قبل يومين، غرّدت لِز سلاي (مراسلة «واشنطن بوست» في بيروت والتي هي بحقّ أسوأ مراسلة أو مراسل عمل في بلادنا منذ عقود طويلة)، عن تجدّد الاحتجاجات أمام المصرف المركزي في بيروت، وعبّرت عن ابتهاجها لاستمرار الاحتجاج في إيران والعراق ولبنان. لكن ما العلاقة بين الاحتجاجات في لبنان والاحتجاجات في إيران أو العراق، ولماذا استثنت الجزائر مثلاً؟ كما أنّ الربط بين احتجاجات لبنان وإيران والعراق يبدرُ عن نيّة خبيثة للدول الغربيّة في استغلال أسباب احتجاج حقيقية. وما فعلته لز سلاي، هو إهانة للمحتجّين والمحتجّات في لبنان، إذ أنها بتغريدة عابرة جعلتهم وقوداً في مؤامرة غربية ضدّ أعداء إسرائيل وأميركا. هي أرادت أن تتبنّى، بالنيابة عن الغرب الصهيوني، المحتجّين عندما يزعجون أعداء إسرائيل وأميركا، كأن لا أسباب داخلية (اقتصادية ــ سياسية) للاحتجاج. لكن كيف يمكن الربط بين الاحتجاجات في البلدان الثلاثة، التي لا يجمع بينها إلا وجود حركات مسلّحة مناهضة للاحتلال الأميركي والإسرائيلي في الشرق الأوسط؟ هل معاداة أميركا لهذه الدول لها علاقة بحبّ عميق للديموقراطية، أم بحب عميق للاحتلال الغربي والإسرائيلي ومنع أي محاولة لإزعاجه؟وقبل أيام أيضاً، نشرت جريدة عربية صورة لاحتجاج (صغير) في العراق، وفيه يحمل متظاهر لافتة كُتب عليها: «مجلس النواب لا يمثّلنا». أي أنّ المتظاهر (الذي على الأرجح يغنّي للحرية كما يغنّي لها كلّ محتجّ في أيّ مكان في العالم مهما كانت دوافعه ــ حتى لو كانت رجعية فاشية) يريد أن يقول إن قرار مجلس النواب العراقي (المتأخّر كثيراً) لا يعبّر عنه، وأن المتظاهر من أجل الحرية يريد للاحتلال أن يستمر وذلك من أجل المزيد من الحرية. المقاييس والمعايير لا تبدو منطقية: كيف تستقيم الحرية في وجود احتلال أجنبي؟ وبين كلّ قرارات مجلس النواب العراقي السيّئة، لم يختر هذا المتظاهر إلّا قرار طرد الاحتلال الأميركي. وقد يعتبر هذا المتظاهر نفسه ثائراً، كما يعتبر رجعيّون ويمينيّون وحريّريون في لبنان أنفسهم ثوّاراً، ويصدّق ذلك غيرهم ويصفهم بالثوار. وهذا الاستسهال لوصف الثورة والثوّار هو صنع أميركي. أميركا هي التي قرّرت أن تصف الهمروجة الطائفية في ١٤ آذار ٢٠٠٥، بأنها «ثورة الأرز»، وهكذا تعلّم الشعب اللبناني أن يُطلق على كل حركة له وصف «الثورة»، وأصبح أي نزول إلى الشارع ــ ولو من قِبل دزّينة من الصبية ــ يستحق وصف «المليونيّة» إذا كانت الشعارات، إن في لبنان أو في العراق، لا تزعج المحتل الأميركي والإسرائيلي والحليف الخليجي. أمّا الحشود بالآلاف لمحتجّين ضد أميركا وإسرائيل (في اليمن أو العراق أو لبنان)، فلا تلقى تغطية غربية أو عربية مقابل تغطية مكثّفة لتظاهرة بالعشرات في إيران أو العراق أو لبنان، إذا كانت الشعارات فيها متناسقة مع المصالح الأميركية أو الإسرائيلية.
لفتني في المظاهرات العراقية على مرّ الأسابيع الماضية، انتشار شعار «لا أميركا ولا إيران». وهذا الشعار لا يختلف عمّا حدث في بيروت إبان الانتفاضة، عندما عقدت لجنة في الكونغرس الأميري لجنة استماع لمناقشة الوضع في لبنان. وتضمّنت الجلسة تدخّلات تفصيلية في شؤون لبنان، وفي إعطاء إرشادات لتوجّه الانتفاضة وضبط مسارها. وكان نجم الجلسة، جيفري فيلتمان، الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، قبل أن يصبح المساعد السياسي للأمين العام للأمم المتّحدة (الأميركي الذي يشغل هذا المنصب هو حكماً، بسبب التمويل الأميركي، المُسيِّر الحقيقي للأمين العام الطيّع). وحاول البعض (أبواق أنظمة الخليج، مثل ساطع نور الدين الذي يذكره القرّاء عندما أفتى أن وراثة أمير قطر لأبيه هي ذروة الديموقراطية العربية) التخفيف من أهمية شهادة فيلتمان، عبر التذكير بأنّه لم يعد يشغل منصباً رسمياً، كأنّ الجلسة لم تشهد آراء متعدّدة لأعضاء الكونغرس، وكأنّ هذا المسؤول السابق لم يعد مساهماً في النقاش حول السياسة الخارجية في العاصمة الأميركية. ترافقت هذه الجلسة مع تصنّع أميركي بعدم التدخّل في شؤون لبنان، وفي دعوة إيران للكفّ عن التدخّل في شؤون العالم العربي. وكان أوّل تدخّل صريح ومباشر من أي دولة في وضع الانتفاضة (يحاول البعض مقارنة ذلك بعبارة وردت هنا أو هناك لمسؤول إيراني حول حزب الله أو حول محور المقاومة). كيف ردّت مجموعات في الحراك على هذا التدخّل الأميركي؟ جرى نقاش مستفيض بين مجموعات وأفراد في الحراك بشأن طبيعة الرد. كان هناك إجماع على ضرورة الردّ، لكن الخلاف وقع مباشرة بشأن طبيعة الرد. واتفق الجميع (مع استثناءات قليلة وصغيرة من قبل يساريّين مستقلّين وتقدميّين) على أن أفضل ردّ على التدخّل الأميركي هو في التظاهر أمام مكتب... جبران باسيل. تحوّل موضوع الاعتراض على التدخّل الأميركي الصفيق إلى ــ مرّة أخرى عند الذين لم تكن «الثورة» عندهم إلا ثورة ضد جبران باسيل ــ تظاهرة احتجاجية ضد جبران باسيل. والطريف أن الذين فعلوا ذلك تحجّجوا بأن واجب وزير الخارجية هو الاعتراض على التدخل الخارجي. هذا وزير يشتمونه ويطالبون برحيله، لكن فقط في موضع الاحتجاج ضد السفارة الأميركية قرّروا أنه أفضل (وأسوأ) من ينطق باسمهم؟ وهذا في وقت اعترض الحزب الشيوعي اللبناني نفسه على التظاهرة في عوكر ولم يشارك فيها، وكانت هذه سقطة كبيرة له، مهما كانت الذرائع (بعض اليسار بات ينفر من تظاهرة يوجد فيها الذين أذلّوا إسرائيل على أرض المعركة وقدّموا تجربة في المقاومة يجب على كلّ اليسار في العالم أن يتعلّم منها، مهما بالغ إعلام ١٤ آذار، ولأسباب خبيثة، في المبالغة في تقدير تجربة «جمّول»، على بسالتها). هذه أوّل تظاهرة في التاريخ ضد تدخّل دولة أجنبية تجري أمام مقرّ وزارة خارجية الدولة المُضيفة، لا أمام مبنى سفارة الدولة التي تدخّلت في شؤون البلد المُضيف.
طرح شعار «لا لأميركا لا لإيران»، هو شعار يخدم الاحتلال الأميركي. كأن ترفع شعار «لا للتدخل السويسري، لا للتدخّل السوري» في لبنان، في زمن سيطرة النظام السوري في البلد. الشعار يبدو مضحكاً، لأن لا موازاة بين التدخل السوري والسويسري في ذلك الزمن. والشعار في طرحه يهدف إلى طمس التدخّل السوري، لو طُرح. ومثله تماماً، أراد بعض الثّوار في لبنان وفي العراق، طمس التدخّل الأميركي وراء شعار رفض التدخّل الأميركي والإيراني، كأن التدخّلَين يتوازيان. كما أن طرح الشعار من قبل ثوّار في لبنان وفي العراق في وقت واحد، لا يشين كل المتجّين والمحتجّات، إلا أنه حتماً يشير إلى مطبخ واحد في الترويج لشعارات تخدم وتريح الإمبرياليّة الأميركيّة. هذا المنطق هو منطق الرئيس السابق (الفاسد) ميشال سليمان في تكرار إيمانه البليد بما يسمّيه (تفخيماً لعظيم دوره في واحدة من أشنع التجارب الرئاسيّة في تاريخ لبنان) بـ«إعلان بعبدا». وهذا الإعلان يكمن في الزعم بإمكانية الحياد في الصراعات الجارية. وهناك من يضيف أن شعار الحياد هذا، لا يشمل الحياد إزاء الصراع العربي ــ الإسرائيلي. كأن دولة لبنان تخوض وغى معارك يومية ضدّ إسرائيل، وهي في هذا غير ملزمة بإعلان حيادها ضد إسرائيل. لكن دولة لبنان (باستثناء تجربة رئاسة إميل لحّود) التزمت بالحياد في الصراع العربي ــ الإسرائيلي على مرّ تاريخ لبنان. كما أن الدولة اللبنانية اليوم، الخاضعة لمناتشات بين أطراف كثيرة متصارعة، لا تقدّم العون للمقاومة ولا تدعمها إلا لفظيّاً، وبكلام خجول (لا يمكن إدراج إعلان جبران باسيل باسم تيّاره أنه لا يكنّ عقيدة عداء ضد إسرائيل في سياق دعم المقاومة).
المقارنة بين تدخّل إيران وبين تدخّل أميركا تستقيم كما المقارنة بين النملة والفيل، فالاختلاف في التدخلين هو في الحجم والنوع. لا قدرة لأيّ دولة في العالم على التدخّل كما تتدخّل أميركا بحكم سيطرتها على مقدّرات الكون، وتطويعها لكلّ المؤسّسات الدولية والخاصّة لصالح استعمارها. تستطيع هذه الأخيرة أن تتدخّل عبر فرض إمرتها على الجيش وقوى الأمن، وعلى النظام المصرفي وإملاء شروطها عليه، وعلى رعاية احتلال أجنبي للبنان. وإذا كانت العلاقة بين الدولة وبين حلفائها هي تدخّل، فليس هناك حلفاء لأميركا. إيران هي حليف لحزب الله وتطلب مشورته، ولا يُنكر إلا الجاهل بشأن حزب الله، أو المُجترّ للدعاية الصهيونية، أن حسن نصر الله هو مشارك فعلي وأساسي في عملية صنع القرار في محوره، ليس في شأن لبنان فقط وإنما في شؤون المنطقة برمّتها. كذلك، لم يكن قاسم سليماني آمراً لنصر الله، إنّما ندّاً له، إن لم تكن مكانة نصر الله أرفع، ليس فقط بحكم مكانته الدينيّة. هل هناك حليف للسعودية في لبنان يشارك محمد بن سلمان في صنع قراره؟ هل هناك حليف لأميركا، مثل ميشال معوّض مثلاً، يشارك الحكومة الأميركية في صنع قرارها؟ بهذا المعنى، ليس لأميركا في منطقتنا من حليف إلا دولة الاحتلال الإسرائيلي. كل الباقين، مهما ارتفعت مكانتهم أو سقطت، أذيالٌ وتابعون ينفّذون الأوامر مقابل خدمات سياسية أو اقتصادية أو أموالٍ. بعدما وثّق وليد جنبلاط تحالفه مع أميركا، بعد اغتيال رفيق الحريري، عبّر عن دهشته لأن أميركا لم تأخذ بنصائحه بشأن سوريا ولبنان. كيف لا تأخذ الإمبراطورية الأميركية بنصائح زعيم ٧٠٪ من ٥٪ من سكّان لبنان؟ كان «حليف» أميركا الوثيق، الملك حسين بن طلال، يهدّد مرة في السنة بأنه سيفضّ تحالفه مع الإدارة الأميركية، كل إدارة أميركية، في حال لم تأخذ بنصائحه في مسألة الصراع العربي ــ الإسرائيلي.
قد يأتي يوم يرفع فيه شباب عربي واقع تحت الضخّ اليومي للاستعمار الغربي، من خلال ثقافة «إن.جي.أو»، أن «لا لإسرائيل ولا لحماس»، أو «لا لإسرائيل ولا لمقاومتها»


وهناك حلفاء مجانيون في العالم العربي لإيران. هؤلاء يؤمنون بعقيدة ولاية الفقيه ويقبلون بقيادة إيران السياسية والدينية لهم. هؤلاء ليسوا إيرانيين، ولم يحاربوا في لبنان مثلاً بأوامر إيرانية، أو لأنهم يريدون المساهمة في توسيع إمبراطورية فارسية. أما أميركا، فليس لديها من حلفاء مجانيين، لأنّ أجندتها تتعلّق بها وحدها ولا تتعلّق بأجندة متطابقة أو متكاملة بينها وبين من يرون في أنفسهم حلفاء. إذا كانت أميركا مستعدة لشنّ حملة مقاطعة اقتصادية في عام ٢٠٠٣ ضد فرنسا (حليفة «الثورة الأميركية» في حقبة الاستقلال) فقط لأن جاك شيراك الذي (لبرهة فقط) جاهَر بمعارضة الغزو الأميركي في العراق، فما بالك بساسة في بلدان عربية؟
العراق بلد محتلّ من قبل الولايات المتحدة الأميركية، منذ عام ١٩٩١، لكن الاحتلال بات مباشراً بعد إسقاط نظام وتركيب نظامٍ مبعثر لا يمكن له أن يشكّل وطناً في يوم ما كي لا تتهدّد إسرائيل. الذين يرفعون شعار «بدنا وطن» في العراق، يتناسون أن أميركا دمّرت لهم وطنهم ومنعت نهوضه عن قصد. هي سمحت بقيام دويلات (باسم المكوّنات)، واختارت أسوأ ما في النموذج اللبناني لتقتدي به في تشتيت الهوية الوطنية العراقية والعربية. وقد دمّر بعض المحتجّين في العراق القنصليّة الإيرانية، وهتفوا ضدّ إيران ــ وهذا حقّهم ــ مع القليل من الغضب ضدّ الاحتلال الأميركي. لا، أكثر من ذلك: هناك في يوم الجمعة الماضي، مَن رفع شعاراً جديداً هناك، ردّاً على تهديد مباشر من قِبل ترامب بأن أيّ دعوة من قبل الحكومة العراقية لسحب قوات الاحتلال الأميركي، ستُقابَل بفرض عقوبات فظيعة على الشعب العراقي. الشعار الجديد كان: «نريد وطن. مَنريد عقوبات». الذين رفعوا هذا الشعار المُستجدي الذليل، لا يستحقّون وطناً لأنهم قابلوا تهديداً مباشراً للشعب العراقي بأمنه وغذائه وعيشه، باستجداء عدم المضي في العقوبات، أي الرضوخ لمشيئة المحتلّ الأميركي. هؤلاء الذين يريدون بناء وطن (من رافعي هذا الشعار) يريدون بناءه على مقاس المحتل الأميركي. وهل هناك ما يمكن لوم إيران فيه على مستوى ما فعلته أميركا من غزو العراق، واحتلاله وقتل مليون من شعبه، ثم تفصيل نظام سياسي فاسد والإصرار على ديمومة الاحتلال، بحجّة ضرورة محاربة تنظيم لم يعُد له وجود؟
في لبنان والعراق، يتوازى بين حلفاء أميركا شعار رفض الصراع الإقليمي. الصراع الإقليمي ليس بجديد، ولو رسمنا طبيعة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية لأمكن ملاحظة تغيّر الأدوار وعناصر وأطراف الصراع الإقليمي، مع استثناء وحيد. الثابت الوحيد في هذه الصراعات هو دور الإمبريالية الأميركية. كانت هذه الأخيرة تصارع، ليس فقط الاتّحاد السوفياتي، بل حاربت كلّ أعداء إسرائيل وقوى اليسار والقومية العربية (إلا عندما تتوافق المصالح بينهم كما حدث في الانقلاب على عبد الكريم قاسم). أي أن الهيمنة الأميركية هي التي عمّرت، فيما لم يصل إلى مستواها أي تدخّل آخر باستثناء تدخّل إسرائيل وحلفاء أميركا الغربيين. أميركا كانت في الماضي تدين ما تسمّيه تدخلات جمال عبد الناصر في الإقليم، فيما كانت تتدخّل لمحاربة عبد الناصر ولفرض حلفائها. وكانت حكومة كميل شمعون في عام ١٩٨٥، تنفّذ مخططاً غربيّاً ــ إسرائيلياً، فيما كانت تتقدّم بشكاوى إلى مجلس الأمن ضد تدخّل النظام المصري. هذه هي طريقة التدخّل الأميركي، بحيث أن هناك مَن يصدّق أن تدخّل أميركا ليس تدخّلاً بقدر ما هو صدّ التدخّل الآخر. تجد أميركا دائماً تدخلاً مضاداً لها كذريعة.
ثم لو عقدنا مقارنة بين تدخّل أميركا في الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وبين تدخّل إيران فيه، فإنّ الفارق هو أن الأولى تدعم إسرائيل وعدوانها بالمال والسلاح، فيما تدعم الثانية، بالمال والسلاح، الفصائل التي تقاتل إسرائيل (بما فيها فصائل لا تعتنق عقيدة النظام الدينية، مثل الجبهة الشعبيّة أخيراً)، بصرف النظر عن دوافع الدعم الإيراني هذا. إن شعار «لا لتدخّل إيران وأميركا» يعني التسليم المطلق بسيادة إسرائيل، من دون معارضة أو مقاومة لمشيئتها في المنطقة العربية. ورفض التدخّل الإيراني بالمطلق، يعني أنه لن يكون هناك أي دعم لأي فصيل مقاومة في كل العالم العربي، فيما لا يكون «الدعم» الرمزي المُهين من قبل أميركا لجيوش عربية تحت مجهر الاعتراض والاحتجاج. والذين يقولون إن تدخّل إيران في فلسطين هو من باب التوسّع الإيراني، هل لديهم بديل عربي يجرؤ على تقديم سكّين لمقاتل فلسطيني؟ هل ستتنطّح أنظمة الخليج لدعم فصائل المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح؟ هذه الأنظمة تلتزم بكل ما تأمرها به أميركا وتغطّي الصراع العربي ــ الإسرائيلي من منظور مصلحة الصهيونية الأميركية. أمير قطر السابق دخل في مفاوضات جدية لبيع محطة «الجزيرة» لواحد من أبرز الصهاينة في أميركا وإسرائيل (حايم صابان). وليس صدفة أنّ استضافة مسؤولين وإعلاميّين إسرائيليّين على المحطات الخليجيّة ــ التي كسرت محظوراً أساسياً منذ عام ١٩٤٨ــ باتت لازمة من لوازم الإعلام العربي. وتغطية محطة «العربيّة» (التي يطلق عليها الكثر من العرب لقب «العبرية») لا يختلف بتاتاً عن تغطية المحطات الغربية الصهيونية للصراع العربي ــ الإسرائيلي.
لكن هناك ما يمكن موازاته في التدخّل الأميركي والإيراني. لقد فرض الطرفان رجال سياسة فاسدين وطائفيين، وقبلوا بهم لأنهم ينفّذون الأوامر. وبعض هؤلاء كان مزدوج الطاعة بين إيران وأميركا. نوري المالكي، كان يُطلب منه حضور جلسة أسبوعية عبر الفيديو كي يعطيه جورج بوش الدروس والأوامر. نوري المالكي، وغيره من خرّيجي مجلس بريمر الاحتلالي، أصبح في محور المقاومة جهاراً لأنّ المحتل الأميركي تخلّى عنه، كما تخلّى في أفغانستان عن الألعوبة، حميد كارزاي. يحقّ للشعب العراقي التذمّر والاحتجاج ضدّ من دعمتهم إيران في السلطة، وضد الذين دعمتهم أميركا في السلطة. لكن هناك بين ثوّار بغداد من يطالب بأياد علاوي (واحد من أفسد الساسة العراقيّين وأكثرهم تنقّلاً في الولايات بين المخابرات الأجنبيّة) أو بفائق الشيخ علي، الذي يزعم في تحليله للسلم الأميركي أن أميركا لم تطلق رصاصة واحدة في الحرب الباردة (وتمرّسَ فائق الشيخ علي في مديح الديموقراطية في صحافة أمراء آل سعود). وهل استبدال فاسدين مدعومين من إيران بفاسدين مدعومين من أميركا يحلّ مشاكل العراق؟
أميركا لم ترحل من العراق طوعاً. الحكومة العراقية رفضت طلباً أميركيا بالبقاء إلى الأبد، وهذا كان سبب تخلّي أميركا عن الذين خذلوها. هي عادت إلى العراق، بعدما انهار الجيش الذي درّبته أمام «داعش»، كما انهار الجيش الذي درّبته في أفغانستان أمام «طالبان». وهي عادت واستقرّت في العراق، بعدما بنت لها قلعة بزيّ سفارة، وكان الـ«مارينز» على استعداد لإطلاق النار ضد المتظاهرين أمامها قبل أيّام. الإدارة الأميركية قررت من قواعدها في العراق قصف مطار بغداد المدني، لقتل مسؤول في دولة أخرى ومن دون إخطار الحكومة العراقية. وعندما قرّر البرلمان العراقي عدم الموافقة على السماح للقوات الأميركية بالبقاء، هدّدت أميركا العراق، وأعلنت رفضها الصريح لقرار مجلس النواب (وهناك مِن المحتجّين من خرج بلافتة تصرّ على أن البرلمان العراقي لا يمثّلهم: أي أن الاحتلال الأميركي يمثّلهم أكثر). هذا الشعار ردّاً على خرق أميركا للسيادة العراقية، يعني أنّ الذي رفعه لا يريد وطناً، بل دويلة محمية خاضعة بالكامل للمحتل الأميركي.
قد يأتي يوم يرفع فيه شباب عربي واقع تحت الضخّ اليومي للاستعمار الغربي، من خلال ثقافة «إن.جي.أو»، أن «لا لإسرائيل ولا لحماس»، أو «لا لإسرائيل ولا لمقاومتها»، والشعار الأخير بات في صلب عقيدة ١٤ آذار منذ عام ٢٠٠٥. إن شعار «لا لإسرائيل ولا لمقاومتها»، لا يعني إلا «نعم لإسرائيل»، كما أن شعار «لا لإيران ولا لأميركا» لا يعني إلا «نعم لديمومة الاحتلال الأميركي»، لأن تدخّل أميركا لا يُعتبر تدخّلاً في عرف هؤلاء. الذين رفعوا شعار «لا أميركا ولا إيران» لم يحرقوا إلا قنصلية إيرانية، ولم يشاركوا في الهجوم على السفارة الأميركية، لأنّ تدخّلها ليس مستنكراً. أميركا تريد جعل احتلالها أبدياً في بلادنا، وهي تقول بصراحة إنها لن تغادر ولو طالبتها الحكومات بذلك، وهناك بين الشباب العربي مَن يساعدها على تحقيق غاياتها، بشعارات «الحرية» و«الثورة» و«السيادة». لكن، ألم تفرض أميركا طغيانها وجبروتها في الحرب الباردة ضد الشيوعية باسم الحرية؟ ألم تدعم أبشع النظم الاستبدادية في بلادنا باسم الحرية؟ عندما تصبح لأي دولة القدرة على الهيمنة والسيطرة مثل أميركا، يمكن عندها التفكير في رفع شعار يوازي بين تدخّل أميركا وبين تدخّل غيرها.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)