لم يتأخر الرد الإيراني على اغتيال الجنرال قاسم سليماني. في توقيته، انطوى على مجموعة من الرموز والرسائل، وفي حدوده خضع لتقدير سياسي وعسكري يحقّق مطلبه من دون الانزلاق إلى حرب إقليمية مفتوحة مع الولايات المتحدة. بدا اختيار التوقيت عند الفجر مقصوداً، حتى يكون الرد في اللحظة نفسها التي اغتيل فيها.وكان اختيار القاعدتين العسكريتين، اللتين جرى قصفهما بصواريخ باليستية من داخل الأراضي الإيرانية، متعمّداً، إذ يرجّح أن تكون طائرة الاغتيال قد انطلقت من إحداهما حيث تتمركز القوات الأميركية في العراق. موجة القصف الصاروخي رافقت مواراة سليماني في ثرى بلدته كرمان الإيرانية، كأنه انتقام يسبق الدفن.
هذه كلّها حسابات تدخل برسائلها في الثقافة الشعبية الإيرانية، التي تُعنى بالرموز أكثر من أيّ ثقافة أخرى في الإقليم. ما يلفت الانتباه هو أن «الحرس الثوري»، الذي يعدّ سليماني أهم جنرالاته، هو الذي تولّى الرد، وليس عبر حلفائه العراقيين، كما كانت تشير التكهنات.
في مراسم تشييع الجنرال سليماني، تبدّى دوره المركزي في النظام السياسي الإيراني، أكثر من أيّ توقعات سابقة. فمنذ رحيل مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني، لم تشهد إيران جنازة شعبية، بأعدادها وقدر الحزن فيها، كما في وداع سليماني. كان ذلك تعبيراً عن نوع النظرة إليه في عيون شعبه، كـ«بطل قومي» يُنسب إليه توسيع الدور الإيراني بصورة غير مسبوقة في معادلات الإقليم وحسابات القوة والنفوذ فيه. رمزيته تفوق منصبه، والثأر لدمه مسألة تدخل في شرعية النظام وهيبته في إقليمه.
تلخّصت المعضلة الإيرانية في أنها إذا لم ترد على اغتيال أهم قادتها العسكريين، فإن مركزها الإقليمي سيتضرّر بقسوة، وإذا ما صعّدت بغير تحسّب فقد تدخل في متاهات ومزالق. لم يكن السؤال عمّا إذا كانت هناك ضربة إيرانية أم لا؟ بقدر ما كان: ما حجمها وماذا بعدها؟ بصياغة أخرى، ما حدود ما سمّته إيران «الانتقام الثقيل»؟
وفق المعطيات الحالية، يصعُب الانزلاق، رغم التصعيد والتصعيد المضاد، إلى مواجهات مفتوحة بالقرب من مصادر النفط تؤثر في الاقتصاد العالمي وتضرب ما تبقى من استقرار في الإقليم. إيران لا تطلب مثل هذا السيناريو، رغم استعدادها المُعلن للتحوّل إلى «فيتنام جديدة». فإثر إطلاق صواريخها، أرسلت رسالة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، تُعلن فيها أنها لا تريد الحرب، ولكنّها ستدافع عن نفسها. كانت تلك رسالة دبلوماسية اكتسبت أهميتها من توقيتها. كذلك، فإن أميركا ليست في وارد التورّط في المستنقع الإيراني، فهو يضرب مصالحها في الإقليم، أياً كانت فوارق القوة، كما أنه يقوّض تماماً فرص ترامب في الانتخابات الرئاسية، الخريف المقبل. من المرجّح الآن أن تتقبل إدارته الضربة الإيرانية، كدَين واجب السداد، من دون تصعيد كبير.
الأجواء الدولية التي استبقت الضربة الإيرانية، توافقت بصيغ دبلوماسية شبه متطابقة على الدعوة إلى ضبط النفس صوناً للأمن والسلم الدوليين، وعدم التصعيد وتخفيف حدّة التوتر في الشرق الأوسط. وما يلفت الانتباه في الكلام الدولي، هو أنه حمّل ضمنياً إيران، الطرف المعتدى عليه، مسؤولية ضبط النفس في ردود فعله، من دون أن يدين سياسياً أميركا، أي الطرف الآخر الذي نفّذ عملية الاغتيال في عاصمة دولة ثالثة. حجم المفارقات والتناقضات في الكلام الدولي يستعصي على الحصر. إسرائيل تبنّت هذه الدعوة بصياغتها، رغم تورّطها المنهجي في التنكيل بالقضية الفلسطينية وزعزعة أي استقرار حقيقي في الشرق الأوسط وترحيبها الحار باغتيال سليماني. أما تركيا، فقد أكدت الدعوة نفسها، طلباً للاستقرار، رغم تأهّبها للتدخل العسكري في ليبيا بما ينطوي عليه من انزلاق محتمل إلى حرب إقليمية فوق أراضيها. كذلك الأمر في الاتحاد الأوروبي، حيث تباينت مواقفه مع الإدارة الأميركية في تقدير العواقب والتبعات، ولم يوفّر دعماً سياسياً للاغتيال، لكنه أضفى عليه قدراً من الشرعية الأخلاقية بربط سليماني بالإرهاب.
رغم التهديدات والتهديدات المضادة بين طهران وواشنطن، إلا أنهما تحسبان للخطوة التالية في توقيتها وحجمها وتبعاتها المحتملة على مصالحهما ودوائر نفوذهما في الإقليم، ولكلتيهما حسابات واعتبارات تحكم تصرفاتهما.
هناك فرضيتان للأسباب التي دعت ترامب إلى اغتيال سليماني:
ــ الأولى، أنه قرار شبه عشوائي لإدارة مرتبكة يتعرّض رئيسها للمساءلة البرلمانية، التي قد تفضي إلى عزله أو إضعاف مركزه الانتخابي، أُريد به تأكيد قوته واستعداده لاتخاذ إجراءات وقرارات رغم أزمته، على درجة عالية من الخطورة، وهذه فرضية مرجّحة نسبياً.
ــ الثانية، أنه قرار مقصود لجرّ إيران إلى مواجهة شاملة تقلّص أدوارها الإقليمية بقوة العدوان المسلّح، وهذه فرضية شبه مستبعدة بالنظر إلى الآراء والتصوّرات التي يعرب عنها الرئيس الأميركي، من وقت إلى آخر، في نبذ فكرة الحرب مع إيران والاستعداد للتفاوض معها.
بحسب ما كشفت عنه صحيفة «ذي واشنطن بوست»، فإن نائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، حرّضا ترامب على اغتيال سليماني، وكلاهما يمينيّ متشدّد موالٍ لإسرائيل، ولا يُستبعد سعيهما لتوريط أميركا في حرب مع إيران لمصلحة الدولة العبرية. غير أن الصورة في الولايات المتحدة أكثر تعقيداً؛ فالحزب الديموقراطي بأغلبيته في مجلس النواب يرفض التورّط في المستنقع الإيراني، ويتأهّب لإصدار تشريع يضع قيوداً على دخول الرئيس في أيّ مغامرات من هذا النوع، كما أن الرأي العام لا يرحّب بها وترامب نفسه يستنكرها، لكنه قد ينزلق إليها بهوس القوة.
من أغرب ما هو منسوب للرئيس الأميركي، دعوته عبر قنوات دبلوماسية السلطات الإيرانية إلى أن يكون ردّها على اغتيال سليماني متناسباً، فما الحجم الذي كان يتصوّره لهذا الرد المتناسب؟
نقل موضوع الصدام إلى وجود القوات الأجنبية في العراق، يطرح نفسه بقوة الآن في التجاذبات الأميركية ــ الإيرانية. هناك كلام كثير عن خرق السيادة العراقية، وهذه مسألة اعتبارية أكثر منها واقعية، حيث انهارت أيّ سيادة بالاحتلال الأميركي لبغداد عام 2003. البرلمان العراقي اتخذ قراراً في هذا الصدد، والسلطات بدأت بوضع آلية لإخراج القوات الأجنبية، بينما توعّد الرئيس الأميركي بفرض عقوبات غير مسبوقة على العراق، إذا أُجبرت قواته على الخروج بطريقة غير ودّية. بدا ترامب كمقاول وتاجر، لا كرئيس دولة كبرى، وهو يقول إن قواته لن تغادر حتى يدفع العراقيون التكاليف المالية للقاعدة العسكرية التي بُنيت.
الكلام المتواتر عن اقتصار الدور الأميركي على التسليح والتدريب والمشورة، فيه انتهاك لحرمة المعاني، فأي دور تسليحيّ هو دور سياسي، وأيّ مشورة عسكرية تدخل في القرار السياسي. إذا لم يكن هناك توافق وطني يضم جميع مكونات المجتمع العراقي، وقادر على تأسيس دولة جديدة تمتلك قرارها، يصعب تصوّر خروج القوات الأجنبية في أي مدى منظور، بالنظر إلى ما يمكن أن تسببه من مشاكل وتصطنعه من أزمات. من بين هذه الأزمات، تسليح الجيش وتدريبه للوفاء بمهامه. من بينها أيضاً، العمل على تغليب الاعتبارات الطائفية بين السنّة والشيعة على حساب المصالح الوطنية، وتشجيع الأكراد مجدداً على الانفصال عن الدولة المركزية. ومن بينها، التساؤلات التي سوف يجري الضغط عليها بشأن طبيعة النظام العراقي، ومن يسيطر على قراره، وإذا ما كان الانسحاب العسكري الأميركي هو الوجه الآخر لتوسع النفوذ الإيراني.
التوافق الوطني، هو وحده الذي يجنّب العراق مغبّة أن تتحوّل أرضه إلى ساحة لتصفية الحسابات وجرّه إلى الاحترابات الأهلية. في المشاهد المأزومة سؤالان رئيسيان يُطرحان بقوة وإلحاح، هما: ما مصير الاتفاقية النووية بعد إعلان طهران تخفيضاً جديداً في التزاماتها؟ وما مستقبل الحرب مع «داعش»، الذي قد يطلّ برأسه من بين خرائب أيّ مواجهات واسعة محتملة؟
الأوروبيون قلقون من إلغاء الاتفاقية من دون أن يكون لديهم ما يقولونه للإيرانيين، غير الدعوات العامة إلى الحفاظ عليها، وترامب يتوعّد بأنه لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نوويّ، لكنه يبدي في الوقت نفسه استعداداً للتفاوض على اتفاقية نووية جديدة. إلى أين يمكن أن تمضي الأزمة؟ أين تتوقف بالضبط؟ وما الصور التي يمكن أن تأخذها بعد الضربة الإيرانية؟ هذه أكثر الأسئلة إلحاحاً بعد مواجهات الفجر بين واشنطن وطهران.

* كاتب وصحافي مصري