الإفلاس الاقتصادي والمالي والنقدي الذي يعاني منه اللبنانيون، الآن، هو على صلة سببية بمنظومة المحاصَصة الطائفية التي تُدار مؤسسات السلطة اللبنانية من خلالها. هذه السلطة أمعنت حتى شرعنت، بفجور واستخفاف بالمواطنين، الفساد والهدر والنهب. عطَّلت الدستور وخالفت القانون. استتبعت القضاء وهمَّشت أجهزة الرقابة. شوَّهت تسوية "الطائف" وبترت وألغت إصلاحاته... طيّفت كل الحياة السياسية والاجتماعية. قمعت المعارضة الشعبية وصادرت المؤسسات التمثيلية بالتزوير والإغراء وشراء الضمائر. هي، منذ ثلاثة عقود على الأقل، قادت سياسة مثابرة لضرب الإنتاج الصناعي والزراعي. كرَّست اقتصاداً طفيلياً تابعاً... ما جعل البلاد رهينة مديونية هائلة نتيجة نهب منظم من قبل تحالف غير مقدَّس ضمّ محتكري السلطة وحيتان المال والمصارف وحاكمية البنك المركزي. الإفلاس الاقتصادي المخيف، الذي دخلت البلاد نفقه المظلم، يقترن، في هذه المرحلة، بإفلاس سياسي حيث إن منظومة المحاصصة الطائفية، باتت عاجزة عن مواصلة ممارسة سلطتها، أساساً، بسبب التنافس الفئوي والصراع على مواقع النفوذ والقرار. كذلك، هي تعاني من تناقض أساسي بين تكتلاتها وأطرافها، بشأن العلاقات والتحالفات والصراعات الإقليمية وخلفيتها في الصراعات الدولية، التي ما زالت منطقة الشرق الأوسط ساحة محورية من ساحاتها، لبسط النفوذ والهيمنة والتنافس.
في المشهد الراهن، برز لاعب مؤثر هو حركة الاحتجاج الشعبي المستمر منذ السابع عشر من تشرين الأول / أكتوبر الماضي. جملة من الارتكابات والأخطاء والإهمال والعجز والمخاطر دفعت، إلى الشارع، بمئات آلاف اللبنانيين الذين استيقظ في أذهانهم، بسبب هول الأزمة، إدراك لبعض أبرز أسبابها ولمعظم المسؤولين عنها. اندفعت جماهير واسعة، في معظم المناطق، مطالبة بالتغيير، منددة بالطائفية والفساد والنهب وقلة المسؤولية والاستخفاف بمصالح البلاد ولقمة عيش العباد، وبكرامات اللبنانيين على وجه الخصوص.
نشأت إثر ذلك، معادلة تتمثل في عدم قدرة كل من الحاكمين والمحكومين على الاستمرار في المواقع والعلاقات والتوازنات السابقة (معادلة بدء تغيير رصد لينين بروزها في الأزمات الكبرى).
في الواقع، إن التطبيق المشوَّه للدستور بتعطيل أو بتر إصلاحات تسوية "الطائف" قد ولَّد وضعاً شاذاً في مرحلة ما بعد انتهاء الإدارة السورية للبلاد عام 2005. طبعاً، لم يكن ذلك بسبب انتهاء تلك الإدارة، بل بسبب عدم متابعة واستكمال الآلية المقرّة في "الطائف"، من قبل الإدارة السورية والقوى السياسية اللبنانية: الموالية والمعارضة. وفق دستور "الطائف"، أصبح مجلس الوزراء، مجتمعاً، هو سلطة القرار التنفيذي في البلاد. اشترط الدستور (المادة 95) على مجلس النواب الأول المنتخب على أساس "المناصفة" بين المسلمين والمسيحيين، أن يشكل، خلال ولايته، "هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية" ولانتخاب مجلس نيابي متحرِّر من القيد الطائفي. السلطة في المجلس العتيد، كان ينبغي أن تنشأ على أساس سياسي. وأن يتشكَّل المجلس النيابي والسلطة المنبثقة عنه، على أساس سياسي لا طائفي، أيضاً. أي أن تتشكل أكثرية تحكم وأقلية تعارض. الأكثرية المعنية هي التي ينبغي أن تمارس سلطة القرار التي كانت لرئيس الجمهورية في المرحلة السابقة. بعدم تطبيق هذا النص الدستوري الذي يشكل جزءاً محورياً من إصلاحات ما بعد "الطائف"، وخصوصاً من آلية تنفيذها، ومن خلال كون هذا التعطيل متعمّداً من قبل المعنيين: سوريين ولبنانيين، نشأ فراغ في مركز القرار الذي توزّع على نحو طائفي ("ميثاقي" كما يقال) بين ممثلي الطوائف المتنازعين ما عطَّل آلية "الطائف" وأحال القرار إلى الطرف السوري حتى عام 2005. هذا الأمر، كما أشرنا، تفاقم بعد خروج السوريين وبعد تحويل المؤقت إلى دائم. ثم بعد انطلاق تحالفات وشعارات تشدِّد على أولوية استعادة "الحقوق"، كما مارس "التيار العوني" خصوصاً.
لقد تكرّست المحاصصة وتوغّلت في كل مفاصل الإدارة، وخصوصاً في مجلس الوزراء الذي بات يتشكل ويتحرك انطلاقاً من التمثيل الطائفي (حكومات "وحدة وطنية")، لا في ضوء الخيارات السياسية وتوزّع الأطراف، بشأنها، بين أكثرية وأقلية. هذا الوضع الشاذ هو ما تفاقم إلى "ميثاقية" طائفية استشرت وتطرَّفت إلى محاولات العودة عن الإصلاحات وإلغاء أساسها الدستوري، وليس فقط مجرد تجميدها أو تعطيلها أو العمل بما يناقضها في الإدارة والسياسة.
الخلل في السياسات وفي الآلية، تفاقم مع ضغوط إقليمية ودولية لإحداث تغيير في سياسة لبنان الخارجية ارتباطاً بصراعات المنطقة وانقساماتها. واشنطن تقود هذه الضغوط المتنوّعة محاولةً فرض "صفقة القرن" التصفوية على الشعب الفلسطيني والمنطقة.
الموقف الأميركي والصهيوني من "حزب الله" وسياسته وسلاحه وتحالفاته شكّل هو المستهدف الرئيسي، في لبنان، من قبل السياسات الأميركية والإسرائيلية. تغيير توازنات السلطة بات هدفاً مباشراً لهذا الغرض. انعقدت تناقضات الداخل على تناقضات الخارج. شكّل التحرك الاحتجاجي قبلة الأنظار لإحداث التغييرات المذكورة. فرضت كل هذه المعطيات لوحة معقَّدة خصوصاً، بسبب ضعف دور قوى التغيير التقليدية (اليسارية والوطنية)، وبسبب تشتّت حركة الاعتراض وكثرة الناشطين في صفوفها من أجل دفعها بعيداً عن أهدافها المعلنة والمشروعة تماماً في محاسبة المسؤولين عن الكارثة وعن تداعياتها المخيفة على الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني.
لقد نجحت الانتفاضة الشعبية في جذب مئات الآلاف، مشاركين ومتعاطفين، إلى نشاطاتها ودعمها، لكنها عجزت، بالمقابل، عن بلورة برنامج بأولويات، وقيادة بمشروعية وصلاحيات، تمكنانها من تنظيم ضغط متصاعد ومن مواجهة محاولات الخارج للاستغلال والتوظيف، ومحاولات السلطة الداخلية، للإفلات من المحاسبة.
يطفو على السطح شعار "كلن يعني كلن". الأمر أقرب، في الشكل وفي المضمون، إلى الاقتصار في المحاسبة والمحاكمة، على دور الأشخاص، من دون التوغّل إلى البنى والتوجهات والسياسات العامة. تجاوُز الواقع الطائفي في شعارات المنتفضين والربط بين الطائفية والفساد والفشل، لم يذهب، هو الآخر، إلى عمق المشكلة الجوهرية القائمة في منظومة المحاصصة نفسها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الموقف من أسباب الأزمة الاقتصادية حيث يقتصر الانتقاد على الفاسدين من دون النفاذ إلى عمق النموذج الريعي الطفيلي نفسه.
الصراع على السلطة والسياسات الداخلية والخارجية في ذروته. كان الأمر كذلك قبل تكليف الوزير السابق حسان دياب بتشكيل الحكومة، وسيتصاعد بعد التكليف: وسط اعتراض سياسي، و"ميثاقي"( طائفي)، وشعبي (من قبل المنتفضين)، وتحريض دائم من قبل ممثلي وحلفاء واشنطن. كل ذلك يعني أن المعركة مفتوحة على مصراعيها. هو يعني أن الانتفاضة ينبغي أن تستمر، وأن يتطور تأثيرها بتطوير أدائها والتخلص من سلبياتها. لن تحل الأزمة المخيفة الراهنة بغير رزمة من الإصلاحات والإجراءات الاقتصادية الجدية، وبغير العبور إلى الدولة المدنية، دولة المواطنة المتساوية والقانون والمؤسسات. ليس المطلوب، للإنقاذ، أقل من الانتقال إلى إقرار عقد اجتماعي جديد. ولن يحصل ذلك بغير توحيد البرنامج والأولويات والقوى والوسائل الشعبية. ينبغي على قوى الانتفاضة والتغيير أن تبحث، جدياً، فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر تأسيسي تتوحّد، هي، أولاً من أجل المطالبة بانعقاده، على أن تضغط من أجل فرضه على السلطة لاحقاً. الهدف طبعاً هو إقرار التغيير وآلية تطبيقه في الوقت نفسه.
* كاتب وسياسي لبناني