في وقت كانت الانتفاضة الشعبية التي هبّت في لبنان ضدّ أرباب النظام الطائفي الاستغلالي، تعاني من هجوم طيفٍ من القوى المضادّة للثورة (...) رأت «الأخبار» أن تخصّني بصفحتين كاملتين مكرّستين للقدح والذمّ بي، وذلك في عددها الصادر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2019. وسوف أكتفي هنا بمناقشة محتوى الصفحتين، ليس لجدارتهما بل لكونهما تشكّلان عيّنة نموذجية من أسلوب تشهيري ينتمي إلى التقاليد التوتاليتارية في الذمّ بالمعارضين اليساريين، وتلفيق تهم خارقة بحقّهم. هذا وقد أوكل مهندس الصفحتين التشهيريتين مَهمة تحريرهما إلى كاتبين من النوع الملائم لمثل هذه المَهمة، فطلب من أحدهما أن يتناول موقعي الأكاديمي وموقفي من الصهيونية، بينما كلّف الثاني بتناول تحليلي للسيرورة الثورية التي تشهدها المنطقة العربية منذ تسع سنوات. ومن الواضح تماماً لكل مطّلع حقّاً على كتاباتي ومسيرتي أن الكاتبين لا يعرفان منها سوى ما استطاعا أن يتلقّفاه بسرعة على الإنترنت بغية إنجاز المَهمة المستعجلة التي أنيطت بهما.بدأ كاتب المقال الأول مقاله بوصف نفسه بأنه ينتمي إلى «الماركسيّين الآتين إلى الماركسية من البؤس»، ولم يحدّد أي بؤس قصَدَ، ولعلّه عنى البؤس الفكري إذ أن «الماركسية» لديه بائسة حقاً. فقد وجد على موقع «المدن»، مقالة تافهة وعديمة المسؤولية لكاتب ناقش مدى انطباق مقولة «المُخبر المحلّي» على الأكاديميين العرب العاملين في جامعات غربية، وعليَّ بصورة خاصة، مورداً ومستبعداً حجة بعد أخرى وكأنه يناقش مع نفسه (نشر الموقع ذاته ردّي عليه). هذا وحيث وضع كاتب «المدن» علامة استفهام على المقولة المذكورة في عنوان مقالته، اقتبسها كاتب «الأخبار» تحت عنوان حلّ فيه التأكيد محلّ التساؤل، على نسق اتهامات التخوين المحرِّضة على الاعتداءات والممهِّدة لها، إن لم يكن للإعدامات أو الاغتيالات.
وبعد ديباجة طويلة ومتعجرفة أخبرنا فيها الكاتب عمّا لديه من «حساسية مفرطة تجاه نموذج المثقّف البرجوازي عموماً وطبعته المتغرّبة خصوصاً» (عجيبٌ حقاً هذا «الماركسي البائس» الذي لديه «حساسية مفرطة» تجاه صنف اجتماعي بمجمله ينتمي إليه أغلب منظّري الماركسية، بدءاً من مؤسّسَيها!)، وقبل خلاصة لخّص فيها مقاله بعبارة «قلْ لي كيف تكسب عيشك، أقُل لك من أنت، وماذا ستقول»، وهي عبارة مستمدّة من «مادية» شديدة الابتذال، تضع جميع العاملين في جامعات غربية في سلّة واحدة (ومنهم بعض أبرز كتّاب «الأخبار»)، بين تلك الديباجة وهذه الخلاصة، خصّص الكاتب لمناقشتي مباشرة عدداً قليلاً جداً من الكلمات وذلك لافتقاره للحجج.
بدأ تناوله لي شخصياً، بالقول إنه «كُشف» (كأنه سرّ) عن مشاركتي من خلال مؤسستي الجامعية، «معهد الدراسات الشرقية والأفريقية» (سواس) في جامعة لندن، في «برنامج لوزارة الدفاع البريطانية غايته تدريب جنود جلالة الملكة على كيفيّة التعامل بحساسية ثقافيّة عندما تأخذهم مَهماتهم إلى زيارات (عمل) في البلاد العربية». وأشار في هذا الصدد، إلى «فضيحة أكاديمية» شكّلتها مقالة وجدها على الإنترنت، وقد نُشرت بتاريخ 24/7/19 (وليس 25/7 كما كتب) في صحيفة «مورنينغ ستار»، التي تصدر عن بقايا أحد أجنحة الحزب الشيوعي البريطاني. هذا ولم يُشر ناقدي إلى المقال اللاحق، الذي أصدرَته الجريدة ذاتها بعد خمسة أيام (29/7) للتعويض عن الخطأ الذي ارتكبته، وذلك إثر التواصل معي والاطّلاع على حقيقة الأمر. وقد وضعت المقال الثاني بصورة بارزة على صفحة المقال الأول على موقعها، بحيث يراه كل من يفتح هذه الصفحة.
وما دام هذا الموضوع قد أثير، فهي فرصة لي لأن أوضّح هنا ما أوضحته للصحيفة المذكورة. لقد فاز معهدي بمناقصة أطلقتها وزارة الدفاع البريطانية لإلقاء محاضرات في تاريخ وسياسة واقتصاد ثلاث مناطق من العالم، منها الشرق الأوسط. ويتابع المحاضرات بعض الجنديات والجنود وضباط الصفّ والاحتياطيين، حيث إن التسجيل فيها متاح لمن شاء من هذه الفئات، ولا يحضرها أي من أصحاب الرتب العالية وصنّاع القرار العسكري ــ ناهيكم من صنّاع القرار السياسي الذي تشكّل القوات المسلّحة أداة لتنفيذه، إلّا في الديكتاتوريات العسكرية.
والحقيقة أنني سررتُ لفوز معهدي بالمناقصة، وهو مشهور بيسارية جسمه التدريسي ومناهضته للإمبريالية وللصهيونية (إلى حدّ أن الصهاينة أطلقوا عليه تسمية «معهد اللاسامية» لعباً على أحرف «سواس»). فمن الأفضل بكثير أن يتعرّض جنود وجنديات جلالتها إلى محاضرات ناقدة للإمبريالية ونابذة للعنصرية، من أن يتعرّضوا إلى تثقيف يميني عنصري من طرف إحدى الجامعات المعروفة بيمينية جسمها التدريسي (أرجّح أن معهدي فاز بالمناقصة، لأنه طلب مبلغاً أقل ممّا طلبه المنافسون بما يتناسب مع التقشّف السائد). وقد أتى ذلك في وضع تميّز باحتمال قوي لوصول حزب «العمّال» البريطاني (الذي أنتمي إليه) إلى السلطة تحت قيادة مشهورة بمناهضتها للإمبريالية وللصهيونية، بل وللرأسمالية عموماً.
فمن بديهيات العمل اليساري الناضج، استغلال أي فرص تتيح مخاطبة قواعد القوات المسلّحة وتوعيتها ضد استخدامها لأجل مصالح رأسمالية وإمبريالية متعارضة مع مصالح الفئات الشعبية التي تنتمي إليها. والحال، أن تلك القواعد تضمّ في المجتمعات كافة نسبة عالية من أكثر الفئات فقراً وتعرّضاً للاضطهاد (كالسود في الولايات المتحدة). وقد روى لي صديقي نعوم تشومسكي كيف كان المناهضون لحرب فيتنام، وكان هو من أبرزهم، يسعون قصارى جهدهم للتواصل مع الجنود. روى لي ذلك عندما سألته عمّا حدا به إلى قبول دعوة لإلقاء محاضرة في أهم كلية حربية أميركية. وقد يعجب الناس في بلداننا من حصول مثل هذه الأمور التي يستحيل تصوّرها في ظل أنظمتنا الاستبدادية.
وقد تحققتُ في تجربتي الشخصية مع البريطانيين ممّا أكّده تشومسكي عن كون بعض أفراد القوات المسلّحة الأميركية منفتحين على الآراء المناهضة للإمبريالية، وهو ما يؤدّي ببعضهم إلى كشف ما يرفضه ضميرهم وإلى أشكال أخرى من التمرّد إزاء شتّى الحروب «القذرة». ما قاله تشومسكي كان يتعلّق بتلامذة كلية يتخرّج منها كبار الضباط، فكم بالأحرى أن ينطبق على القاعديين الذين التقيت بهم في تجربتي. وقد وجدت بالفعل لدى بعضهم ترحيباً حاراً بمحاضراتي التي شملت نقد المنطق الاستشراقي العنصري، ورهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا)، والاستيلاء الصهيوني على فلسطين، وتبعية بريطانيا للإمبريالية الأميركية، وخوض الدولتين الحليفتين حروباً مدمّرة في الشرق الأوسط سعياً وراء الثروة النفطية، ونفاقهما باسم حقوق الإنسان والنساء، بينما تتواطآن مع أسوأ الأنظمة الاستبدادية في المجالين.
كذلك، شرحت في محاضراتي أن الأزمة الثورية التي انفجرت في المنطقة العربية، منذ عام 2011، لا حلّ لها سوى بتغيير اجتماعي وسياسي جذري في طبيعة الأنظمة واعتناق سياسات اجتماعية واقتصادية نقيضة لوصفات صندوق النقد الدولي التي تدعمها الحكومات الغربية. كل ذلك تضمّنته المحاضرات التي ألقيتها على العشرات من أفراد وزارة الدفاع البريطانية، ولم يمتعض منها سوى نفر قليل من اليمينيين كتبوا احتجاجاً على آرائي اليسارية «المتطرّفة»، وطالبوا بتنحيتي من البرنامج (وقد يحصل ذلك، ولا سيما بعد فوز اليمين الكاسح في الانتخابات النيابية الأخيرة).
والعبرة هنا لا تحتاج إلى شهادة عليا في الاستراتيجية الثورية: فإن التعامل الأكاديمي مع أيٍّ من مؤسسات الدولة البرجوازية، وليست وزارة الدفاع أسوأ في هذا المجال من وزارة الخارجية (التي تُشرف على بيع الأسلحة)، أو حتى من وزارة التعليم (إذ أن مؤسسات التعليم ليست «أذرعاً ناعمة للهيمنة الغربيّة السافرة» وحسب، كما جاء في مقدمة مهندس صفحتَي التشهير، بل هي «أذرع ناعمة» للهيمنة الطبقية في الدول كافة)، إن التعامل مع أي من هذه المؤسسات يعتمد الموقف منه على طبيعة التعامل: هل يخدم الأجندة الإمبريالية و/أو الطبقية، أو يستفيد من «الحرية الأكاديمية» (تلك التي يسعى الصهاينة وأصدقاؤهم سعياً حثيثاً وراء تقويضها، في ما يتعلّق بنقد الصهيونية في شتى البلدان الغربية، ولا سيما بريطانيا) كي يبثّ فكراً مضاداً للسياسات التي تعمل بها تلك المؤسسات؟ هذا هو السؤال المُجدي، خلافاً للموقف الصبياني من تحريم أي تواصل مع الجنديات والجنود دون سواهم، وكأنهم شياطين.
بعد هذا الشرح للمحاضرات التي أشارك في إلقائها من خلال معهدي، أنتقل إلى سائر ما جاء بخصوصي في المقال الأول. وقد قال عنّي كاتبه: «كان قد قدّم أوراق اعتماده مبكراً للصهيونية العالمية من خلال نشره كتاباً متخماً بالانحياز والتسطيح والرداءة العلمية عن العرب والهولوكوست». فعدا التبجّح المفرط الذي ينمّ عنه هذا الحكم، يتّضح تماماً أن كاتبه لم يقرأ الكتاب، بل يجهل عنوانه بالعربية وهو «العرب والمحرقة النازية». ولو قرأه، لرأى على صفحاته الأولى إشادة قوية به من عدد من أبرز الأخصّائيين في المسائل التي تناولها الكتاب، ومنهم رشيد خالدي والمأسوف عليه نصير عروري، اثنان من أبرز الأكاديميين الفلسطينيين العاملين في جامعات غربية بعد إدوارد سعيد، أشهرهم على الإطلاق.
وبدل الاطلاع على الكتاب، بحث كاتبنا عن نقد له على الإنترنت، فوجد مقالاً استشهد به بغية إعطاء انطباع بسعة الاطّلاع وعمق التفكير، فأحال القرّاء إلى «نقد أستاذ التاريخ الأوروبي جيفري هيرف للكتاب في مجلّة «نيو ريبابليك» الأميركية». وقد وصل بؤس الكاتب إلى حدّ عدم قراءة النقد الذي استشهد به، والذي ينطلق من موقف صهيوني صريح، لا لبس فيه. والحال أن هيرف من الصهاينة الأميركيين المحافظين الجدد، ومؤلف أحد الكتب التافهة التي تُصوّر العرب كأنصار للنازية.
ثم أضاف عنّي ناقدي: «وقد سارع وقتها لتقديم نفسه مرشداً من خلال مقابلة أجراها مع يوميّة «معاريف» الإسرائيلية». هنا أيضاً، يتّضح أنه لم يقرأ ما استشهد به، إذ أنني لم أدلِ بأي مقابلة للصحيفة المذكورة، بل أجبت هاتفياً عن أسئلة مراسل في برلين ليوميّة إسرائيلية أخرى هي «يديعوت أحرونوت»، ردّاً على التذرّع الصهيوني بالمحرقة. أقول إن ناقدي لم يقرأ المقابلة، إذ أن ذلك كان بوسعه تماماً لسبب بسيط هو أن صحيفتَي «الأخبار» و«القدس العربي» نشرتا ترجمة عربية كاملة للمقابلة (بتاريخ 12/05/2010). هذا ولم يخطر في بال ناقدي أن يتساءل كيف استمرت صحيفة «الممانعة» بامتياز، في نشر مقال تلو مقال لكاتب «قدّم أوراق اعتماده مبكراً للصهيونية العالميّة»!
ثم خلص ناقدي: «كان طبيعياً بعدها أن يصبح من عتاة الداعمين فكرياً للربيع العربي (المزعوم) في هجمته على سوريا، مستخدماً كل المنابر التروتسكيّة والقطريّة ودور النشر الأميركية لذمّ النظام السوري، والتنظير لثورات العرب الملوّنة، وأسباب انتكاساتها اللاحقة، مقدماً نفسه دائماً مفكراً ذا توجهات يسارية». والحقيقة، أن سخافة هذا الحكم الآخر وعداءه السافر للسيرورة الثورية العربية الجارية منذ تسع سنوات، وخلطه بين «سوريا» والنظام السوري، وجهله أن أهم المنابر القَطرية، ألا وهي قناة «الجزيرة»، استضافت بعض كتّاب «الأخبار» عدداً من المرّات (وفي الدوحة بالذات) يفوق بكثير استضافتها لي النادرة جداً (وفي لندن فقط)، كلّها أمور بغنى عن المزيد من التعليق.
أما صاحب المقال الثاني المخصّص لهجائي، فقد اعترفَ في آخر مقاله بصعوبة المَهمة التي أنيطت به: «نموذج جلبير الأشقر عصيّ عن النقد، بل حصين للغاية...، ومن الخطر الاشتباك معه». هذه المصارحة جعلتني أشفق على كاتبها وأتناول ما كتب بروح مرحة، ولا سيما أن ما ساقه في حقّي من اتّهامات، هو من الأكثر فكاهة بين التي تعرّضت لها في حياتي السياسية. فقد اتّهمني الكاتب بأنني «دافعت» عن «جبهة فتح الشام ــ النصرة» في أحد مقالاتي في «القدس العربي» (يذكر تاريخ 19/10/2016 بينما يقتبس من مقال بتاريخ 14/10). بيد أن الاقتباس الذي أتى به، هو بكل وضوح وصفٌ لموقف «المعارضة السورية» في التمييز بين «النصرة» و«داعش»، ولا يعبّر عن رأيي في الجبهة المذكورة.
ثم تساءل الكاتب «ولماذا على الاشتراكي التقدمي أن يطالب بوجود أميركي على أرض سوريا في اللحظة التي يدين فيها الوجود الأجنبي التابع للأسد؟». وأتساءل أي اشتراكي تقدّمي قصدَ، إذ أنني لم أطالب قط بوجود أميركي على أرض سوريا، بل حذّرت منذ بداية الانتفاضة السورية من طلب التدخّل العسكري الغربي، وذلك في مقال نشرته «الأخبار» بتاريخ 16/10/2011 («سوريا: بين العسكرة والتدخل العسكري وغياب الاستراتيجية»). هذا وأحد أكثر المقالات انتشاراً بين مقالاتي الأسبوعية في «القدس العربي»، وعنوانه «سوريا والاحتلالات الخمسة» (14/03/2018)، يبدأ بالتأكيد على «أن سوريا اليوم تئنّ تحت وطأة خمسة احتلالات أجنبية، هي بترتيبها زمنياً حسب تاريخ بدئها: إسرائيلي وإيراني وأميركي وروسي وتركي».
من بديهيات العمل اليساري الناضج، استغلال أي فرص تتيح مخاطبة قواعد القوات المسلّحة وتوعيتها ضد استخدامها لأجل مصالح رأسمالية وإمبريالية


ثم يأخذ عليّ ناقدي أنني «لم (أنظر) إلى خطر استمرار الإخوان في مصر»، بل دافعت عن استمرار محمّد مرسي في الحكم بحجة أنه «انتُخب بصندوق»، وأنني «لم (أدرك) وضع الجيش في بناء الدولة المصرية». فأحد أمرين: إما أن الكاتب لم يقرأ أي من كتابيّ المخصّصين للسيرورة الثورية العربية («الشعب يريد» و«انتكاسة الانتفاضة العربية»)، ولا سيما الثاني الذي كرّست قسمه الأكبر للتجربة المصرية وصولاً إلى استيلاء العسكر بقيادة عبد الفتاح السيسي على الحكم، أو أنه قرأهما ولم يفهم ما قرأ. ولست أدري أي الاحتمالين أسوأ بالنسبة إلى من يدّعي نقد الكتب.
في مستهلّ المقالتين الهجائيّتين، كشف مهندسهما سبب حملته على الندوة التي كان مزمعاً أن أحييها مساء يوم صدورهما في «الأخبار». وهي حملة اندرجت بوضوح في تأسّف المهندس على الأوقات «المظلمة» التي تشهدها كل من بيروت وبغداد حسب قوله، وفيه إشارة واضحة إلى موقفه المضاد للانتفاضتين العراقية واللبنانية. فقد خشي من أن أخصّص ندوتي، التي كان عنوانها «السياق الإقليمي للانتفاضة اللبنانية»، لإدانة دور النظام الإيراني في البلدين. بل ظنّني من «العائدين فجأة إلى ملاعب الصّبا» من أجل ذلك تحديداً، وكأنني عدتُ بصورة «مفاجئة» بعد نفي طويل كالذي نأى برئيس الجمهورية اللبنانية الحالي عن لبنان لسنوات عديدة، إثر شنّه «حرب تحرير» ضد الوجود العسكري السوري، هذا الرئيس الحالي نفسه الذي غدا هو وصهره الطائفي والكاره للفلسطينيين والسوريين حليفَي «الممانعين» بامتياز.
ختاماً، ولإرواء غليل مهندس هجائي حول سبب زيارتي الأخيرة، فليعلم أنني أتيت هذه المرّة تلبية لدعوة من قِبَل «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» للمشاركة في اجتماع مثّلتُ فيه «مركز الدراسات الفلسطينية»، الذي ساهمتُ في تأسيسه في معهدي في عام 2012 وتوليتُ رئاسته حتى العام الماضي.

■ ■ ■


ردّ على الردّ
الأستاذ جلبير الأشقر يستسلم لحالة من البارنويا، ويترك لنرجسيّته المجروحة أن تنسج نظرية مؤامرة كاملة، يعطي لنفسه فيها دور الضحيّة… من حقه الدفاع عن نفسه طبعاً، والرد على منتقديه، ولطالما كانت صفحات «الأخبار» مفتوحة للجدل والاختلاف. لكن ليس من الجدية في شيء أن يتصرّف مفكر مرموق مثل طفل مذعور يهرع باكياً إلى حضن أمّه، خوفاً من «الصبية الزعران» الذين يؤرقون وجوده. في مواجهة الجدالات الحاسمة، يلجأ بعض ضعفاء الحجة، إلى استراتيجية دفاعية بائسة هي رمي المنتقدين بتهم «التشهير» و«التحريض» و«تحليل الدم»: هذا كسل فكري في أفضل الأحوال، وقلّة أمانة، تتوخّى أبلسة من يخالفنا في الرأي، ولا نجد ما نرد به عليه إلا محاولة إسكاته أو ابتزازه أو إعدامه معنوياً (على قاعدة: نحن التقدميون «الأخيار»، وهو «الشرير» نصير الاستبداد وعدو الحرية والاختلاف). إنها الرقابة غير المباشرة، والإرهاب الفكري في أبهى حللهما! يتجلّى نهج الضعفاء هذا، في طريقة تناول الأشقر لمنتقديه، فتصور له مخيّلته المحمومة أن هناك غرفة سريّة تحوك المؤامرات عليه. لا يشير الأشقر بالاسم هنا إلى الزميل بيار أبي صعب، علماً أنّه سبق أن سمّاه ورشقه بسلسلة من التهم الخطيرة في مقالة متوترة، نشرتها جريدة عربية تصدر من لندن. كلا ليس هناك «مهندس» خفي للملف الذي نشرته «الأخبار»! عملنا كعادتنا على فتح نقاش حول مسائل حيوية. وكتّابنا ليسوا أدوات، أو دمى تحرّك خيوطها يد شريرة خفية. كل منهم يكتب ما تمليه عليه قناعاته، ويتحمّل مسؤولية كتاباته. أما الزميل بيار أبي صعب، فلم يكتب إلا تغريدة واحدة من 280 حرفاً، لا تستحق كل هذه الهستيريا! تغريدة هادئة وصادقة، استبق فيها المحاضرة التي كان من المُزمَع تقديمها، تتساءل حول منهج جلبير الأشقر وأطروحته، وكيفية وضعه الانتفاضة اللبنانية في سياق «الربيع العربي». ولكي نعرف أكثر، تدعو التغريدة إلى متابعة المحاضرة ومناقشة أطروحاتها إذا لزم الأمر. هذا على حدّ علمنا، أبسط حقوق أي شخص في سياق سجال ديمقراطي. أما أن يرى مفكر «الربيع العربي» في ذلك تحريضاً، فتلك مشكلته. وأن يقوم بتركيب نظرية مؤامرة كاملة، يحمّلنا فيها آراء مواقف مسبقة من التحركات الشعبية ضد الاستبداد، ويستقرئ «نياتنا الخفية»، فهذا ليس من الحوار الديمقراطي، ولا من المنهج العلمي والعقلاني والأكاديمي في شيء. لسنا مسؤولين عن تهويمات الأشقر أو سواه، وعن قيامه بالمصادرة على أفكار الناس وسلوكهم، من خلال نفسيته المذعورة. وليس في ثقافتنا ومراجعنا وتاريخنا وأدائنا، ما يوحي بأننا ندعو إلى إلغاء الرأي الآخر أو التحريض على أصحابه. وكنا سنكون أول الحاضرين إلى مكان المحاضرة، لولا إلغاؤها المفاجئ. وفي السياق نفسه، من غير المنصف، بل من الجهل المدقع أن يُسقط جلبير الأشقر على زميلنا مواقف سياسية لا تشبهه من الانتفاضات العربية… هذا تزوير، وهذا جهل، بل عجز عن النظر إلى التدرّجات اللونية لواقع معقّد. هذه قلّة أمانة مؤسفة حين تصدر عن مفكّر ينتمي إلى مشروع التقدّم والتغيير. لعلّ الخلاف الأساسي بيننا، أننا نتعامل مع معركتَي التحرّر والتحرير كوجهين لقضية سياسية ومصيريّة واحدة، وأننا لا نفصل بين النضالات المطلبية والطبقية والتقدمية والديمقراطية، وبين التصدي للمصالح الاستعمارية ورفض أشكال التبعية كافة… فيما «ضحيتنا» المزعومة لا تمانع من التحالف مع الإمبريالية، من أجل أن تنصرنا في معركة «التقدم» و«التغيير» في مجتمعاتنا العربية.
«التحرير»