منذ عام 2016، هبطت غمامة ثقيلة على المجال السياسي في أميركا. قرّر الحزب الديموقراطي، ومعه أكثرية الإعلام، أن دونالد ترامب عميلُ روسي، وأنّ مؤامرة دُبّرت في موسكو هي التي أوصلته إلى الرئاسة، وقرّروا أن يبنوا جلّ استراتيجيتهم السياسية والإعلامية للسنوات المقبلة على هذه الفرضية ــــ بدلاً من أيٍّ من الجبهات التي كان يمكن أن تُفتح عليه. المشكلة هنا كانت مزدوجة: من ناحية، لم يتم تقديم أدلّة يعتدّ بها على اتّهامٍ بهذا الحجم؛ ومن ناحيةٍ ثانية، تعامل الكثير من الإعلام مع القصّة على أنّها حقيقة وواقع لا مراء فيه. هنا تدخل في مشكلة «الواقع المزدوج»، حيث لا يعود النقاش حول ما إذا كنت ضدّ شيءٍ ما أو معه، بل حول وجوده أصلاً (أي كما حصل مع حرب العراق و«أسلحة الدمار الشامل»، أو مع كل حملة سياسية كبرى تُطلق في بلادنا). هناك أطرافٌ لها مصلحة سياسية في «تصنيع» واقعٍ معيّن، وإن كانت لها القدرة على التحكّم بالإعلام فهي قد تفرض «توافقاً» عليه، بغض النظر عن علاقة هذه السردية بالحقيقة. كانت محاكمة دونالد ترامب طوال السنوات الماضية مثالاً متطرّفاً على هذه الحالة: أمّا أن تكون داخل هذه الفقاعة أو خارجها. لا يوجد حلٌّ وسط أو مكانٌ للآراء المركّبة، أمّا أن تقبل سردية الحزب الديموقراطي (نظرية المؤامرة) بأكملها أو ترفضها بالمجمل. و«واشنطن بوست» كانت تنشر، كلّ أسبوعٍ، مزاعم جديدة ضمن «روسيا ــــ غايت» تتطلّب ــــ إن صحّت ــــ لا أقلّ من إعدام الرئيس بتهمة الخيانة العظمى.المشكلة هي أنّه، حتى بعد صدور تحقيق مولر وتفنيد «روسيا ــــ غايت» بأكملها، لم تتولّد حالة من النّقد الذاتي وإعادة الحسابات لدى نخب الحزب الديموقراطي، بل تراوح رد فعلهم بين الصّمت والإصرار على أنهم كانوا على حقّ، لكنهم لم يتمكنوا من إثبات «عمالة» ترامب. في مقابلة أخيرة مع هوارد ستيرن، كرّرت هيلاري كلينتون الاتهام ذاته، ووافقها ستيرن، قبل أن تضيف أن بيرني ساندرز، في انتخابات 2016، كان هو الآخر مشروعاً روسياً (هذا إثبات جديد بأن سخافة مقولةٍ ما، أو معقوليتها، لا ترتبط الى حدٍّ بعيد بمضمونها، بل بالسلطة التي تصدر عنها). في هذه الأثناء، كانت هناك قلّة من الصحافيين اليساريين الذين وقفوا في وجه هذا المدّ وأخذوا موقفاً تشكيكياً ضدّ الإجماع. كان مات طيبي أبرزهم ــــ وهو يكتب في «رولينغ ستون»، بعيداً عن مؤسسات الصحافة السياسية في واشنطن ونيويورك، وهو باعتباره كاتبٌ شبه مستقلّ يمتلك استقلالاً أكثر بكثير من باقي الصحافيين والمراسلين. ظلّ طيبي يحذّر الديموقراطيين ومعسكر «المقاومة» ضدّ ترامب من أنّ قضيتهم ليست قوية، وأنّ اتفاقهم على عمالة ترامب للروس لا يجعل من ذلك حقيقة، وأنّ بطلان مزاعمهم سيشكّل دفعةً هائلة للرئيس في الانتخابات المقبلة. تضايق الليبراليون بدايةً من مقالات طيبي وتجاهلوها. ولكن بعدما صدر تقرير مولر وفشل رهانهم رسمياً، أصبحوا يتهمونه بمساندة ترامب والتغطية على أفعاله (أنا أوافق طيبي منذ البداية، ولا يمكن لأحد أن يتهمني بمساندة ترامب ــــ ولكني لا أنكر بأن جانباً مني يستلطفه. لم تصل إلى الرئاسة شخصية مثله في تاريخ أميركا، كأنه عملٌ تطبيقي لفنّان عبثي. والرجل يمتلك حسّ فكاهة حقيقياً. وإن كانت شخصية الرئيس الأميركي، كما يقول بودريار، هي تفصيلٌ ومجرد قناعٍ ضروريّ لشبكة مصالح مؤسسية، فالأفضل أن يكون هذا القناع على شاكلة ترامب وحسابه المسلي على «تويتر» وليس على شاكلة كارتر).
بدلاً من أن يعيدوا النظر في استراتيجيتهم بعد اختتام تحقيق مولر، قرّر الديموقراطيون أن يضاعفوا الرهان عبر «أوكرانيا ــــ غايت»، التي أنتجت سريعاً محاكمةً لعزل الرئيس تسير إجراءاتها في هذه الأثناء. لأسبابٍ كثيرة لا ضرورة لشرحها، كانت القيادة الديموقراطية تعرف مسبقاً أنّ المحاكمة لن تنتج إدانةً وعزلاً للرئيس (أساساً وقبل أي شيء لأنّ مجلس الشيوخ، الذي يصوّت على مصير «المتهم» في نهاية المطاف، فيه غالبية جمهورية). رهانهم السياسي كان على أن تثير المحاكمة، والضجة حولها وحول ارتكابات ترامب، موجةً من السلبية ضدّ الرئيس تضعفه قبيل الانتخابات. ولكن، كما حذّر طيبي هنا أيضاً، فإنّ استراتيجية من هذا النوع من الممكن أن تنقلب بسهولة إلى ضدّها، إن لم تُبنَ على قضية قوية تستثير اهتمام الرأي العام.
بدلاً من أن يعيدوا النظر في استراتيجيتهم بعد اختتام تحقيق مولر، قرّر الديموقراطيون أن يضاعفوا الرهان عبر «أوكرانيا ــــ غايت»


محاكمة ترامب هي حالياً في مرحلتها الثانية التي ابتدأت يوم الأربعاء الماضي، حيث يتم تقرير لائحة التهم التي ستوجّه إلى الرئيس («مواد العزل»). وترامب لم يكلّف نفسه إرسال محامين عنه لحضور الجلسات. شبكة «سي ان ان»، التي نقلت أحداث العزل بشكلٍ مكثّف، شهدت أقلّ نسبة مشاهدة في ثلاث سنواتٍ خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر. وبينما الاقتصاد الأميركي يسجّل نتائج إيجابية، تسهّل إعادة انتخاب الرئيس، تشهد حملة المرشحين الديموقراطيين تخبطاًَ مستمراً. تنسحب كاميلا هاريس من السباق، بعد العديد من الوجوه التي كان يعقد الأمل عليها لمواجهة ترامب، ويستمرّ تهميش بيرني ساندرز، وتنحصر خيارات الديموقراطيين بين مرشحين من نمط اليزابيث وارن وجو بايدن وبيت بوتجيج ــــ الوجه الصاعد ــــ وهو عمدةٌ لبلدةٍ ما في انديانا؛ يبدو أن له شعبية بين قواعد الحزب الديموقراطي وإن كان، من وجهة النظر الإحصائية، يمتلك كل الصفات التي تجعل انتخابه شبه مستحيلٍ على المستوى الوطني.

السياسة والقانون
هذه هي المرّة الثالثة التي تجرى فيها محاكمة لرئيس أميركي تحت بند «العزل» في الدستور. أندرو جاكسون جرت تبرئته من حملة عزلٍ «سياسية» الطابع، وكذا حصل مع بيل كلينتون بعده بقرنٍ ونصف قرن ــــ أمّا ريتشارد نيكسون، فقد استقال قبل أن تصل الأمور إلى المحاكمة (حين جاءه الشيوخ الجمهوريون ليشرحوا بأنهم سيصوّتون ضده إن لم يكن هناك بديلٌ من الاستقالة). قد يكون من المفيد هنا أن نعود إلى أصل وتاريخ هذه المادّة. في القانون الدستوري، يمكن مقاربة الدستور الأميركي ــــ الى حدٍّ ما ــــ على أنّه تدوينٌ أو تقليدٌ للنظام البريطاني (وهو النظام البرلماني/ المثال الذي كان يعرفه المستوطنون الأنكلوسكسون). والرئيس الأميركي يأخذ تقريباً موقع الملك في بريطانيا، ولكننا لا نتحدّث على النظام البريطاني الحالي، بل عن بريطانيا قبل الإصلاحات الدستورية في القرن التاسع عشر، حين كان الملك يتحكّم بالسلطة التنفيذية بشكلٍ شبه منفرد، ولا يملك البرلمان وسيلة ضغطٍ عليه باستثناء إقرار الموازنة وطلب الاعتمادات الإضافية. قانون العزل هو من بين التنظيمات البريطانية القديمة التي وجدت طريقها إلى الدستور الأميركي. في بريطانيا، جرى جدالٌ تاريخي حول ما إذا كان يحقّ لمجلس اللوردات محاكمة الملك عبر قانون العزل، فقام المشرّعون الأميركيون بإضافة تخصيصٍ لحسم المسألة: أن الرئيس، كغيره من المسؤولين الفيدراليين، معرّضٌ لإجراءات العزل حين ينتهك سلطته أو يرتكب جرائم.
لمن يقول إنّ قانون العزل يستخدم اليوم استخداماً سياسياً، فالجواب هو أنّه كان كذلك على الدوام، منذ القرون الوسطى في بريطانيا. مع أنّ العملية، شكليّاً، تشبه محاكمة اعتيادية، ويحضرها محامون وادعاء ويحصل استجواب، فإنّ نتيجة التصويت لا ترتبط بالوقائع، بل بتوزّع القوى في مجلس الشيوخ (أو مجلس اللوردات). في الماضي، كان يجري حتّى استخدام قانون العزل تهديداً: حين تكون هناك أكثرية في مجلس اللوردات تعادي سياسةً ما للملك، وهم لا يقدرون على التحكّم بقراراته، كانوا يهدّدون بأنّه ــــ إن لم يتراجع ــــ فهم سيعقدون محاكمة لوزيره (أو حتى له شخصياً في حالةٍ واحدةٍ على الأقل) وسيجدونه خائناً ويقطعون رأسه. المشكلة إذاً هي ليست في الاستخدام السياسي أو الإعلامي لقانون العزل (وهو ما يفسّر أن ثلاثة من أصل أربعة رؤساء تعرّضوا لشبح العزل، هم من نصف القرن الأخير)، المشكلة هي في أن تستخدم مثل هذه الأدوات بشكلٍ يؤذيك ويقوّي عدوّك. قالت رئيسة مجلس النواب الأميركي، الديموقراطية نانسي بيلوسي، إنها كانت تعلم بأن جورج بوش يكذب على الأميركيين في موضوع أسلحة الدمار الشامل، وإنه سيقود البلد إلى غزوٍ تحت مزاعم كاذبة، لكنها ــــ في ذلك الوقت ــــ لم تعتبر أنّ التجاوز يستحق محاكمة عزلٍ للرئيس (أي أن شنّ حربٍ وتدمير بلدٍ لم يتسبب بمحاكمة، بينما ترامب تتم محاكمته لأنه طلب من رئيس أوكرانيا متابعة تحقيقٍ قضائي، وتعرّض كلينتون لإجراءات العزل لأسبابٍ تعرفونها).
على الهامش هنا: أدين بأكثر المعلومات عن القانون الدستوري إلى المرحوم جان سالم، أستاذ القانون الدستوري وتاريخه في الجامعة اليسوعية. كان سالم من ذاك النمط النادر من الأساتذة الذين تستغرب أن تصادفهم في جامعة صغيرة في بلدٍ من العالم الثالث (ثمّ تكتشف أنّ من الصعب لشخصية مثل شخصيته أن تتطوّر وتستمرّ على هذا الشكل إلّا في بلدٍ طرفيّ صغير مثل لبنان). أعتقد بأنّ الراحل جان سالم كان عضواً شرفياً في الأكاديمية الفرنسية. بحرٌ من العلم: ينطلق في تدريسك القانون الدستوري الفرنسي ــــ مثلاً ــــ من الغزو القوطي لأوروبا وسقوط روما وتشكّل نواة الدّول الحالية في غرب القارة. كان، إضافةً الى المعرفة القانونية، يعبّئ محاضراته بكمٍّ لا يصدّق من المعلومات والأقاصيص والطُّرف التاريخية (ماذا قال فلان قبل أن يموت، كيف ردّ غامبيتا على خصمه في المجلس الوطني، كلمات دانتون الأخيرة وهو يساق إلى الإعدام، إلخ) تكفي ــــ إن دوّنتها ــــ لأن تزعم الثقافة والاطّلاع لعمرٍ كامل. هو، إلى ذلك، كان محافظاً ويمينياً، ولكن على طريقة القرن التاسع عشر: «ملكيّ» بالمعنى الحرفي، في أيّامنا هذه! سمعته يتعاطف مع مقولة إنّ لبنان يحتاج إلى خلق تراثٍ مشترك ورمزٍ وطني يجتمع حوله أهله حتّى يستقرّ، وهذا ــــ في رأيه ــــ لا تؤمّنه إلّا سلالة ملكيّة. كان لا يخفي عداءه للثورة الفرنسية وكل ما تمثّله، ووجهه يتلوّى ألماً وهو يروي لنا تفاصيل إعدام لويس السادس عاشر، «الملك الساذج البريء» الذي لم يكن يستحقّ هذا المصير من قبل الثوريين، يقول سالم، مضيفاً إنّ قتل الملك (وهو فعلٌ رهيب ومعصيةٌ كبرى بالمعنى الديني) كان نذير شؤمٍ فتح على أوروبا شلّالاً من الدماء.

الإعلام كـ«أداء إيديولوجي»
عودة إلى موضوع العزل، فإن القصة الحقيقية هنا هي ليست بشأن المحاكمة ومسارها (وقد أصبحت نتيجتها معروفة سلفاً، إن لم تظهر معلومات جديدة تعطي ثقلاً وأبعاداً جديدة لقضية أوكرانيا، وهذا مستبعد). القصّة هي بشأن قدرة طبقة سياسية، وحولها مجتمعٌ كامل، على توليد قضية، وإن لم يكن لها أساسٌ في الواقع، ولم تكن تهمّ الجمهور أو تمسّ أولوياته، وحمايتها من التشكيك والنقاش، وبناء توافقٍ حولها في وجه الحقائق والأدلّة (أي المثال المعاكس تماماً لما يفترضه مجتمع النقاش الحرّ و«السوق المفتوح للأفكار»). لا يمكن مقاربة هذا الموضوع من غير الكلام عن الأداة الأساسية في هذه العملية، والمؤسسة التي تترجم رغبات السياسيين ومصالحهم إلى خطابٍ ودعاية: آلة الإعلام. في الجوّ الحالي للإعلام والثقافة ــــ في أميركا وغيرها ــــ لا يكون السير مع «التوافق» الذي ترعاه دوائرك مجرّد موقفٍ فيه نقاش وتباينات، بل هو بمثابة «إعلان انتماء»، لا غنى عنه، إلى معسكرٍ معيّن وطبقةٍ معيّنة وجوٍّ محدّد. البعض في أميركا يرجع «التحوّل؛ في الإعلام السياسي إلى أوائل التسعينيات، حين أُلغيت قاعدة كانت تجبر التلفزيون السياسي على تقديم وجهتَي النظر في كلّ موضوعٍ يتناوله (ومن هنا نشأت «فوكس نيوز» وموجة الإعلام المحازب)، ولكن هذا السلوك أقدم من ذلك بكثير، وإن أخذ صوراً مختلفة، وهو ينطلق من طبيعة الإعلام والثقافة في العصر الرأسمالي.

شهدت شبكة «سي ان ان» التي نقلت أحداث العزل بشكلٍ مكثّف أقلّ نسبة مشاهدة في ثلاث سنواتٍ خلال شهر تشرين الثاني


في نصٍّ شهيرٍ له، مبنيّ على محاضرة بعنوان «السياسة كمهنة»، يتناول ماكس فيبر مهنة الصحافة ويناقش لماذا أنّ الصحافي، على عكس ما يفترض الكثيرون، لا يمكنه أن يكون سياسياً. في عالم النشر الحديث، يكتب فيبر، فإنّ ضرورة النشر المستمرّ هي في ذاتها مانعٌ للتفكير في السياسة بشكلٍ جذري ومعمّق. أن تكتب كلّ يومٍ أو كلّ أسبوع، يقول فيبر، حتّى في غياب سببٍ أو قضيةٍ وجيهة، والحاجة إلى أن تطلق مواقف باستمرار، هي واجباتُ تناقض مقوّمات السياسي المحترف. ولكنّ المسألة تذهب أعمق من ذلك. الصحافي، كفئة اجتماعية، هو من أكثر فئات الطبقة الوسطى هشاشةً وقابلية للتشكيل. هذا لا يعود فحسب إلى طبيعة الرأسمالية وسوق الوظائف وهيمنة التمويل، فهذا يسير على كلّ مؤسسات المجتمع، بل أيضاً إلى صفات يختصّ بها مجتمع الصحافيين. الصحافة مهنة تحتاج إلى جهدٍ عقليٍّ كبير، يكتب فيبر في بداية القرن العشرين، قد تفوق متطلبات أي مهنة أخرى، ولكنها مهنة ليس لها مكانٌ واضح على السلّم الطبقي. وهذه مهنٌ، يضيف الفيلسوف الألماني، تُقيّم عادةً عبر أسوأ أفرادها. الأكاديمي مثلاً، أو الموظّف أو القاضي، لديهم موقع طبقي ثابت ومستقرّ ودورٌ واضح ومحدّد في المجتمع. أمّا الإعلامي، يقول فيبر، فهو يعرف أن السياسي أو رجل الأعمال قد يبدي احتراماًَ له في وجهه حين يقابله، ويمتدح مقاله الأخير طمعاً في حظوته واتقاءً لنقده، ولكنّه قد يعتذر خلف ظهره إلى أصدقائه لأنه يعرف «مثل هذه الأشكال». هذا يجعل الإعلامي يعيش في صراعٍ داخليّ مستمرّ وضغطٍ نفسي، بتعبير فيبر، يمنعه عن ممارسة مهام السياسي الحقيقي، ويجعله قابلاً للتشكيل بحسب المؤسسة والسلطات التي تحيط به.
هذه من الأسباب التي تجعلني أنظر إلى التشابه المستمرّ في سلوك نخب الثقافة والإعلام ــــ وهم يقومون بالأداء المتوقّع منهم، ويثبتون ولاءهم وانتماءهم إلى «الشبكات» التي تحضنهم وتحميهم ــــ وليس إلى الاختلافات «الأيديولوجية» المفترضة بينهم، وبين تحوّلاتهم وتقلّباتهم. وتجعلني أيضاً أستحرم، باطراد، التعامل مع هذه القطاعات في سياقنا الحالي وفي شكلها القائم (كلّا، لن أستقيل. وتحديداً ليس في هذه المرحلة. ولكنّ بديلنا الحقيقي، «مشروع المزرعة»، أصبح أقرب من أيّ وقتٍ مضى. والانهيار المالي في بلادي لن يؤثّر عليه سلباً، بل على العكس: ستصبح الأكلاف أقلّ، والطلب أكثر، والاستيراد أصعب؛ سوف تحلّ كلّ مشاكلنا وسنصبح جميعاً أثرياء).
من هنا أيضاً، لم يكن من المستغرب أن يتحوّل الإعلام الأميركي، حين اضطربت المؤسسة السياسية، إلى سيركٍ كبير. الأمر الإيجابي هنا، هو أنّ الإعلام السائد ومؤسّساته الضخمة قد خسرت صدقيّتها لدى الجمهور الذي أصبح أكثر تشكيكاً ولا يقبل بسرديّة «الإعلام المستقلّ» (في أوائل السبعينيات، كان يكفي أن تجتمع الصحافة الأميركية «الليبرالية» على نيكسون وتدينه حتى ينقلب الرأي العام ضدّه بشكلٍ ساحق ــــ بعدما كان قد فاز للتوّ في انتخابات الرئاسة بأغلبية كبيرة). المشكلة، بالطبع، هي أن المصادر «البديلة» للمعرفة والسياسة، حتى اليوم، ليست أفضل من الإعلام التقليدي ولا هي بعيدةٌ عن سلبياته، فالقوّة تجد طريقها إلى كلّ مجال والحلّ ليس بتغيير «المنصّة» من صحيفة إلى موقع إنترنت، بل بتغيير الأساس المادّي لاقتصاد المعرفة والإعلام. في هذه الأثناء، يراقب ترامب تخبّط الديموقراطيين بارتياح من فلوريدا (إذ بدّل ترامب أخيراً مكان سكنه الرئيسي إلى منزله في «بالم بيتش»، بعيداً عن واشنطن ونيويورك)، فيما الحزب الجمهوري يقف بصلابةٍ خلفه، والمحاكمة تتحوّل إلى حدثٍ ثانوي لدى الجمهور الأميركي؛ وعلينا نحن بدورنا أن نبدأ بالاعتياد على أفق سنواتٍ أربع جديدة لدونالد ترامب وهو يحكم العالم.