، ليثبت من خلال المناهج ذات الصلة أن ديناً كهذا ــ في بنيته ومفاهيمه ــ عاجزٌ عن ممارسة دوره في اجتماع الدولة، وهذا أيضاً لم يثبت. ولعلّ الموقف العلماني لا يستطيع أن يثبت ذلك، أقلّه عندما نتحدث في بعض الأديان، وبعض القراءات الدينية.
3. يعمد إلى استعارة بعض المواقف التي تكوّنت نتيجة مخاض تاريخي ما، من تجربة دينية بعينها، من دون أن يعمل على بحث ذلك المخاض وخصوصياته، وخصوصية تلك التجربة التاريخية، ليميّز بين الخاص الذي لا يقبل التعميم، والعام الذي يقبل التعميم، إنّما تراه يمارس تقليداً غير مبرّر لتلك المواقف من دون إشباعها بحثاً وتحليلاً، ومعالجة علميّة تقوم على معايير منهجية صحيحة وواضحة.
إنّ ما لا يرغب البعض في الإضاءة عليه، هو أن مجمل تلك العلمانيات التي يراد تقديمها كنموذج، هي علمانيات متطرّفة، أو علمانيات مارست الرأسمالية المتوحّشة


4. هناك نوع من المأزومية غير المفهومة أو المستغربة من الدين. هذه المأزومية التي قد يكون لها ما يبررها قبل عقود سلفت، نتيجة غياب الأطروحة الدينية عن ساحة الاجتماع العام، أو فشل العديد أو مجمل التجارب الدينية في هذا الاجتماع، لكنها قد لا تكون مبرِّرة لتلك السلبية في الموقف من الدين، بعد تجارب مضيئة لبعض الجهات الدينية، سواء على مستوى فعل المقاومة، أم الاجتماع السياسي، أم اجتماع الدولة.
5. يوجد نوع من التهافت في الطرح؛ ففي الوقت الذي تجد من يرمي بحمولة قيّمية ذات ثقل في وعاء العلمانية، من الحرية والإنسانية والتعددية، هو نفسه تراه، عندما يصل الأمر إلى الدين في تمظهراته الاجتماعية والسياسية، يغادر مقولاته تلك لصالح ممارسة الإقصاء لتلك الجهات، التي تتبنّى هذا الفكر الديني أو ذاك.
في المحصلة، هناك نوع من الخلل المنهجي، والمأزومية، واللاعلمية، بل اللاعقلانية في التعامل مع الدين ومقولاته، وأيضاً اللاعقلانية في التعامل مع العلمانية نفسها، عندما يُعمد إلى تبنّي جملة مقولاتها من دون استقصاء جميع المعطيات العلمية، التي ينبغي الاستناد إليها لبلوغ هذه النتيجة أو تلك.

البديل العلماني الغربي
في هذا المورد، عندما تطلب تقديم نموذج للعلمانية يمكن معاينته، يأتي الجواب بتقديم بعض النماذج الغربية، كمثال يحتذى وتجربة يبنى عليها. وهنا، يلحظ المرء مستوى عالياً من التبجيل للنموذج العلماني في الغرب لدى البعض. تبجيلٌ يدفع إلى نوع من التقليد غير العلمي، والاقتفاء غير المدروس لتلك النماذج، بل إلى التعمية على عورات العلمانية وتجاربها في الغرب، وممارسة نوع من الانتقائية في إبراز بعض محاسنها، من دون ممارسة تقييم علمي شامل لتلك التجارب، الأمر الذي يتطلّب مستوى متقدّماً من النقد والتحليل. هذه التعمية على مثالب العلمانية وعوراتها، يقابلها نوع من التعامي عن العديد من التجارب المضيئة التي ارتكزت على البعد الديني، سواء في إطار الاجتماع المقاوم، أم اجتماع الدولة، أم الاجتماع السياسي. وهنا، نلحظ مقاربتين تدعوان إلى الكثير من الاستغراب؛ الأولى تُنكر على مجتمعاتنا وتجربتنا إنجازاتها التي تعبّر عن مضمون إنسانوي، وعقلاني، وحداثوي، وقيمي، لمجرّد أن ذلك صدر عن تجربة تنتمي إلى خلفية فكرية دينية، أو تقلّل من أهميتها، أو حتى لا تسعى إلى تبيّن تلك الأسس والمفاهيم والقيم التي أسهمت في إنجاحها وإنجازها (كما في تجربة المقاومة). في المقابل، تجد النوع الثاني من المقاربة الوردية لجملة من التجارب العلمانية، حيث تتعامى عن عوراتها، وتتغافل عن مثالبها، وهذا ما يدعو إلى التساؤل: لماذا السعي دائماً إلى تلمّس عناصر هويتنا الفكرية من تجارب غربية، أو من تجربة لا تنتمي إلى تاريخنا وهويتنا؟ لماذا هذا التنكّر للذات؟ ولماذا البحث عن الأنا في الآخر؟ ثمّ، لماذا لا يعمل على بناء هوية فكرية تقوم على العقل، والعلم، والفهم الحضاري للدين، وقيمه الإنسانيّة؟ ولماذا لا يكون لدينا اعتزاز بالعناصر المضيئة والمشرقة في ثقافتنا، وتاريخنا، وتراثنا الديني الأصيل، الذي ينتمي إلى دائرة الفهم الحضاري للدين، والذي يقطع مع التراث السلطاني وتشوّهاته وتاريخه؟ باختصار، لماذا هذا الميل إلى التبعية والاستلحاق بالآخر الغربي، مع ما يمكن أن تؤدي إليه هذه التبعية من تبعيات أخرى شئنا أو أبينا، وعلى أكثر من مستوى تربوي، وثقافي، وصولاً إلى السياسي وغيره؟
كلّ هذه التساؤلات تنتج عن لجوء البعض إلى ممارسة نوع من الاستيراد المعرفي غير المعياري وغير المنهجي لبعض المقولات العلمانية، من دون امتلاك موازين أصيلة وعقلانية، تسمح بتقييم أي من هذه المقولات، والنظر في مدى جدوائيتها، أو ملاءمتها للظروف المجتمعية، التي يراد طرحها فيها، وقدرتها على المساعدة على بلوغ الأهداف المنوي بلوغها. إن ممارسة هذه الاستعارة غير الممنهجة، والإسقاط المعرفي غير المدروس لجملة تلك التجارب الغربية على مجتمعاتنا قد أدى ــ رغم الجهد المبذول ــ إلى عدم نفوذ تلك المقولات العلمانية في تلك المجتمعات، رغم العديد من الجهود التي تُبذل للتبشير بها والدعوة اليها.
إنّ ما لا يرغب ذلك البعض في الإضاءة عليه، هو أن مجمل تلك العلمانيات التي يراد تقديمها كنموذج، هي علمانيات متطرفة، أو علمانيات مارست الرأسمالية المتوحّشة، أو الاستعمار والاحتلال والعدوان والحروب غير المشروعة، وأوغلت في انتهاك القيم الإنسانية، وارتكاب الجرائم، ونهب خيرات الشعوب... ولم تردعها علمانيتها عن فعل كل تلك الموبقات، كما لم يمنعها تمسكها بالقيم العلمانية عن ارتكاب جميع تلك الجرائم والخطايا.
إنّ الترويج لإنسانية الغرب لن يخدم العلمانية، بمقدار ما سوف يخدم سياسات الغرب الاستعمارية، وعدوانه على الشعوب والمجتمعات. كذلك، فإنّ التبشير بجملة تلك القيم الغربية، لن يعود بالفائدة، لا على مجتمعاتنا ولا على المبشّرين بتلك القيم، بمقدار ما سيكون له من ارتدادات ونتائج سلبية على أكثر من مستوى وفي أكثر من ميدان.

العلمانية والدين
إن بعض المقاربات العلمانية لا يريد أن ينظر إلى أي إيجابية في الطرح الديني، والتجربة التي تنتمي إلى الدين. في المقابل، هو لا يريد أن يرى تلك السلبيات في التجارب العلمانية لمجرد كونها علمانية. ويبرز الانحياز غير العلمي وغير العقلاني إلى كل نموذج يقطع مع الدين، لمجرد أنه يقطع مع الدين، وهو انحياز لا ينسجم مع المبادئ والقيم التي يستخدمها هذا البعض للتنظير لعلمانيته، كما يطرحها. إنّ هذه السلبية في الموقف من الدين قد تكون مفهومة في الغرب، نتيجة المخاض التاريخي والاجتماعي الذي حصل في التجربة الغربية، لكنّه لن يكون مفهوماً في تجربتنا في الشرق، حيث نجد نماذج ناجحة ومتقدّمة في المقاومة والتحرير، أو في الاجتماع السياسي أو حتى في اجتماع الدولة. وهي تجارب تستحق في الحدّ الأدنى أن تُدرّس، ويبنى عليها، ويُعتز بها. أمّا التعامل معها بنوع من الاستعلاء اللاديني أو الانتقاص منها، لمجرّد أنها تنتمي في مرجعيتها الفكرية إلى الدين، ولو في قراءته الحضارية والإنسانية والقيمية، فهنا لن يكون هذا الموقف العدائي من الدين مفهوماً، إلا على أساس أنه نوع من التقليد غير العلمي للتجارب التي حصلت في الغرب، أو نوع من الخلط المتعمّد بين تلك القراءات المشوّهة للدين، التي أثمرت وتثمر تخلّفاً ورجعيةً وتكفيراً وكراهيةً وتبعيةً عمياء وإضراراً بالمصالح الوطنية والإسلامية.
إن هذه المقاربة المأزومة من قبل بعض الجهات العلمانية للدين يترتب عليها العديد من السلبيات التي لا تنسجم مع الأهداف المعلنة لتلك الجهات العلمانية في بناء الدولة والوطن وسوى ذلك. وقد يكون من المطلوب أن تعمد العلمانية إلى إعادة تعريف نفسها لتصوغ موقفاً من القراءات الهدّامة والإلغائية وغير الإنسانية للدين، بدل أن تكون موقفاً من الدين نفسه، ولو في قراءته الحضارية والإنسانية. أن تكون العلمانية موقفاً من تجربة دينية فاشلة، فهذا أمرٌ فيه الكثير من العلمية، لكن أن تبقى موقفاً من أي تجربة دينية، حتى لو كانت ناجحة، فهذا ليس فعلاً علمياً.

هناك نوع من الخلل المنهجي والمأزومية واللاعلمية بل اللاعقلانية في التعامل مع الدين ومقولاته


كلّ ذلك، لا يلغي أن الاختلاف سيبقى قائماً في العمق بين المرتكزات الفكرية للعلمانية والمرتكزات الفكرية للدين، هذا الدين الذي لا يتنكّر للعقل، بل يعطيه الدور الأساس في الموقف من الأطروحة الدينية، لكنه لا يُقصي الوحي ولا يُلغي دوره في هداية الاجتماع الإنساني، بخلاف ما تذهب إليه العلمانية في الموقف من الوحي ودوره.
العلمانية مدعوّة إلى أن تصبح موقفاً من الجهل، والفقر، وعدم العدالة، والفساد، والطائفية، والتخلّف، والتبعية، والرجعية، والاستعمار، وأيضاً من القراءات المشوّهة للدين، ونماذجه الفاشلة التي تُنسب إليه، بدل أن تتصلّب في موقفها النمطي من جوهر الدين وقراءاته المتقدمة، والتي قد تجد فيها الكثير من القيم والمعاني، التي تبحث عنها العلمانية نفسها في أكثر من تجربة غريبة وغربية.

العلمانية ودولة العدالة
ليس الهدف من هذه المقالة تقديم مطالعة نقدية للعلمانية، بمقدار ما هو بيان مآلات العلمانية من دولة العدالة وإقامتها، لأنّ الفكر العلماني إذا كانت أولويته السعي إلى بناء دولة العدالة بأوسع معانيها، وبناء مجتمع العدالة في أبعد مدياته، فهذا يقتضي مقاربة مختلفة للدين والاجتماع الديني، وتمظهراته السياسية. ولا بدّ من الالتفات، في هذا السياق، إلى أننا نتحدث عن العلمانية في تجلياتها العربية والمشرقية، من حيث الموقف من الدين والاجتماع الديني. أمّا إذا أردنا أن نذهب أبعد مدى في هذا المجال، فلا بدّ من أن نلفت إلى أن ما أنتجته العلمانية في العديد من صورها الغربية في الإطار الاقتصادي والاجتماعي هو تلك الرأسماليات، بما فيها المتوحشة، والتي أطاحت العدالة المالية والاقتصادية والسياسية، وحتى الاجتماعية، في أكثر من موطن. وهذا يقودنا إلى تلك النتيجة، وهي أن بنية العلمانية ليست بنية مُنتجة للعدالة بالضرورة، بل هي بحسب مبانيها المعرفية بنية هلامية، قد تفتح على أشكال ورؤى مختلفة في الاقتصاد والاجتماع والسياسة وسوى ذلك، في ما يمكن أن يتنافى مع العدالة وقيمها ومشروعها.
على كلّ، ليس هذا موضوعنا هنا، لأنه يحتاج إلى أن يُفرد له بحث على حدة. وما يعنينا في هذا الإطار، هو ذاك الخطاب الذي يقدّمه بعض الجهات العلمانية، والذي يصدره بعنوان العدالة، ويمنحه أولوية على غيره، الأمر الذي يفرض عليها مقاربة مختلفة لبعض القضايا التي تتصل بالعدالة وإعمالها.
وهنا، يجب أن نلفت، في البداية، إلى أن إصرار بعض الاتجاهات العلمانية على تحويل الموقف التاريخي من تجربة دينية بعينها، إلى موقف أيديولوجي من الدين نفسه، يتضمّن توجهاً إقصائياً للدين، والجهات التي تتبنّى الفكر الديني عن ساحة الاجتماع السياسي واجتماع الدولة، بمعزل عن الاختلاف التفصيلي في بعض المقاربات في هذا الشأن، وبمعزل عن هذا الخلط المنهجي في تحويل التاريخي الظرفي إلى أيديولوجي غير زمني. ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن هذا الفكر في منطقه الإقصائي للدين، يحمل جذوراً لممارسات إقصائية وإلغائية وقمعية واستبدادية، بدت بشكل واضح في أكثر من تجربة علمانية مارست التعدّي على الحريات، بل أيضاً القمع والإلغاء بحق المختلِف دينياً أو سياسيّاً، بغض النظر عن المبرّرات التي تستخدم في هذا الإطار، والتي تسعى في مجملها إلى تجميل ذلك القمع الممارس، وإلى إضفاء مشهدية وردية على تلك الارتكابات، التي يقوم بها بعض التجارب العلمانية بحق الإنسان وحريته. وهذا لن يساعد على بناء مجتمع العدالة، ولا على بناء دولة العدالة.
إن بناء دولة العدالة مشروط بتنزّه الفكر عن أيّ جذور إقصائية أو إلغائية، تؤسّس لممارسات تتنافى مع البعد الإنساني، ومع العقلانية، ومع دولة العدالة وقيمها. ثمّ إن هذا المنطق هو منطق صراعي، يؤدي إلى إنتاج الاحتراب الداخلي بين من يملك فكراً إقصائياً للدين عن الاجتماع السياسي، ومن يرى وجوب الدفاع عن قيمه الدينية، وحقه في ممارسة دوره في الاجتماع السياسي بناءً على مرجعيّته الدينية، في وجه من يريد ممارسة الإلغاء بحقه.
والسؤال هنا، إن كان هذا المنطق الصراعي يؤسّس لديناميّة احتراب داخلي متمادٍ، فهل يساعد على بناء الدولة المنشودة، والمجتمع المنشود، اللذين يجب أن يقوما على أساس من العدالة، ويسعيان إلى تحقيقها، أم أنه يؤسّس لإفشال تلك التجربة، والعون على هدمها؟ ثم عندما تكون لدينا قراءات بنّاءة للدين، تتضمّن في جنباتها أبعاداً حضارية وقيمية وأخلاقية وفكرية وفلسفية، تساعد على بناء دولة العدالة ومجتمع العدالة، فهل من العقلانية بمكان أن نتجاوز ذلك المضمون، ونهدر تلك الطاقات المعرفية، لا لشيء إلا من أجل أن نمارس تبعية عمياء لبعض المواقف النمطية، واستعارة خشبية لبعض المفاهيم والتصورات المستوردة؟ هل سيكون من المجدي هنا أن تُحرم مجتمعاتنا من ذلك المضمون الإنساني والحضاري الكامن في الدين، والذي يعبّر عنه بعض القراءات الهادفة والأصيلة، ونحن أحوج ما نكون إليه لبناء هويتنا، وأصالتنا، وفرادة تجربتنا، لا شيء، إلا تقليداً لبعض المواقف المأزومة من الدين؟
إنّ جعل الأولوية لدى تلك الاتجاهات العلمانية في بناء مجتمع العدالة، لا بدّ أن يقودها إلى التعامل بكيفية مختلفة مع الطرح الديني، لأنها عندما تجد فيه العديد من المقولات التي تساعد على فعل العدالة وإقامتها وبناء مجتمعها ودولتها، فإنها لا بدّ أن تحيل موقفها السابق إلى موقف بنّاء، وأكثر علميةً وتعاوناً. إنّ الاتجاهات العلمانية مدعوّة إلى معاينة بعض القراءات الحضارية للدين ونماذجه الناجحة، وأن تخرج من احتباسها النمطي في تلك النماذج التاريخية المقفلة، وأن تكون على قدر من الموضوعية في تناول تلك القراءات، بما يسمح لها بتبيان تلك المضامين الراقية، والمعاني الهادفة الكامنة في الدين وقيمه.
خلاصة القول، إن الطرح العلماني في شكله الحالي، ونتيجة لموقفه الإقصائي من الدين والاجتماع الديني، وما يؤدي إليه ذلك من إيجاد لديناميات اختلاف، بل احتراب داخلي بين ما هو علماني وغير علماني، ونتيجة لما ينطوي عليه ذلك الموقف من جذور، يؤسّس لأكثر من فعل يتّسم بالإلغاء والاستبداد والقمع. كل ذلك سيسهم في إضعاف الشروط والعوامل المساعدة على الوصول إلى دولة العدالة وبناء مجتمع العدالة. إنّ الاتجاهات العلمانية مدعوّة إلى اقتراح علمانية مشرقية لا تقطع مع الدين، وتقوم على تعزيز البعد الإنساني، والعلمي، والحداثوي، والعقلاني في المجتمع والدولة، على أن لا تعاني من أحادية في الرؤية أو مأزومية في الموقف، لتكون قادرة على مدّ جسور التعاون والحوار، لبناء دولة العدالة، ومجتمع العدالة.

*كاتب لبناني