في بلد ما، فكل البلدان تتشابه إذا ما افتقد مثقفوها أبسط حقوقهم في التنفس بحرية. وفي زمن ما، فكل الأزمان تتشابه إذا ما انتهكت إنسانية الإنسان بأقبية السجون. بلا تحديد لبلد عربي بعينه، ولا زمن بعينه، جرت وقائع رواية «شرق المتوسط» للأديب الراحل عبد الرحمن منيف، التي صدرت منتصف سبعينيات القرن الماضي. في ذلك العمل الروائي، جسّدت شخصية رجب إسماعيل قدر القسوة الهائلة التي يتعرّض لها المثقف المعارض، ومدى ما يلحق به من انتهاكات تنال من روحه قبل جسده، وقد تدفعه إلى خيانة نفسه قبل قضيته، لكنه يحاول أن يلملم نفسه ومعنى حياته بعدما خرج من السجن محطماً. كانت تلك إشارة منذرة إلى الخلل الفادح في بنية نظم ما بعد التحرر الوطني، وبما قد يلحق بدولها من عواصف وحرائق تنال من سلامتها وتهدّد وجودها نفسه. بعد عقود من نشر تلك الرواية، ظهر في شرق المتوسط رجب آخر، يفتقد نبل المثقف المضطهد. باسم تركيا القوية، يحاول رجب طيب أردوغان أن يؤسّس لدولة الرجل الواحد، وباسم أمنها القومي يكاد يدفع بشرق المتوسط كلّه إلى قلب عواصف النار.
بتوقيت واحد فتح الرئيس التركي جبهتين: أولاهما، في شمال شرق سوريا بالاحتلال العسكري تحت لافتة الحرب على الإرهاب الكردستاني... وثانيتهما، بتوقيع اتفاقيتين مع فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية المؤقتة، ترفع سقف التوتر في شرق المتوسط إلى مستوى الخطر الداهم.
إحدى الاتفاقيتين تضفي على تحالفاته العسكرية مع القوى والميليشيات المتمركزة في طرابلس، صفة العلنية بقوة الأمر الواقع، بغض النظر عن مخاصمتها للقرارات الدولية التي تحظر تصدير السلاح إلى الأطراف المتنازعين في ليبيا. والاتفاقية الأخرى تضفي نوعاً متوهماً من الشرعية القانونية على التنقيب عن النفط والغاز خارج الحدود الدولية التركية، باسم اتفاق مع حكومة لا يخوّلها وضعها السياسي والقانوني عقد مثل هذه الاتفاقيات البالغة الخطورة.
في عواصف النار فوق شرق المتوسط، لا توجد أهمية كبيرة يعتد بها للقرارات والقوانين الدولية مثل الاستناد إلى نصوص «اتفاق الصخيرات» المغربية، التي أُنشئت على أساسها عام 2015 حكومة السراج، وحدّدت صلاحياتها وحدودها وما لا يصح لها تجاوزه.
الحقائق تلخّصها حسابات القوة ومصالحها قبل الاعتبارات القانونية والأخلاقية. التنازع المصري التركي حاضر في الاتفاقيتين، بأثر ما جرى بعد 30 حزيران / يونيو 2013، وإطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة، كنوع من المناكفة الاستراتيجية على الحدود المصرية الطويلة مع ليبيا، وفي قلب استراتيجية شرق المتوسط.
الغاز عنوان، لكنه ليس صلب التنازع. والتنازع التركي ــ اليوناني الموروث بتعقيداته وعقده التاريخية والاستراتيجية، حاضر بما يتجاوز المصالح المتعارضة في مسألة الغاز إلى موازين القوى بين الجارين اللدودين. والتنازع الأميركي ــ الروسي حاضر بدوره بصورة غير خافية. أمن النفط والغاز على رأس أولويات الأمن القومي الروسي. هذه حقيقة يؤكدها تعاظم الدور الروسي في أزمات الإقليم. تمسك موسكو ــ تقريباً ــ بغالبية أوراق الأزمة السورية، وقد أضفى عليها ذلك وزناً إقليمياً ودولياً أعاد إلى الأذهان صورة الاتحاد السوفياتي السابق كقطب دولي لا يمكن تجاهله. وقد ترتبت على ارتفاع منسوب الدور الروسي في الملف الليبي حساسيات استراتيجية مع الولايات المتحدة، تغيّرت على أساسها حسابات وموازين وتحالفات.
هكذا، انتقلت واشنطن من دعم وتأييد الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، في سعيه لحسم الأزمة عسكرياً، إلى مطالبته بوقف العمليات العسكرية على تخوم طرابلس إثر لقاء جرى في واشنطن بين الإدارة الأميركية ووفد من حكومة السراج. لا يوجد تفسير واحد متماسك لذلك التحول، بعيداً عن الدور الروسي المتصاعد في مستوى دعمه التسليحي والتدريبي للجيش الوطني الليبي. تبدو الصورة متناقضة ومربكة.
تدخل تركيا مع روسيا وإيران في ما يمكن أن نسميه «تحالف الضرورة» في الأزمة السورية، حفاظاً على الأدوار التي تتطلع إليها عند التسوية الأخيرة، وفي الوقت نفسه تعمل كـ«شريك مخالف» لصالح الأطراف الغربيين في ملفي إدلب ومستقبلها ومباحثات جنيف لوضع دستور جديد. لم يتجاوز رئيس الوفد السوري في مباحثات جنيف عندما وصف وفد المعارضة بـ«وفد النظام التركي»، هذه هي الحقيقة. ولم يكن يجرؤ أردوغان على فتح جبهة جديدة في ليبيا، تلوح فوقها احتمالات صدام، من دون غطاء سياسي واستراتيجي أميركي، أو ربما تحريض مباشر.
في أيّ حسابات عسكرية يصعب على أيّ دولة أن تفتح جبهتين بتوقيت واحد، في اتجاهين استراتيجيين متباعدين (سوريا / ليبيا)، ما لم يكن هناك غطاء دولي يوفر قوة حماية وإسناد. لا يوجد طرف واحد في أزمات شرق المتوسط يطلب الصدام بالسلاح، فتكاليفه باهظة والحسابات الدولية تحول دون اندلاعه، لكن اللعب بالنار غير مأمون العواقب. ما يحدث أكبر من أزمة وأقل من حرب.
كيف سوف تمضي الأمور في استعراضات القوة والتحالفات والمصالح؟ هذا هو السؤال الرئيسي الآن. خرائط الغاز والنفط عنوان رئيسي في صراعات القرن الحادي والعشرين، حيث تتناحر المصالح وتصطدم الإرادات الإقليمية والدولية. النفط السوري، كما الليبي، عنوان ثانٍ للصراعات المكتومة والمعلنة. مستقبل البلدين العربيين عنوان ثالث، ما الصورة التي سوف يستقر عليها كلاهما في نهاية المطاف؟
بالنسبة إلى مصر، فإن أمنها القومي يبدأ من الشام وسلامة حدودها الليبية مسألة أمن قومي على درجة عالية من الخطورة. لمصر مصلحة مؤكدة في استقرار ليبيا وتعافي دولتها ووحدة ترابها الوطني، أو أن يجد شعبها سبيلاً لحل سياسي ينهي معاناتها الدامية التي ترتبت على تفكيك البلد بعد احتلاله من قوات «الناتو» باسم الثورة على نظام معمر القذافي، وتسليمه لجماعات مسلحة بعضها إرهابيّ بالمعنى الدقيق للكلمة.
غير أن الحل السياسي يبدو بعيداً، في ظل تدفق الأسلحة «من كل جهة على الأطراف المتنازعين» ــ بحسب تعبير المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة ــ والخطوة التي أقدم عليها أردوغان، تؤشر إلى استحالة التوصل إلى مثل هذا الحل بالاجتماعات المقررة في العاصمة الألمانية برلين، مطلع العام المقبل. الاحتمال الأرجح، اتساع نطاق المواجهات العسكرية، فلا مصر ولا دول عربية أخرى، ولا روسيا نفسها، ولا فرنسا التي تناهض سياسات أردوغان في شرق المتوسط لأسباب تتعلق بمصالحها الاستراتيجية والنفطية، سوف تمكنه من إنشاء قواعد عسكرية في ليبيا أو التغول على استراتيجية شرق المتوسط.
هذا القدر من التوتر يؤثر ــ بالضرورة ــ على اجتماعات قمة حلف «الناتو» في العاصمة البريطانية لندن، التي تختتم اليوم. يعاني «الناتو» من حالة «موت دماغي»، بتعبير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، داعياً إلى منظومة أمنية أوروبية جديدة تستبعد بالضرورة الولايات المتحدة وتركيا.
ترامب، من جانبه، يطالب الدول الغربية، أعضاء «الحلف»، بدفع تكاليف أمنهم، من دون اعتماد على خزانة بلاده. وهذا مشروع تحلّل من حسابات ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما أردوغان، فيتكفل بالملاسنات مع ماكرون، التي تؤشر إلى عمق أزمة الناتو، في تعريف دوره ومستقبله. بأيّ قراءة موضوعية لحسابات القوة والمصالح في عواصف شرق المتوسط، لا يمكن لرجب الآخر أن يكسبها بمغامرات القفز على الحبال المختلفة.
*كاتب وصحافي مصري