كم يجب أن ننتظر قبل إجراء مراجعة لمسار الانتفاضة اللبنانية؟ وعلى أيّ أساس ستجري هذه المراجعة؟ هناك في الانتفاضة من يصرّ على أنها ثورة وأن كلمة «حراك» لا تفي بالغرض، أو أنها تُنقص من مرتبة ما يجري. والنائب ميشال الضاهر أبى إلا أن يسبغَ وصفاً جديداً على ما يجري، إذ قال إنها «صحوة». وباتت المبالغة في الوصف، أو التصنيف، من عدّة الانضمام إلى الانتفاضة، أو الوصول إلى مقدّمتها. لكن الصحوة لا تبشّر بالخير، إذ أنها أُطلقت من قبل على «الإسلام السياسي»، وهي كانت، ولا تزال، دعوة إلى العودة إلى الماضي الذي مُفترض أن يكون جميلاً وباهراً. والدعوة إلى العودة إلى الماضي في أميركا من قِبل الرجعيّين، هي دعوة إلى وضع السود والنساء في مكانهم الدوني السابق، وهي دعوة مستحيلة كما تقول حنة أرندت. لكن ما يجري في لبنان كبير، لأنّ الكارثة كبيرة، والاعتراض على الكبير كبير (وليس من الكبائر، بالضرورة، أو لا يجب أن يكون).لكن إذا قرّرنا أنها ثورة، فإنّ ذلك يزيد من صرامة الحكم على الأداء. إذا كانت هي ثورة، فالمطلوب الكثير الكثير منها كي تستحق لقب ثورة. وهناك هتاف من مجموعة من المتظاهرين والمتظاهرات، للاعتراض على وصف حراك، عبر التأكيد أنها «ثاو، ثاو، ثورة»، على أساس أن الهتاف وحده يسبغ تصنيف الثورة وأن ذلك يكفي. لا أتصوّر أن الثوار في الثورات عبر التاريخ، انشغلوا في ما إذا كان ما يفعلونه هو ثورة أم لا. لكن إذا كانت هي ثورة، فمعيار الإنجاز يجب أن يرى الدرجة التي تغيّر فيها النظام السياسي ــ الاقتصادي القائم، أو ما إذا تمَّ الاستيلاء على السلطة السياسية. عالم السياسة الأميركي، مارك لينش، أطلقَ في كتابٍ له وصف «الثورات غير المكتملة» على الانتفاضات العربية. لكن إذا كانت غير مكتملة، فكيف نعرف أنها ثورات؟ أليست الثورة بخواتيمها؟ والعالم كرين برنتن، في كتابه عن «تشريح الثورات» يعترف بأن المصطلح يحمل مضامين عاطفية، وأن الأميركيين يزهون بـ«ثورتهم» (أيّ حرب تحرّرهم من الاستعمار البريطاني)، لكنهم يشمئزون من الثورات اليسارية (ص. ٦ ــ ٧). لكن بعيداً عن التعريفات اليسارية الكلاسيكية للثورات، لنعتمد (للتقليل من الأحكام القاطعة ضد إدراج ما يجري على أنه ثورة) على تعريف سامويل هانتنغتون المُحافِظ في كتابه «الاستقرار السياسي في مجتمع متغيّر»، بأنّها «التغيير الداخلي السريع والأساسي والعنيف في الأساطير والقيم السائدة في المجتمع، وفي المؤسّسات السياسية والبنى الاجتماعية، والقيادة والنشاط والسياسات الحكومية». ووفق هذا التعريف المُحافظ، يمكن النظر إلى بعض إسهامات الانتفاضة وما حقّقته.

ما لم يتحقق
أولاً، لم يسقط النظام، حتى لو كان الهدف إسقاط العهد لا النظام السياسي برمّته. النظام السياسي لم يهتزّ، وليس هناك من مطالبات جدية واضحة بتغيير صيغة الطائف أو حتى تفاهم الميثاق الوطني الموروث من عام ١٩٤٣. ولم يعترض أحد في الحراك على الاحتفال المقيت والنافر من قِبل العهد (والمعارضة) بذكرى استعمار فرنسا للبنان. يتمّ التعامل مع هذه الذكرى على أنها مجيدة. وقد يكون لبنان من الدول القليلة التي ستجري احتفالاً رسميّاً تكريماً لاستعمارِها. كيف لا وهناك في الطبقة المثقّفة (الموالون للنظام السعودي أو القطري أو المجموعة الأوروبية، أو جورج سوروس وهؤلاء باتوا يملكون الحصّة الأكبر في الإعلام اللبناني، المرئي والإنترنتي، والمكتوب)، من يعبّر بصراحة عن حنين إلى زمن الاستعمار. لم يتوضّح بعد ما معنى إسقاط النظام، وإذا كان الشعار مجرّد ترداد لهتافات سبقته. ثم الاحتفال المبالغ به في عيد الاستقلال، من قِبل مجموعات في الحراك (وبتنظيم من «العسكريّين المتقاعدين»، وبمشاركة من «فوج الطناجر»، الذي يرهب العدوّ بقدر ما يرهبه فوج الصواريخ في المقاومة)، هو تكريس للقيم السياسية التقليدية التي يُفترض بالثورات أن تغيّرها. الثورة المصريّة لم ترث أعياداً وطنية، بل هي صنعت أعيادها. (بالنسبة إلى «العسكريّين المتقاعدين»: أين قاتلوا؟ في كل سنوات الحرب، حارب العسكريّون في صفوف ميليشيات اليمين الانعزالي، باستثناء الذين انشقّوا عن الجيش وأسّسوا «جيش لبنان العربي»، وهؤلاء وحدهم حاربوا إسرائيل).
ثانياً، لم تؤدِّ الانتفاضة إلى إقصاء مسؤول عن السلطة. ومثل «حراك» عام ٢٠١٥ الذي فشل حتى في إقصاء محمد المشنوق، فإن هذا الحراك لم يطِح برؤوس. كان يمكن جعل رياض سلامة عنواناً للاحتجاج، والتركيز على المصرف كمرحلة أولى من الحراك، لكن ذلك لم يحصل. والمحطّات الثلاث التي تقرّر (هكذا، عفواً، وبناء على معايير مهنية محض، ومن دون تأثّر بالعلاقات الخارجية للأثرياء أصحاب المحطات؟) أنواع التغطية، وما إذا كان احتجاجٌ ما يرتقي إلى «ثورة» أو لأقل، قرّرت أن احتجاج مصرف لبنان ليس مهمّاً (وهل العلاقة بين تصرّف رياض سلامة بالمال العام لتبييض صفحته في الإعلام ولإقراض مؤسّسات إعلامية، أو أصحاب مؤسسات إعلامية، دون غيرها، مرتبطة بقرار المحطات بأن احتجاجات المصرف ليست مهمّة، وأن الفساد على مستوى موظفي الدولة هو أهم من فساد حاكم المصرف؟). كان يمكن أن يسير الاحتجاج بصورة مدرّجة كي لا يتشتّت الجهد، خصوصاً بعد تسرّب أزلام السلطة إليه، فكنتَ ترى جماعة سمير جعجع تهتف ضد «إرهاب» حزب الله في جل الديب، فيما مجموعة يسارية تهتف ضد حاكم المصرف في الحمراء، فيما تتركّز هتافات باقي لبنان على باني دولة الفساد، جبران باسيل (وشريكه في الفساد من عام ١٩٩٢، عمر كرامي، بحسب هتافات هذا الأسبوع في طرابلس). إنّ فشل الحراك، بعد أكثر من شهر، في إقصاء مسؤول يُشكِّك في إمكانية ثورية الحراك.
كان يمكن جعل رياض سلامة عنواناً للاحتجاج والتركيز على المصرف كمرحلة أولى من الحراك لكن ذلك لم يحصل


لكن سعد الحريري استقال. لكن الحريري لم يطَح به، بل هو تكيّف مع الانتفاضة، مثلما تكيّف جعجع ووليد جنبلاط، وأمرا وزراءهم بالاستقالة في خطوة ذكية للتنصّل من مسؤولية الفساد الذي يشكو منه الحراك. والحريري عائد، ومن دون احتجاجات تُذكَر حتى بعدما تبنّى مفتي الجمهورية (وبصورة غير دستورية، وفي تحقير للدولة المدنية التي يطالب بها البعض) ترشيح الحريري رسميّاً، في إشارة إلى باقي المرشّحين للانسحاب من الحلبة. هذه ليست جديدة، فقد فعل المفتي حسن خالد الأمر عينه في عام ١٩٧٣ (وناصرته الحركة الوطنية) ضد ترشيح أمين الحافظ، بسبب مخطّط سليمان فرنجية لضرب المقاومة. وفي عام ١٩٧٥، وقفت دار الإفتاء ضد تعيين نور الدين الرفاعي رئيساً لحكومة عسكرية لم ترَ النور بسبب رفض الإجماع الإسلامي والحركة الوطنية لها (لم تكن الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط وجورج حاوي ومحسن إبراهيم، تجد غضاضة من التحالف مع الإفتاء عندما كان ذلك في صالحها).
ثالثاً، فشلت الانتفاضة في ترجمة شعارها الشهير، «كلن، يعني كلن». لم يكن الشعار في عام ٢٠١٥، إلا محاولة (مشبوهة) للتركيز على حزب الله وجعله مسؤولاً عن فضيحة النفايات بدرجة المسؤولية نفسها ـــ أكثر بقليل أو كثير ـــ من وزراء الحريري. كانت المحاولة فقط من أجل وضع حزب الله في خانة الطبقة الحاكمة، التي راكمت الكنوز منذ عام ١٩٩٢. وفي هذا الحراك، تكرّر الأمر وكان رفع الشعار في نفس سياق «كلن، يعني حزب الله والتيار تحديداً». لكن تطبيق الشعار، إذا ما قسناه بالهتافات والشعارات وأماكن التظاهرات، لم يكن متناسباً مع مضمونه. نال جبران باسيل من الشتائم أكثر بكثير من الحريري، الأب والابن. لكن هذا الشعار، إذا كان فعلاً يُقصد الطبقة الحاكمة برمّتها، تمت تبرئة رفيق الحريري بالكامل من المسؤولية عن خططه التي أودت بلبنان إلى الكارثة. المحطات التلفزيونية الثلاث، لم تذكر رفيق الحريري، ولا تزال تصرّ على إلصاق صفة الشهادة به (هل هو شهيد كما غسان كنفاني، أو محمد زغيب؟). وحتى سعد الحريري، يمكن اعتباره الناجي الأكبر من الاحتجاجات والاستفظاع من قبل المتظاهرين والمتظاهرات. إذا كان الشعار جاداً وصادقاً، فإنه فشل في التحقيق، فيما أوحى الحراك، إلى الآن، بأن هناك من هم أقلّ مسؤولية من غيرهم. ويصبح في عملية الاحتجاج الحسابية هذه، حزب الله وباسيل مسؤولَين عن الأزمة المالية أكثر من رفيق الحريري وفؤاد السنيورة ورياض سلامة. لو كان المحتجّون والمحتجّات جادّين وجادات في تحميل كل الطبقة السياسية المسؤولية، لكانوا اتّبعوا عملية المسير التدريجي، فيبدأون مثلاً أمام مصرف لبنان (على أن يجتمع أمامه كل المحتجّين والمحتجّات من كل لبنان)، ويصرّون على استقالة رياض سلامة إلى أن يتحقّق ذلك. ثم ينتقلون حشوداً حشوداً، إلى رمز آخر للسلطة ويصرّون على نزعه من السلطة، وهكذا دواليك. لكن شتم جبران باسيل أخذ من الوقت والجهد الكثير. لا بل إن الحراك اعتبر (في أكثرية عناصره ربما، بما فيها الحزب الشيوعي اللبناني)، أن عنوان الاعتراض على التدخّل الصفيق للكونغرس الأميركي في الشأن اللبناني لا يكون أمام السفارة الأميركية بل أمام مكتب جبران باسيل. أي أن باسيل هو المسؤول عن الحريرية في لبنان، وعن التدخّل الأميركي في الشأن اللبناني (الذي ميّعه البعض تحت عنوان «كل التدخّلات»، كأن هناك أي طرف ضالع في الشأن اللبناني والاقتصاد، وفي خنق لبنان، أكثر من الحكومة الأميركية).
رابعاً، بقي الجانب الاقتصادي من الحراك معتدلاً ومتحفّظاً. لم تجرِ عمليّة واحدة استهدفت المصارف، باستثناء أعمال فرديّة لمجموعات يسارية صغيرة. والعناصر الأكثر صراخاً أنها «ثاو، ثاو، ثورة، مش حراك»، تبدو الأكثر تحفّظاً في الذهاب بعيداً في المعركة ضد الطبقة الحاكمة، بعناصرها المختلفة. وقطع الطرقات، مثلاً، كان أكثر شعبية (واعتبره ناشطون في الحراك أنه الأكثر جذرية، إذ إن إغلاق الـ«رينغ» بات ملازماً للتعبير عن الغضب) من إغلاق المقرات الحكومية، أو قطع الطريق على المسؤولين، أو محاصرة مصرف لبنان لإخراج رياض سلامة بالقوة من قلعته (إخراجه من المكان ومن المنصب). كذلك، فإن مشروع تأميم المصارف لم يلقَ إجماعاً من العناصر المكوّنة للحراك، بل إن فئات (يسارية) فيه لا تعترض على الخصخصة. ولأن الفئات الأكثر ظهوراً على الإعلام، هي منظمات الـ«إن.جي.أوز»، فإن تلك ستكون حكماً الأكثر محافظةً، في السياسة الداخلية والخارجية معاً (لأنها محكومة بسقوف التمويل الأوروبي والأميركي). هذه المجموعات لن تتظاهر أمام السفارة الأميركية، ولو قامت القوات الأميركية بعملية إنزال مظلّية لإخراج رياض سلامة سالماً من القلعة. كذلك، سترفض طرح مشاريع اشتراكية لأنها تتضارب مع أجندة الدول الغربية. لكن نشطاء هذه المجموعات هم الأعلى صوتاً، وبرنامجهم يتقاطع مع أجندة المحطّات الثلاث التي تقود التغطية.

لم تغيّر الانتفاضة من مجموعة الأساطير والقيم السائدة في المجتمع، لكنها أدخلت عليها قيماً جديدة


خامساً، فشل الحراك في تنظيم صفوفه أو وضع برنامج حد أدنى بين الفرقاء. التنظيم في الثورات مثل الملح في الطعام: القليل منه مفيد ولذيذ والكثير منه ضارّ ومزعج. حتى المجموعات الفوضوية لم تكن تاريخيّاً تنبذ التنظيم. والفوضويّون (وبينهم نساء) لعبوا دوراً عظيماً في كومونة باريس وكانوا يطرحون شبكة من الجماعات المرتبطة. والفوضوي الإيطالي، إرّيكو مالاتيستا (صاحب شعار «إن العداء ليس لهذه الدولة أو تلك بل للدولة من أساسها») كتب كتاباً («الفوضويّة والتنظيم») عن التنظيم، شرح فيه أهمية العمل المنظّم لمَن بات يُعرف بالعربية (بسبب سوء نيّة في الترجمة إلى العربية) بأتباع الفوضى. وكما يقول مالاتيستا، فإن التنظيم ليس إلا «ممارسة التعاون والتضامن»، وهو في العمل السياسي «مفيد وضروري». والفوضويّة عنده ليست في نفي التنظيم من أساسه، بل في التنظيم، على أن يكون (عند الفوضويّين) يعتمد على «الاستقلالية التامّة... والمسؤولية». إن امتناع أطراف كثيرة في الحراك عن تشكيل تنظيم، وإن كان رخواً، بات مشكوكاً في مقاصده، كأن هناك في هذا الحراك من لا يريد الإعلان عن نفسه مخافة تأليب الرأي العام. وكلام حنا غريب على «الميادين»، عندما لام السلطة لعدم توصل الحراك إلى تشكيل قيادة تمثيليّة، غير مقنع البتة، وهو لم يبدو مقتنعاً به. إن رفض الحد الأدنى من التنظيم وطرح برنامج، يزيد من قدرة أطراف خارجية وداخلية على التسرّب إليه، للتخريب عليه وحرفه عن مساره.
ليس فقط هناك غياب للتنظيم ولتقديم عناوين لبرامج، بل هناك حالة من النزاعات والصراعات تعتملُ فيه. ما أن تسرّب خبر (غير مُعلن) عن لقاء بين «بيروت مدينتي» مع قائد الجيش، حتى تعالت الصيحات ضد هذه المجموعة، كما أن شربل نحّاس تعرّض أكثر من غيره إلى الانتقادات، لأن مشروعه أكثر جذرية من العناصر اليسارية في الحراك، ولأنه لا يهادن في تعامله مع السلطة التي تمرّس في محاربتها (حتى عندما كان لفترة وجيزة في داخلها). والشرذمة والانقسام في صفوف الحراك يسهّلان، وسيسهّلان، عملية ضربه واختراقه.
سادساً، لم يهدّد الحراك بعد مصالح الطبقة الحاكمة، ولم يشعرها بأنه ماضٍ إلى الأخير في مطالبته بتبديل السلطة. وهناك مشاهد نافرة، مثل الترحيب بأطراف من السلطة في صفوف التظاهرات. شيوعيو النبطية وصور، وعروبيّو صيدا استقبلوا رموز الحريرية، كريم مروّة وأحمد قعبور في صفوفهم. وقعبور غنّى، حرفياً، للحريرية، فيما بات كريم مروّة عدواً للمقاومة ودائراً في الفلك السعودي، وداعياً للرأسمالية (حتى أنه في كتاب أخير نظّر لقدرة الدولة الرأسمالية على حلّ مشاكلها، من دون حاجة للشيوعية أو الاشتراكية). هل يساريّو صور والنبطية سيرحّبون أيضاً بفارس سعيد، إذ أنه يدور في الفلك السياسي ذاته حيث قعبور ومروّة.
سابعاً، لم يحسم الحراك مسألة المجاهرة بالعداء لإسرائيل. ما قيمة الثورية إذ لم تتفق على تحقيق سيادة لبنان التي لم يخرقها منذ استقلاله أكثر من دولة العدوّ الإسرائيلي؟ لا بل إن نشرة الحراك (بعض الحراك)، «١٧ تشرين»، حملت مقالة (بعنوان «كلّنا مقاومة» لبو ناصر الطفار)، توصّلت فيها (على طريقة ١٤ آذار) إلى أن كل شيء هو مقاومة، وأن المقاومة الفعليّة (التي حرّرت الأرض وأذلّت العدوّ على أرض المعركة في حرب تموّز)، ليست مقاومة لأنها لا تقاوم كل الظلم في كل العالم. كذلك، ميّعت المقالة العداء لإسرائيل عبر الحديث عن أكثر من إسرائيل، ممّا يُقلّل من فرادة النموذج الأبارثيدي الصهيوني، ويقلّل من أهمية مقاومته (لكن قد تكون هذه النشرة ناطقة باسم «اليسار الديموقراطي» وليس باسم الحراك ككلّ، وإن كان الاسم يزعم النطق باسم كل الانتفاضة). وكيف تكتمل الثورية من دون اعتبار التمسّك بسيادة الوطن بوجه من يخرقها يوميّاً وبكل الطرق؟

ماذا تحقّق؟
أولاً، لم تغيّر الانتفاضة من مجموعة الأساطير والقيم السائدة في المجتمع، لكنها أدخلت عليها قيماً جديدة. هناك مجموعة من القيم الجديدة التي أدخلها جيل جديد من اللبنانيّين على المجتمع. من المنظور النسوي، فرضت الانتفاضة احتراماً للمرأة كان غائباً كلياً في الحلبة السياسية الشديدة الذكورية. لم يعد الخطاب الذكوري، الديني أو السياسي، يمرّ هكذا من دون اعتراض. كذلك، لم يعد التحرّش نكتة في المسارح. وتقبّل المثلية وقلب المفاهيم العنصرية الذكورية عن المرأة، بات أمراً جديداً دخل تدرّجياً، وبخجل، في الأدب الإنترنتي، لكنه صدح في الانتفاضة. لا نعني أن البنية الذكورية تغيّرت في هذه الانتفاضة، أو أن المعالم الذكورية في الاستضافة على الشاشات أو في سؤال «الخبراء» (أليس من نساء؟) غابت عن الوجود. لا، لكن تمَّ تحدّيها. أي أن هناك إطلالة لمرحلة قد تغيّر، لكنها لم تصل بعد.
ثانياً، خرقت الاحتجاجات جدار التزمّت الصارم، والذي فرض جوّاً من لغة هرِمة على جيل تعوّد على التخاطب المباشر والسليط (والذكوري في بذائته). هذا إنجاز فقط، من ناحية خرق القيم السائدة على مدى طويل. أهميّة هذا الخرق، أنه فضح النفاق المتمثّل في الخطاب الرسمي العلني الوقور، والخطاب اللبناني العادي البذيء والسوقي، الذي لا يختفي عن الآذان في تجوالك في الشوارع.
ثالثاً، نجح الحراك في تقويض الإجماع اللبناني التقليدي حول صوابية الرأسمالية. لم تطلع بعد نظرة اشتراكية من الحراك، كما أن لبنان ــ خصوصاً بعد زمن رفيق الحريري ــ زاد من انحيازه للطبقة للبورجوازية وخفّف من العبء على كاهل الطبقات الثرية، التي أصبحت ضرائبياً وسياسياً أكثر حظوة من أي فترة في تاريخ لبنان. لم تعد الرأسمالية ما كان بيار الجميّل يقول عنها إنها سرّ لبنان، وكان ساسة لبنان يعرّفون الرأسمالية بأنها «النظام الحرّ» (لم يكن ولاء هؤلاء للقطب الأميركي في الحرب الباردة مجانياً). لا نعرف طبيعة النظام السياسي ــ الاقتصادي الجديد الذي سيصعد من دخان الحراك، لكن هناك إمكانية لتحقيق نظام أكثر عدالة اجتماعياً من البرنامج المرحلي للحركة الوطنية، خصوصاً إذا تمّت معاقبة المصارف (المرتبطة بالساسة) على أفعالها على مرّ الأعوام. لبنان بات أكثر تقبّلاً للاشتراكية من أي زمن آخر، لأن الفريق اليميني في الحرب الأهلية كان متشبثاً بعناد بالنظام الرأسمالي. سيدفع كل طرف سياسي اليوم ثمن تشبّثه بهذا النظام. لكن هل الحراك هو الذي قوّض إجماع الرأسمالية، أم هي الكارثة الرأسمالية التي ضربت لبنان؟ لم تجنح أميركا نحو الليبرالية في عهد فرانكلين روزفلت طوعاً، وإنما لحاجة النظام الرأسمالي لإنقاذ نفسه من الثورة بعد أزمة عام ١٩٢٩.
رابعاً، تكرّس سلاح قرع الطناجر سلاحاً رسميّاً في لبنان. وقد لاقى هذا السلاح أيما ترحيب من الشعب اللبناني. ولو كان جين شارب حيّاً لكان زار لبنان خصّيصاً لتهنئة الشعب على السلاح الذي روّج له في كتاباته المُوجّهة للعرب. وقد يصدر بيان، يوماً ما، عن مجلس الأمن يطلب فيه (تحت «الفصل السابع») حصر المقاومة العربية لاحتلال وعدوان إسرائيل بقرع الطناجر والأواني. وهذا إنجاز للانتفاضة، إذا كان قرع الطناجر عملاً ثوريّاً.
هذه أحكام مبكّرة على الانتفاضة، وعمق الأزمة الاقتصادية سيدفع باتجاه أكثر راديكالية من قبل. وأساتذة الجامعة الأميركية سينفرون من هذا الحراك عند أوّل مفرق متطرّف، خصوصاً إذا ما أطلّت جماعة الوندليّة عليه. لكن شيطنة الحراك ظالمة، لأن هناك في الحراك فئات وعناصر تقدمية، وأخرى ذات طموحات ثورية حقيقية. هناك بوادر رجعية مشبوهة في الحراك، كما أن هناك بوادر تقدمية واعدة. التعميم، في أيّ من الاتجاهين، ظالم، لكن مسار الانتفاضة المقبل سيفرض علينا كلّنا حكماً واحداً لو توصّل بالفعل إلى ثورة.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)