يتردّد أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» الإيراني، زار بغداد أخيراً لكي يكون له دور حاسم في عملية اختيار رئيس جديد للحكومة العراقية. هذا في الوقت الذي تندّد فيه طهران بتدخل الولايات المتحدة في الشؤون العراقية! الحقيقة أن تدخل كلتا الدولتين في شؤون العراق، وصراعهما أحياناً، وتفاهماتهما أحياناً أخرى على مجالات النفوذ في هذا البلد، ليست أسراراً بل إنها كانت محرّكاً لكثير من الأحداث العاصفة في العراق خلال السنوات الأخيرة. أحداثٌ دفع ثمنها العراقيون وحدهم.منذ بدء التظاهرات في العراق، في مفتتح تشرين الأول / أكتوبر هذا العام، كانت أعمال التحريض الأميركية مكشوفة، وذلك لفجاجتها ومبالغتها وقلة ذكاء المكلّفين بها. ففي الوقت الذي كان فيه المتظاهرون يطالبون بتغيير أوضاع محلية سيئة، كان أولئك المحرّضون يركّزون على شتيمة المرجع الشيعي السيد علي السيستاني، لأن معلوماتهم تقول إنه ممثل إيران في العراق وداعم الفساد! كان واضحاً أنهم لم يكونوا مكلّفين فقط بل كانوا مساقين، ففي أمثلة كثيرة، كان تخبّطهم يكشف عن ضحالة معلوماتهم عن أمور يعرفها عامة الناس في العراق حول المرجعية الدينية في النجف وتنافس السياسيين العراقيين في ادّعاء الوصل بها، وعن علاقة الجدال القائمة بينها وبين السلطة الدينية والسياسية في طهران، والتي بلغت ذروة توتّرها في خطبة السيستاني يوم 1 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، والتي رد فيها على المرشد الأعلى الإيراني بحدة نادرة.
أن يحاول الأميركيون التأثير في هذه الاحتجاجات لمصلحتهم في صراعهم مع الحكومة الإيرانية، وأن يحاول الإيرانيون ما وسعهم لإنهاء حراك عام يعتبرونه مؤامرة أميركية غرضها إخراج العراق من عباءتهم، فهذا مفهوم ووارد. لكن هذا شيء، والأصل الاجتماعي والمادي، والوقود النفسي للانتفاضة العراقية شيء آخر. إن هذا الأصل نجده في نهب خزينة الدولة وتقاسمها ــ منذ الاحتلال الأميركي عام 2003 وإلى اليوم ــ من قبل مجموعة من الساسة الفاسدين، وفي تردّي الخدمات العامة تبعاً لذلك، وفي تردّي كل جوانب الحياة العامة للمواطنين من أمن، وعمل، وتعليم، وصحة، ومعرفة. ونجده في القتل العمد للصناعة والزراعة والحياة الاقتصادية، من أجل تحويل البلاد إلى مجرّد سوق لتصريف منتجات دول أخرى، وما نتج عن هذا من بطالة شاملة وإفلاس. ونجده في انسحاب سلطة الدولة أمام سلطة التنظيمات الحزبية والمسلحة، وانسحاب القانون أمام الاقتصاد العصابي الذي تمارسه هذه التنظيمات في وضح النهار (استيلاء، ابتزاز، احتكار... هذا إن لم نذكر أشياء أخطر وأعنف)، وهو ما تسبّب ــ من بين ما تسبّب فيه ــ في خنق سوق الأعمال وتعسّر حال صغار ومتوسطي المستثمرين (وهو ما يفسر ترحيب الكثيرين منهم بالتظاهرات الحالية).
أما الوقود النفسي لهذه الهبّة، فهو انفجار شامل للوطنية العراقية كردّ فعل على حالة التقسيم وعلى دأب الإسلام السياسي، الشيعي والسني معاً، طوال السنوات الأخيرة، على قلب الأولويات لدى الفرد العراقي ومسخ عائديته الوطنية إلى أخويات طائفية عابرة للحدود. صحيح أن هذه الوطنية اتجهت ضد ساسة فاسدين محدَثي نعمة يسوّغون، ويسوّقون لصوصيتهم بعصبيات طائفية (شيعية وسنية) وقومية (كردية خصوصاً، بعد اضمحلال التيار القومي العربي)، ولكنّها متجهة أيضاً ضد الولايات المتحدة، فالقطاع الأكبر من المتظاهرين (من خلال شعاراتهم ومنشوراتهم، وكذلك حسبما عايشه كاتب السطور واقعياً)، مدرك لحقيقة أن كل هذا الوضع المُزري الذي تعاني منه البلاد، وانحدر إليه المجتمع هو ــ في الأصل ــ من صنع الاحتلال الأميركي، وأن الدستور وقانون الانتخابات اللذين يطالب الجمهور بتغييرهما، معمولان على يد بول بريمر الحاكم المدني الأميركي على العراق إبان الاحتلال، وأن عراقاً ضعيفاً، مقسّماً، هشّ السيادة هو رغبة أميركية ومصلحة استراتيجية إسرائيلية، وأن انتفاضتهم ــ بالتالي ــ هي من أجل عراقٍ موحّد، قوي، تام السيادة. لقد سئم العراقيون أن يدفعوا من أرواحهم وأمنهم ومعيشتهم، بل ومن كرامتهم وسيادة بلدهم، ثمنَ الحرب غير المباشرة بين القوى الكبرى في المنطقة. هذا ما عبّر عنه الزعيم الروحي السيستاني عندما دعم، في موقف سيُحسب له دائماً، النزوع الوطني الاستقلالي للعراقيين (في خطبته يوم 15 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي)، رافضاً أي تدخل خارجي في الأزمة العراقية، بل مسمياً بكل وضوح «التدخلات الخارجية المتقابلة»، وهو تعبير مفتاحي لا يعني سوى دولتين بعينهما، منبّهاً إلى أن هذه التدخلات تهدف إلى «تحويل البلد إلى ساحة للصراع وتصفية الحسابات بين قوى دولية وإقليمية، يكون الخاسر الأكبر فيها هو الشعب» (نصّاً من الخطبة المذكورة).
أن تحاول أميركا استغلال الحراك الشعبي الحالي لمصلحتها، لا يعني أنها هي من صنعته، كما تصرّ إيران ويصرّ ممثلوها في العراق. إن تفسير انتفاضة تشرين الثاني / أكتوبر العراقية، بأنها تدبير أميركي أمر لا ينطوي على إجحاف في حق العراقيين وحسب، وإنما هو قفز متعمّد على الأحداث واختزال قسري لها. الحقيقة التي يعرفها الناس في قلب الأحداث، والمتواصلون مع هذه الأحداث، هي أن هذه الاحتجاجات تيار هائل يكتسح مختلف المحاولات المُغرضة والأجندات الخارجية التي تحاول التسلّل إليه. صحيح أن هناك محاولات طوال الوقت لحرف وجهة التظاهرات، وهناك محاولات أميركية لتركيز التظاهرات ضد إيران، ومحاولات إيرانية لتحويل الأحداث إلى ما يشبه رحلة ماجلان حيث تعاد سفينة الأوضاع إلى النقطة نفسها التي كانت فيها قبل تشرين الثاني / أكتوبر، عن طريق استبدال بعض الوجوه وإبقاء النظام كما هو. لكن لم تنجح أي منها حتى الآن، وذلك بفضل خاصيّتين في هذه الانتفاضة:
ــ أنها مستقلّة تماماً وترفض أن تتخلّى عن استقلاليتها، مهما كلّف الثمن (وقد دفعت لذلك ثمناً باهظاً جداً: ما يقارب 450 قتيلاً شاباً حتى الآن).
- أنها أصيلة، فكل الجماهير التي خرجت كانت تحمل مطلباً مشتركاً، سهلاً ممتنعاً: «نريد وطناً!». الأمر لا يحتاج إلى عقيدة أو تنظير. لقد كان ثمّة عراق يعرفه الناس ويتذكرون تفاصيله، والآن يريدون استعادته. هم ليسوا بحاجة إلى خدمات أية دولة لمساعدتهم في تحقيق هدفهم، وبالذات ليست خدمات الولايات المتحدة فهذه خبروها جيداً!

*كاتب عراقي