لست أدري هل كتبت المقال في «هآرتس» العبريّة يوم الـ21 من شباط (فبراير) من العام 2011 من باب السذاجة، أمْ من باب الحماسة؟ نُشر المقال وأغضب الإسرائيليين من أقصى اليمين إلى أقصى ما يُطلق عليه اليسار الصهيونيّ. بكلّ وضوح، وبدون لف أوْ دورانٍ، طالبت السلطات المصريّة، بعد عزل العميل والمتآمر، محمد حسني مبارك، الذي كانت تعتبره تل أبيب كنزاً إستراتيجياً، ونجاح ثورة 25 يناير، إلغاء اتفاق الذلّ والعار بين بلاد الكنانة ودولة الاحتلال، الذي يُسّمى باتفاق «كامب ديفيد».
وهو الاتفاق الذي أخرج أكبر دولةٍ عربيّةٍ من محور المقاومة والممانعة، ودمرّ لاءات الخرطوم: لا تفاوض، لا صلح ولا اعتراف (مؤتمر القمّة العربيّة في العام 1969)، ومنح الدولة العبريّة اعترافاً عربياً، برعاية أمريكية، وباتت مصر تُغرّد خارج السرب العربيّ. علاوة على ذلك، غنيٌّ على القول إنّ شبه جزيرة سيناء لم تُحرر من الاحتلال الإسرائيليّ، بل تمّ استبدال القوات الصهيونيّة الغازية بقواتٍ من دولٍ أجنبيّةٍ أو متعددة الجنسيات. بالإضافة إلى ذلك قدّم العميل أنور السادات، الذي كان يحكم مصر بالحديد والنار، فلسطين على طبقٍ من ذهب للإمبرياليّة ورأس حربتها، الولايات المتحدّة الأميركيّة، ولربيبتها الحركة الصهيونيّة وصنيعتها الدولة المارقة بامتياز والمُعربدة، إسرائيل. وبالتالي يُمكن القول والفصل والجزم إنّ هذا الاتفاق، الذي تمّ التوقيع عليه في البيت الأبيض أو بالأحرى الأسود عام 1979، فتح الباب على مصراعيه أمام التطبيع الكامل والشامل مع الدولة العبريّة، وتناسى قادة القاهرة، عن سبق الإصرار والترّصد، أنّ الاستعمار وموبقاته وزبانيته زرع هذه الدولة على أراضي شعب فلسطين، الذي هُجّر وشرّد في النكبة، ولكنّ الأخطر من ذلك، أنّ الاتفاق استباح أمام أعين العالم برّمته الدولة العربيّة الأكبر، ودفع الدول العربيّة إلى التفكير مُجدداً في علاقاتها مع إسرائيل، التي حصلت على وسام الشرف من مصر.

■ ■ ■


اليوم وفي الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير، نُلاحظ أنّ مصر تسير بخطى واثقةٍ نحو الهاوية. فدورها الرياديّ في الوطن العربيّ بات في خبر كان، وأصبحت رهينة للوهّابيين في مملكة العهر، المملكة العربيّة السعوديّة، التي أغدقت على النظام الجديد البلايين من الدولارات، بهدف السيطرة على السياسة الخارجيّة لمصر، ومن المسلّمات أنّ الدولة التي لا تتمتّع باستقلاليّة اقتصاديّة، لا يُمكنها بأيّ حالٍ من الأحوال أنْ تنتهج سياسة خارجيّة مستقلّة وبدون ضغوطات من دولٍ رجعيّة، همّها الوحيد القضاء على كلّ توجّه قوميّ، وتغليف أعمالها بغلافٍ دينيّ لتحقيق الهدف المنشود. والقاهرة التي تلقّت المساعدات السعوديّة بتلهفٍ كبيرٍ، أصبحت مُجبرةً على الرقص وفق موسيقى النشاز الذي يُلحنها ويعزفها آل سعود. والنتائج على الأرض تؤكّد لكلّ من في رأسه عينان أنّ صنّاع القاهرة في بلاد الكنانة يقومون بدفع فاتورة المساعدات عبر المواقف السياسيّة. وهنا المكان وهذا الزمان، لتذكير مَنْ يُعانون من الذاكرة الانتقائيّة أو القصيرة، أو الاثنتين معاً، أنّ القائد والمُعلّم والمُلهم، الشهيد جمال عبد الناصر، كان قد قال إنّ دمشق هي قلب العروبة النابض، وهو الزعيم العربيّ الأصيل الذي لم يتورّع عن التصريح بأنّ جزمة أيّ شهيد عربيّ أشرف من تاج آل سعود، في ما قال الشهيد غسّان كنفاني: السعودية وراء كلّ خيانة، وإذا وقعت خيانة في أيّ مكانٍ، فابحثوا عن السعوديّة. وفي هذا السياق يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: الرئيس المعزول، محمد مرسي، أعلن خلال فترة رئاسته القصيرة عن قطع العلاقات مع سوريّة، لا مع إسرائيل، لا سمح الله، وها قد مضى على عزله حوالي تسعة أشهر، وما زال النظام الحاكم في مصر ينتهج السياسة عينها، وما زالت العلاقات مع سوريّة، التي تتعرّض لمؤامرة كونيّة، مقطوعة. ومردّ ذلك، باعتقادنا المتواضع جداً، أنّ مصر باتت تابعة بالمُطلق للسعوديّة، التي تكّن العداء لبلاد الشام، وتقوم بتزويد الجماعات التكفيريّة بالأسلحة والعتاد بهدف تفتيت وتمزيق الدولة السوريّة، وبالتالي من يُعوّل على النظام الحاكم في مصر لا يُعوّل عليه، ذلك أنّ السعوديّة، التي تدفع الأموال لدعم الاقتصاد المصريّ، لن تسمح لهذه الدولة بالخروج من بيت الطاعة وإعادة علاقاتها مع سوريّة، بكلمات أخرى، مصر تُشارك من حيث تدري أوْ لا تدري في المؤامرة على سوريّة، والمصالح بينها وبين السعوديّة والإمبرياليّة والصهيونيّة تتساوق في هذه القضيّة: فكيف يسمح المصريون لأنفسهم باستقبال السفير الصهيونيّ في القاهرة، بينما يمنعون السفير السوريّ من الدخول إلى الأراضي المصريّة؟.

■ ■ ■


وعودٌ على بدءٍ: بعد نجاح ثورة الـ25 من يناير استبشرنا خيراً، اعتقدنا بأنّ مصر ستعود إلى الحاضنة العربيّة القوميّة، وتدعم بكلّ ما أوتيت من قوة الشعب العربيّ الفلسطينيّ، وتعمل من أجل حلّ قضيته، خصوصاً وأنّه مرّ أكثر من 65 عاماً على اغتصاب فلسطين فرادي وجماعات، عوّلنا على النظام الجديد العمل على فك الحصار المفروض على قطاع غزّة منذ العام 2007 من قبل الاحتلال الإسرائيليّ، كنّا على إيمان بأنّ القاهرة، وفي إطار النزاع مع تل أبيب، ستقوم بتخفيف الحصار على أكبر سجنٍ في العالم، السجن الذي يقبع فيه أكثر من مليون ونصف المليون من الفلسطينيين في قطاع غزّة، ولكنّ الرياح تجري بما لا تشتهي سفن الإنسانيّة والتعاضد العربيّ. السلطات المصريّة الجديدة واصلت فرض الحصار، لا بل أكثر من ذلك، أحكمته أكثر، ولم تجرؤ على فتح معبر رفح، المنفذ الوحيد لإخوتنا في غزّة. والأخطر من ذلك، أنّ الجيش المصريّ تلّقى الأوامر من القيادة السياسيّة بتفجير الأنفاق التي استعملها سكّان القطاع لإدخال الأكل والشرب والأسلحة ومواد البناء، وقام هذا الجيش العربيّ بالإنابة عن دولة الاحتلال بشنّ حربٍ ضروسٍ على الأنفاق لإحكام الحصار التجويعيّ والبربريّ في القطاع، وسوّغت القاهرة هذه الخطوة الوحشيّة بأنّ حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس)، التي تُسيطر على قطاع غزة، قامت بتنفيذ أعمال وصفتها بالإرهابيّة ضدّ الأمن القوميّ المصريّ، وحتى إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فما هو ذنب الشعب الفلسطينيّ بدفع الثمن؟ هل أراد المصريون تطبيق المثل القائل إنّ الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون؟ أوْ هل حماس تأكل الحصرم والشعب الفلسطينيّ يضرس؟ من هنا نصل إلى قناعةٍ بأنّ النظام الانتقاليّ في مصر هو أسوأ من نظام مبارك العميل في هذه القضية العينيّة، ومصالحه تتماهى مع مصالح الدولة العبريّة والولايات المتحدّة الأميركيّة، والإمعان في إفقار الشعب الفلسطينيّ بالقطاع سيؤدّي عاجلاً أم أجلاً إلى حرفه عن بوصلة تحرير فلسطين، والتركيز في كيفية الحصول على رغيف الخبز، وهذا الموقف المصريّ المخزي والمعيب والمشين يُسّجل عليه وليس له، خصوصاً وأنّ ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المُهّند.

■ ■ ■


ولم تكتف مصر بذلك، بل قامت محكمة مصرية يوم الثلاثاء (الرابع من آذار/ مارس الجاري) بحظر كافة أنشطة حماس التي تتهمها بالتواطؤ مع جماعة الإخوان المسلمين لشنّ اعتداءات في مصر، وقضت محكمة الأمور المستعجلة في القاهرة بحظر نشاط الحركة الفلسطينيّة والتحفظ على مقراتها في مصر، كذلك بوقف التعامل معها. وطالبت الدعوى القضائيّة باعتبار حماس منظمة إرهابيّة مشيرة إلى تورطها في عمليات اقتحام السجون وتفجير خطوط الغاز في شمال سيناء. بموازاة ذلك، قال وزير الخارجيّة الإسرائيليّ أفيغدور ليبرمان، إنّه سيعمل من خلال حزبه (إسرائيل بيتنا)، على الحكم المصريّ بحظر حماس، بمواجهة النواب العرب داخل الكنيست الإسرائيليّ، زاعماً أنّ لحماس، نواباً داخل البرلمان الصهيونيّ. يبدو أنّ النظام الانتقاليّ في بلاد الكنانة قرّر تحويل الشعب الفلسطينيّ في قطاع غزّة إلى حقل تجارب، متناسياً عن سبق الإصرار والترصّد بأنّ العنصريّ ليبرمان، الذي يُطالب بترحيل فلسطينيي الداخل القاطنين في وادي عارة، هو نفسه ليبرمان الذي هددّ بقصف السدّ العالي. مبروك عليكم ليبرمان ونتنياهو وبينيت، يا إخوتنا في العروبة بمصر، ولكن ألا تعتقدون أنّ البون شاسع بين الجريمة، هذا إذا سلّمنا بأنّ حماس ارتكبتها، وبين العقاب الذي لم يُفرض عليها، بل تمّ تطبيقه على جميع سكّان قطاع غزّة. فعلاً، أمّة عربيّة جاهلة ذات رسالة سافلة وساقطة.

■ ■ ■


ومن الواجب الوطنيّ والأخلاقيّ التوضيح في الختام بالمقارنة التالية: إسرائيل تمكّنت من احتجاز سفينة محملّة بأسلحة إيرانيّة ومن صنع سوريّ مرسلةً إلى غزة، (05.04.14) نصفها لحماس ونصفها للجهاد الإسلاميّ، هذا على الرغم من أعمال حماس ضدّ سوريّة، وهي أضعاف من حيث الخطورة ممّا فعلته في مصر.
* كاتب فلسطيني