رغم دخول الأزمة إلى كلّ بيت في لبنان، وحتى في المغتربات (مئات آلاف المغتربين اللبنانيين تضرّروا مباشرة، بسبب امتلاكهم حسابات في المصارف اللبنانية، فضلاً عن آلاف الطلاب في الخارج)، ما زال النقاش في أسباب الأزمة، وخصوصاً في محاولة استغلالها، أمراً ضرورياً. وهو، في كل الحالات، قائم، ويدور بشأنه جدال متواصل يجنح قسم كبير من المشاركين فيه نحو الاختزال أو الاجتزاء أو الاستنساب.لذلك، لا بدّ من العودة إلى هذه المسألة، بهدف محاولة التوصل إلى اعتماد تناول لها، يكون الأقرب إلى الصواب. ببساطة، هكذا ينبغي أن يكون الأمر، على الأقل، بالنسبة إلى أولئك الذين يبغون تحديد موقف سليم، وطني، سياسياً واقتصادياً، من الأزمة ومن التحرك الشعبي والسياسي القائم والمطلوب بشأنها. التحديد الموضوعي، هو إذن، فضلاً عن علميته ونزاهته، المدخل الإجباري لاختيار الموقف الصحيح المبرَّر والمجدي، خصوصاً في هذه الظروف المعقَّدة.
لا ينبغي أن يختلف اثنان على رؤية الأسباب الموضوعية لاندلاع الأزمة الخطيرة الراهنة، ومن ثمَّ حركة الاحتجاج الواسعة التي انطلقت بسببها. إنها أكبر وأخطر وأفدح بكثير من كل التوقعات السابقة، بما فيها أكثرها تشاؤماً على وجه الخصوص. ضحايا هذه الأزمة غير المسبوقة، يشكلون 95% على الأقل من الشعب اللبناني. ثم إنه لا جدال في أن الأزمة التي اتخذت شكل الإفلاس الكامل للنموذج الاقتصادي (المسمى ريعي) الذي اعتُمد منذ عام 1992، قد جرفت في طريقها، ليس فقط مدَّخرات اللبنانيين وهدّدت لقمة عيشهم إلى درجة كوارثية، بل جرفت أيضاً «كنز» الطبقة الحاكمة، المتمثل في النظام المصرفي ومعجزته المزعومة. فهذا تكشّف، بشكل كامل، نظاماً لنهب موارد الدولة وإفقار الأكثرية الساحقة من اللبنانيين ولتشريد الأجيال الجديدة في أربع أرجاء المعمورة طلباً لفرص العمل بعيداً عن البطالة والاستزلام والزبائنية... حالات الانتحار المتلاحقة هي إحدى الثمرات المرّة والمأساوية. والآتي أعظم في ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع من اضطراب اجتماعي ومن تبعات أمنية وسياسية ومعيشية وصحية وتربوية وديموغرافية، وسياسية مختلفة، في نهاية المطاف.
لكن رغم ذلك، ورغم تقدم العامل الاجتماعي ــ الاقتصادي على ما عداه من العوامل، فإن في أساس الأزمة وفي مقاصد مسبّبيها المحليين والخارجيين، وخصوصاً في مواقف محاولي الاستثمار فيها، ما يستدعي التوقف مطوّلاً من أجل استكمال المشهدية العامة وتحديد الجهات والقوى التي تغذّيها، وتحاول التأثير في مجرياتها، وتسعى، بكل الطاقة، من أجل توظيفها في خدمة مخططاتها ومشاريعها السياسية الناشطة في المنطقة. وتتجه الأنظار، في هذا الصدد، أول ما تتجه إليه، إلى الطرف الأميركي الذي يدير مشروعاً متكاملاً لدعم العدو الصهيوني. يحمل هذا المشروع، كما هو معروف، تسمية «صفقة القرن»، وقد تُرجم، حتى الآن، بدعم أميركي غير مسبوق للعدو الصهيوني، بدءاً بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولته التي قامت بالاغتصاب واستمرت بالعدوان والتوسع، ودائماً بالدعم الاستعماري الغربي عموماً والأميركي خصوصاً. من ثمّ، بادرت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إعلان الجولان جزءاً لا يتجزأ من الكيان الصهيوني. كذلك، سارعت إلى الاعتراف بمشروعية المستوطنات، إضافة إلى جملة تدابير متواصلة، الهدف منها إخضاع الشعب الفلسطيني ومحاصرته وتيئيسه على طريق إسقاط حقه في العودة. يتكامل ذلك مع الضغط الأميركي المتواصل لفرض التطبيع مع العدو الصهيوني، كشرط لاستمرار حماية الأنظمة الحليفة لواشنطن، خصوصاً في منطقة الخليج. يقع في نطاق الإعداد لهذا المشروع، إسقاط أو إضعاف كل معارضة له، سواء كانت سياسية، أم اقتصادية، أم خصوصاً عسكرية. المقاومة ضد إسرائيل في لبنان، التي حققت نجاحات تاريخية ورسّخت بنية متينة أمّنت ردعاً وتوازناً إضافة إلى عوامل قوتها بالموقع والتحالفات الداخلية والخارجية، هي هدف طبيعي لمشروع «صفقة القرن» الأميركي. الوسائل المستخدمة متنوعة: من العقوبات والحصار الاقتصاديين إلى الضغوط السياسية المتنوعة، إلى استخدام وتوظيف النقمة الشعبية خصوصاً، في غير الوجهة التي تنسجم فعلاً مع مصالح المتضرّرين من الأكثرية الشعبية. تستخدم واشنطن، أيضاً، أخطاء وثغر عمل خصومها على أوسع نطاق. وهؤلاء الخصوم، للأسف، يواصلون تقديم هدايا مجانية للمخطط المعادي عبر سلسلة من العناوين المتصلة، يختصرها عدم بلورة مشروع تحرّري متكامل يتناول تحرّر الأرض وحرية وحقوق المواطن في الوقت عينه. هذا المشروع، إذن، لا بد له من أن يتضمن ثلاثة جوانب: الأول، موجَّه ضد استهداف أرض ووحدة وسيادة وثروات شعوب المنطقة. والثاني اقتصادي، يتضمّن خطط التحرّر من الهيمنة والتبعية الاستعمارية، ومقاومة تآمرها المستمر للسيطرة الشاملة على مصائر المنطقة وأسواقها وموقعها: بكل الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية... وبأساليب ووسائل التفتيت وإثارة النزاعات وتأجيج العصبيات، وخصوصاً منها الشوفينية والعنصرية والطائفية، والمذهبية. والثالث يركز على نشر الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، بديلاً من الاستبداد والقمع والدكتاتورية والتبعية.
تُطرح، في هذا السياق، جملة مسائل أساسية ومصيرية، لجهة التحول إلى المشروع التحرّري الشامل أولاً، ثم لجهة الأساليب والوسائل التي يتطلّب الكثير منها التغيير والمراجعة لاعتماد مقاربات جديدة تتناول، في الوقت نفسه، حقوق الشعوب ومصالحها، وحقوق الإنسان وكرامته وحريته. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن القوى الاستعمارية والصهيونية قد تمكنت، في بلدان ومناسبات عديدة، من استثمار نقاط ضعف القوى التي تخرج، حتى جزئياً، عن هيمنتها. وهي نجحت في خداع فئات واسعة من الجمهور الساخط، ووظفت نقمته أيضاً في ما لا يخدم مصالحه البعيدة، وحتى القريبة منها.
لبنان في مهب العاصفة، حالياً، شعبه وشبابه ينتفضون ضد النهب والفساد والجرائم المرتكبة والمتواصلة في خدمة هاتين الآفتين. لكن هذه الانتفاضة التاريخية التي تجري وسط ضعف متمادٍ لقوى البديل الوطني التحرّري على مستوى لبنان والمنطقة، تتعرّض للكثير من التدخلات بوسائل متنوعة لكي تخدم مصالح قوى معادية للانتفاضة ولمجمل مصالح الشعب اللبناني والشعوب العربية.
التوقف عند دور القوى الوطنية بات مهمة ملحة. هي مستهدفه، لكنها ضعيفة، مشرذمة، مشتتة أيضاً لجهة التحليل، والبرامج والعلاقات والقدرة على العمل المشترك المنتج والفعَّال. مهمة ارتقائها إلى مستوى البديل الموضوعي، تصطدم بصعوبات ومعوّقات وعجز وفئويات. ذلك يحرم الانتفاضة، رغم جهود ومشاركات من قبل العديد من المناضلين في الساحات المتنوعة، من عنصر مهم للحفاظ على إنجازات الانتفاضة وسلامة مقاصدها وأساليبها...
إن بلورة برنامج تحرّري متماسك، على المستوى اللبناني، هي أكبر مساهمة في الانتفاضة الشعبية، وهي أيضاً هدف وطني كبير من أجل العبور بلبنان نحو نظام ديموقراطي يؤمّن العدالة والحرية والمساواة. سيشكل ذلك، حتماً، مساهمة ثمينة في بلورة المشروع التحرّري العربي الشامل.

* كاتب وسياسي لبناني