(1)
إنّ المادة الأوّلية، التي يبني منها المؤرّخ كتابته أو يصوغ منظوره التاريخاني، هي أُولى الإشكاليات التي عليه أن يواجهها برأيي. ثم إنّ عليه أيضاً أن يُبيّنها فوراً للقارئ، لأنها تُبيّن له قيمة المُستندات التي يعتمدها، وسيكون لها أبعد الأثر على البناء الذي سيشيّده منها. كذلك، سيكون عليه أن يأخذ بعين الاعتبار وجاهتَها ورُتبتَها في سلسلة المواد التي بين يديه. بين أولى وثانوية، لكلٍّ منها موقعه ووظيفته بين دليل مستقل وبين مؤيّد له.
فمن المواد الأولية الأُولى من حيث الرتبة، روايات الشهود عن مُعاينة أو سماعٍ مباشر، ووثائق من الدرجة نفسها (مُدونات، سجلّات، نقوش، رقائم، مُذكّرات، سيرة ذاتية... إلخ). ومن الثانويّة الأدنى رتبة، الروايات والمدوّنات المتأخّرة عن زمن الحدَث، شفَهيةً كانت أم كتْبيّة، والمرويات الشفوية غير المنسوبة، وإن تكُن هذه أحياناً ذات قيمة عظيمة، خصوصاً في التأريخات البعيدة.
«بدو من فلسطين» الأخوان زَنغاكي (حوالي 1895)

وعلى كل حال، فإنّ من المعلوم أن قيمة المصادر الأولية تفوق من حيث المبدأ الثانوية منها. لكنّ هذه قد تكون عظيمة النفع أحياناً، بوصفها مؤيّدات أو معارضات لِما أتت به بعض المصادر الأولية، خصوصاً حيث تختلف هذه في معطياتها أو في بعضها. وعلى كل حال، ومهما تكن قيمة المصادر الأولية التي يأخذ المؤرّخ عنها من حيث المبدأ، فإنّ عليه أن يأخذ بعين الاعتبار دائماً موقع الراوي أو الكاتب وموضوعيّته وحياده وكفايته في فهم الأحداث وروايتها. ومن الغنيّ عن البيان، أنّ علينا أن نكون حذرين جدّاً في ما يأتينا به راوٍ أو كاتب، نعرف أنّه يولي التزامه السياسي أو المذهبي أو النسَبي أو الشخصي اعتباراً غالباً على مادة وأُسلوب عمله.
وبفضل التقدّم الكبير وارتفاع درجة الاهتمام، واتّساع العمل على الآثار المادية القديمة، حصل تقدّمٌ مُوازٍ في درجة معرفة الإنسانية بعضَ الحضارات القديمة المُندثرة. آخر إضافةٍ إلى تلك المواد الأولية للكتابة التاريخية، بدأت في العقود الأخيرة باستفادة المؤرّخين من التقدّم الكبير في تقنيات تحليل الحمض النووي للبشر، في معرفة الأُصول البشرية. قدّمت للمؤرّخين معلوماتٍ جمّة وقوية عن وجوه اندماج الجماعات البشرية وتشعّباتها وهجراتها منذ أقدم العصور. فهذه على نحو الإجمال ما عليه العمل بين المؤرّخين في ما سمّيناه المادةَ الأولية التي يُركّب منها المؤرّخ رؤيتَه أو منظورَه التاريخاني. أوردناها على سبيل التمهيد، للتعريف بما نرى فيه مادةً أولية إضافية على كلّ ما ذكرناه، نرى أنّها لم تحظَ بالاهتمام الذي تستحقّه بوصفها مادةً أوليةً موثوقةً أو مقبولة لكتابة التاريخ.
(2)

نعني بهذه المادة الأوّلية المنكورة الأسماء، أسماءَ الأشخاص والجماعات، وأسماء المواقع الجغرافيّة والطوبوغرافيّة، ذلك أنّ هذه الأسماء إنّما توضع مبدئياً ابتغاء تمييز موضوعاتها بعضها عن بعض. لكنّ اختيارها يخضع لاعتباراتٍ كامنةٍ آتيةٍ من الثقافة السائدة أو الحالة التاريخية التي كانت عليه موضوعاتها، آن وضع تلك الأسماء. وبذلك، تتجاوز الغايةَ الأولية منها، لتغدو أوعيةً يودع فيها الناس جانباً أو عنصراً أو أكثر من جوانب أو عناصر هويتهم أو تاريخهم. ستظهر قيمتُها في ما بعد أن تضيعَ هذه أو تُنسى، ولا يبقى منها إلا ما هو مودَعٌ في بعض هاتيك الأسماء.
هو ذا ما قد يمنحها في ما بعد قيمةً خاصةً بالنسبة إلى المؤرّخ الإنساني. والحقيقة أنّ هذا البحث ما هو إلا نتيجةٌ لِما تراكم لدينا من تجارب جمّة في هذا النطاق. ولطالما وصلنا عبرَ أسماء بعض البشر أفراداً وجماعاتٍ، وأسماء المواقع الجغرافية والطوبوغرافية، إلى نتائج تأريخية، ما كان يمكن أن نصل إليها عن أيّ طريقٍ آخر، للافتقار إلى النصوص التي تتّجه مباشرة إلى إشكالية البحث الذي نعالجه، وسنقفُ عليها أدناه، غالباً، لأنها لم تكُن موضع عناية أو ملاحظة من الذين سجّلوا تاريخنا، الذي تغلُبُ عليه الصفة السلطويّة. وبذلك يبتعد مسافة مناسبة عن الصفة الإنسانية، التي منها تلك الأسماء وما قد يكون فيها من دلالات.
الأمر الجامع بين الطريقتَين البلدية الفارسية والمهنية الشامية هو الحاجة إلى التعريف الوافي بالشخص


إن الأسماء، سواء كانت للبشر أفراداً وجماعات، أو للأماكن والمواقع، هي خصوصية بشرية قادمة من خصوصية اللغة بهذا الإنسان، (أولاد آدم) بحسب الأنثروبولوجيا الإيمانية، والـ(homosapiens) بحسب الأنثروبولوجيا العلمية، من دون كلّ ما نعرفه من مخلوقات. وجه أهميّتها المُطلقَة أنّها تستحضر المُسمّيات استحضاراً رمزيّاً، أي دونما حاجة إلى حضورها أو استحضارها موضوعياً. لكنّها، بالإضافة إلى ذلك، أوعية يودع فيها الناس عفواً جانباً من خصوصيّتهم الثقافية، أو ملمحاً من ملامح حالتهم التاريخية. فنحن حين نسمع اسم أيّ إنسان قد نعرف عفواً بعض خصوصيّاته: منبته، مواصفات البيئة الثقافية أو الجغرافية أو الاجتماعية التي ينتمي إليها من حيث المنبت أو النسب أو اللغة أو الدين والمذهب... وكلّما كانت معلوماتنا بأحد هذه الشؤون أغنى، كلّما كانت استفادتنا من الأسماء أوسع وأكثر دقّة. مثلاً، إن نحن عرفنا من شخصٍ أنّ اسمه عبد الحسين، فإنّنا سنعرف عفواً، على نحو الترجيح القوي، أنه مسلم شيعي. وإذا كان اسمه حنّا، فالأرجح أنه مسيحي كاثوليكي، وأنطوان مسيحي أرثوذكسي. والأمثال على ذلك لا تنتهي، سواءٌ في أسماء البشر أو في أسماء المواقع، وما من داعٍ لإيراد المزيد من الأمثال في ما يخصُّ المواقع والأماكن، اعتماداً على ما سنأتي عليه منها في عمود البحث.

(3)

ولعلّ من أطرف الشواهد على العلاقة بين أسماء البشر وبين جانبٍ من مواصفاتهم العملية، ما لاحظناه من النِّسَب المُلحقَة بأسماء الأشخاص في منطقتين ثقافيّتين عريقتين، هما المنطقة الثقافية الفارسية (إيران، بلدان آسية الوسطى، أذربيجان، المناطق الإسلامية من شبه القارة الهندية)، وبين المنطقة الشامية. ذلك أننا لاحظنا أنّ الأُولى منهما تغلب عليها نسبة الأشخاص والأُسرات إلى البلدان التي وُلد المُسمَّون أو نشأوا أو عاشوا فيها: قُمّي، طهراني، قزويني، تبريزي، خويي، لكهنوي... إلخ، بحيث أنّ من النادر أن تجد هناك من يُنسب إلى غيرها. أمّا المنطقة الشامية فالغالب عليها النسبة إلى المِهَن: نجار، حداد، صائغ، فحّام، صابونجي... أمّا النسبة إلى البلدان فقد توجد نادراً فيها. هنا، لاحظنا أنها إنّما تدلُّ على أنّ المنسوب من المُنتقلين إلى البلد الذي يعيش فيه من بلدٍ غيره، فعندما نجِـدُ في دمشق، مثلاً، أُسرةً منسوبةً إلى بعلبك (البعلبكي)، فهذه إمارة قاطعة، أو قوية على الأقل، تدلُّ على أنّها بعلبكية الأصل، كانت قد تحوّلت في الماضي إلى سُكنى موطنها الحالي.
هذه الملاحظة قد تكون أحياناً ذات أهمية كبيرة للمؤرّخ الإنساني، الذي من جملة اهتماماته رصد الحركات السكانية بين البلدان، وتأثيرها على صورة المجتمع، وعلى مادتها التي تشكّلت في الماضي. ومن الواضح أنّ هذا القبيل من النِّسَـب وما شابهها تنطوي على تسجيلات ضمنية لحركة سُكانية، شرط أن تكون من حجم يصلح لأن يُعبّر عن حركة حقيقية، أي ليست حالةً فردية صغيرة قد تكون خاضعة لأسباب شخصية بحتة، إن نفعت فبكتابة سيرة شخصية عند اللزوم وليس أكثر.
مهما يكُن، فإنّ علينا، بما أنّنا نبحث عن الأسرار الخبيئة في الأسماء، أن نتساءل: ما هو السرّ الخفيّ الكامن وراء تلك الظاهرة بوجهيها؟ ما هو السبب الذي جعل أهل المنطقة الثقافية الفارسية يؤثرون الانتساب إلى بلدانهم، في حين آثر الشاميّون الانتساب إلى مهنهم؟
في الجواب نقول:
ما هو بغنى عن البيان، أنّ الأمر الجامع بين الطريقتَين، البلدية الفارسية والمهنية الشامية، والحافز الداعي لتذييل أسماء الناس إجمالاً بصفة عامّة، بعد الأوصاف الشخصية الخاصة (الاسم واسم الأب مثلاً)، هو الحاجة إلى التعريف تعريفاً وافياً بالشخص في كلّ وجوه شبكة علاقاته، الأمر الذي تؤدّيه اليوم بنحوٍ أدقّ بكثير بطاقات الهوية، جوازات السفر، بطاقات المصارف، البطاقات المهنية، التي لا يستغني أحدُنا اليوم عن حملها في حلّه وترحاله. ومن ذلك في تاريخنا، أنّه كان من دأب أسلافنا الأعراب، حين يلتقي أحدهم بآخر لا يعرفه، أن لا يكتفي أو يهتم بمعرفة اسمه الشخصي، بل يطلب منه أوّل، وقبل أي حديث، أن ينتسب له بذكر اسم قبيلته. وعلى ضوء ما قد عرفه كلا الاثنين من نسب صاحبه، تنبني العلاقة بين الاثنين، ودّية أو حيادية أو حذِرَة.
والذي يلوح لنا أنّ الفارق الثقافي، في هذا الشأن، بين الاثنين الفارسي والشامي، يرجع إلى فارقٍ سياسي، ذلك أن الشامية منهما كانت، بعد انهيار الدولة الإسلامية الجامعة، ذات صفة مركزية حاضرتها دمشق. فلم يكُن ثمّة من فائدة أو فارق بتعريف الشخص ببلده، لأن كلّ أهلها سواءٌ بالاعتبار السياسي ــ الاجتماعي. وفي حين كانت تنظيمات السوق قويةً فيها، فهي مصنّفة مهنياً: سوق الصاغة، سوق الحدّادين، سوق المناخلية، سوق السروجية (صانعو السروج)... كما لا تزال بعض أسمائها في دمشق اليوم، حتى بعدما زالت مقتضياتها، بل كان لكل سوق منها مرجعٌ مهني يحمل لقب (شيخ السوق)، له سلطة مرجعية احترافية مطلقة على أقرانه المهنيين. فمن هنا كان تذييل اسم الشخص بذكر مهنته، ينطوي على تعريف كافٍ بالمُسمّى وبمرجعيّته، بل وقد يساعد على معرفة محل عمله.
أمّا في إيران، قلب الثقافة الفارسية، فكانت في الفترة نفسها تفتقر إلى الصفة المركزية الجامعة سياسياً، بل مضت عليها فترة طويلة من الزمان انحدرت فيها الهوية الجامعة، لتمنح محلّها الدول ــ المدن، حيث كلُّ مدينة كبيرة كانت دولةً قائمة بنفسها من حيث نظام الحكم السائد فيها المُتغلّب عليها وفي نطاقها. فكان الانتساب إلى المدينة كافياً في التعريف بالمُسمّى، بل سرى هذا التقليد حيثما وصلت الثقافة الفارسية من ثلاث جهاتها، ربما على سبيل تقليد الغالب. واستمر ذلك حتى بعدما زالت مقتضياته، منذ قيام النهضة الصفوية وحتى اليوم، لأن الاستمرار هو سيّد التاريخ. وكم لذلك من أمثال، من ذلك كلمة «أبي» في أسماء الأُسرات في جبل لبنان الشمالي.
(4)

الكُنية (أبو...) ممّا يتبادله الناس في مخاطباتهم على سبيل التحبُّب والتودّد. وهي تتركّب عادةً اليوم من «أبو» مُضافةً إلى اسم ابن المخاطَب البكر. هكذا، عندما نُخاطب شخصاً بكنيته فهذا يُلمحُ إلى أننا نعرفه بما يكفي، ونعرف من خصوصياته الأُسرية التي لا تُحتشَم اسم أكبر أبنائه، بخلاف اللقب الذي يأتي للتعظيم أو عكسه، واستعماله في المخاطبات ينطوي على موقفٍ مناسبٍ من المخاطَب. والكُنى في أسماء الأُسرات من خصوصيّات المنطقة الشامية، شائعةٌ جداً فيها، يبدو أنّ أصلها كنية لشخصٍ ثم قد تسري وتبقى من بعده في نسله، وهي تُعامَل عندهم مُعاملة المبني على الضمّ دائماً (أبو). موضع الملاحظة هنا، أن منطقة جبل لبنان الشمالي حصْراً تختصُّ، من بين كلّ أنحاء المنطقة إجمالاً، بأنّ الجزء الأول من الكنية (أبـ...) تُعامَل أيضاً فيها معاملة المبني، ولكن غالباً جداً على الكسْـر (أبي)، بحيث نجدُ فيها مئات الأُسرات التي تحمل اسم (أبي) مُضافةً إلى اسم شخص. لكننا ما إن نعبر الطريق القديم، الفاصل بينه وبين جبل لبنان الجنوبي، المعروف قديماً وحديثاً باسم طريق الشام، فإننا لن نجد هذه الـ(أبي) إلا نادراً جداً.
إذن، المُلاحظة هنا من شقّيَن:
ــ كثرة الكنى كثرة فاحشة في أسماء الأُسرات في جبل لبنان الشمالي، خلافاً لكلّ ما نعرفه من المنطقة الشامية إجمالاً.
ــ إن هذه الكُنى في أسماء الأُسرات فيها تأتي غالباً جداً بصيغة (أبي...).
لكنّنا قد نجد (أبي) نادراً جداً أيضاً في غير جبل لبنان الشمالي، ومثال ذلك أُسرة (أبي رعد)، التي نجدها في بزيزا قضاء الكورة في الشمال وفي الدامور الساحلية الجنوبية ــ مسيحيّتين ــ وفي شمسطار بسهل البقاع ــ شيعية. وأُسرة (أبي راشد) التي نجدها في بجدرفِل في قضاء البترون الشمالي، وفي بِسْري في قضاء جزّين في الجنوب. وبمزيدٍ من البحث، قد نجد حالات مُشابهة. ومع ذلك، فإن هذه الحالة تبقى نادرة بالقياس إلى المئات المنسوبة إلى (أبي..) في جبل لبنان الشمالي. لذلك، فإنّه ما من فائدة من البحث عن أمثلةٍ إضافية. وتفسير هاتين الحالتين الشاذتين سهلٌ جداً، وذلك بافتراض أنّهما من الكورة والبترون، نزحتا إلى منطقتَي جزّين والبقاع. والحركة السكانية بين أنحاء ما هو اليوم لبنان السياسي أمرٌ معروف، حيث سرعان ما قد يتحوّل النازحون إلى ما يتناسب مع الوعاء الديني لوطنهم الجديد. ولعلّ أنموذج أُسرة أبي رعد مثالٌ على ذلك.
لم يلبث الهمدانيون الحضارمة أن هبطوا من الأعالي إلى طرابلس الخالية بعدما ارتفع عنها التهديد الرومي البحري


بهذا البيان نصِلُ إلى تحديد إشكالية البحث بالسؤال التالي: ما هو السرّ الكامن في هذه الخصوصية؟ لماذا لا نجدُ (أبي) غالبةً في أسماء الأُسرات إلا في جبل لبنان الشمالي؟ الجواب خبيءٌ، ولا ريب عندنا، في التاريخ الخاص للمنطقة، وبالتحديد في التبدّلات السكانية الجذرية، التي خضعت لها غير مرّة في ماضيها، فنقلتها مرّةً بعد مرّة من حالٍ إلى حالٍ غيره.
فمن المعلوم، أولاً، وكما في كلّ حالةٍ من تبدّل سكاني مُماثلة، أنّ بصماته لا تضيع نهائياً من صفحة الجماعة، بل تبقى وإن مُتنكّرة بهيئةٍ أو بغيرها، حيث سيكون على المؤرخ الإنساني الحاذق أن يقرأها وأن يضعها في موضعها الدّلالي المناسب. من هنا، فإنّ علينا أن نُلمّ بتلك التبدّلات السكانية، عسى أن نجد بينها ما يهدينا إلى حلّ إشكالية البحث.
وعليه نقول:
1 ــ إنّ هذه المنطقة (جبل لبنان الشمالي)، كانت قبل دخولها في دار الإسلام على حالة ممتازة من الازدهار، خصوصاً المنطقة الساحلية منها، حيث ظهرت المدينة المُثلّثة Tripolis التي تُعرف اليوم باسمٍ مُحرّف (طرابلس)، ومدينة Biblos (جُبيل) اليوم، التي تُعَدّ من أقدم المدن المسكونة في العالم، وتنسب إليها إنجازات حضارية، بات بعضُها ذا صفةٍ عالمية، إلى جانب قُرىً وبلدان منتشرة على الساحل والهضاب المواجهة.
2 ــ ثم إنّ الفتح الإسلامي أدّى، تدريجاً أحياناً، إلى حالة هروب جماعي لسكانها باتجاه المنطقة الروميّة، شهدنا مثلها في عامّة أنحاء البرّ الشامي إجمالاً. لكن يبدو أنّ سكان منطقة لبنان الجبل وساحله لجأوا إلى السفن، قاصدين السواحل الروميّة القريبة، مستفيدين من خبرتهم في الإبحار، التي يفتقر إليها الفاتحون. هكذا، خلت المنطقة من السكان أو كادت، الأمر الذي انتهى إلى حالة قطْعٍ تاريخي أُنموذجي شاملة، بحيث انغلق بابٌ على مسارٍ تاريخي، لينفتح بابٌ آخر على مسارٍ مختلفٍ غيره. وذلك أمرٌ لم يدركه اللبنانيون، الذين لم ينفكّوا عن العمل على الارتفاع بتاريخ مشروعهم السياسي حضارياً، إلى الشعوب والحضارات التي سبقت الفتح الإسلامي.
في هذا السياق، خلا قلبُ جبل لبنان الشمالي، أي ما هو اليوم قضائي كسروان وجبيل، من السكان تماماً. لا يعمره إلّا النُسّاك وأهل العرفان، بحيث اتّخذ منه شعراء التصوّف رمزاً للتنسُّك والبُعد عن الخلق، وطلباً لحياة خالصة للعبادة، مقطوعة العلائق بالخلائق.
3 ــ لكنّ هجرةً سكانية خرجت من الكوفة حوالى سنة 50 هـ/670 م، لتنزل في ما نزلته جبل الظنيين في أقصى شمال الجبل، المعروف اليوم باسم الضَنّية، على الهضاب المواجهة لمدينة طرابلس من شرقيّها ــ بدأت حركةً معاكسةً باتجاه الامتلاء. تلك هي الهجرة الهمدانية الكبرى (نسبةً إلى شعب همْدان اليماني الحضرمي)، التي نزلت نواحي عدّة من الشام، وكان منها مَن نزل منطقة البحث، لتبدأ منها حالة سكانية متدحرجة، استولدت تاريخاً لا يزال يتفاعل ويُنتج حتى اليوم.
4 ــ أُولئك الهمدانيون الحضارمة ما لبثوا أن هبطوا من الأعالي إلى مدينة طرابلس الخالية، بعدما ارتفع عنها التهديد الرومي البحري. ومع الوقت، نهضت المدينة بإمارة أُسرةٍ من الأُمراء العلماء بني عمّار الطائيّين، حيث باتت موطناً لجملة إنجازاتٍ حضارية ــ ثقافية متكاملة (سياسية وتنموية وثقافية)، بحيث يمكن حُسبانها درّة الزمان في ذلك الأوان.
5 ــ في آخر القرن السادس هـ/أوائل القرن الثاني عشر م، هجّـر الغُزاة الصليبيون أهل طرابلس جماعياً، فلجأوا بجموعهم إلى أقرب الجبال إليهم. وهكذا، امتلأ جبل لبنان الشمالي بالسكان، كما لم يمتلئ من قبل، حيث حاولوا إحياء ما قصمته صروف الزمان. وهكذا، برز في نواحي كسروان وجبيل، عددٌ من العلماء وأهل القلم.
6 ــ في أوائل القرن الثامن هـ/الرابع عشر م، شنّ العسكر المملوكي حملةً عسكرية على أهل كسروان ونطاقها، انتهت بتهجير أكثر الناجين من أهله إلى المناطق المجاورة شرقاً وجنوباً، ولم يبقَ منهم إلا باقية قليلة، من بعد تقلّب الأحوال في جبل لبنان الشمالي. فسيطر عليه التركمان فترةً قصيرة، ليُغادروه سريعاً باتجاه المناطق الساحلية الدافئة. وعلى الأثر، بدأت هجرة واسعة إليه من أعاليه الشمالية حاملةً جماعاتٍ مسيحية، كانت قد لجأت في الماضي إلى ما هو اليوم قضاءي زغرتا وإهدن، مُستفيدةً من حالة الفراغ السكاني.
في هذا السياق، بدأت حالة سكانية جديدة: الجماعات المسيحية تتكاثر بمزيدٍ من الهجرة إلى منطقتي كسروان وجبيل، وطبعاً بالتكاثر الطبيعي أيضاً، في حين أن البقية الباقية من السكان الأصليين تتناقص، بالتأثير المعنوي والعملي المتمادي لنكبة كسروان، حيث سقطت فيها أعدادٌ كبيرة من الرجال، بالإضافة إلى الذين هُجّروا إثر المعركة، أو اضطروا إلى الهجرة منهم بعدُ، بتأثير انهيار وضعهم السياسي ــ الاجتماعي.
بعد هذا البيان الإضافي، الذي خضنا فيه تحوّلاتٍ علقت أثناء ثمانية قرون من الزمان، أظن أن القارئ اللبيب قد بات آهلاً لأن يلمس ملامحَ حلّ إشكالية البحث، ذلك أنّه قد بات في وسعه أن يرى أن في قلب تلك التحولات، سواءٌ كان مُحرّكاً أساسياً لها أو موضوعاً لأعمال ومساعي غيره، تلك الجماعة الحضرمية التي نزلت مُبكّراً الأعالي الشمالية لجبل لبنان الشمالي، ثمّ عمرت ساحلَه المُقابل قروناً، ثم لجأت إلى قلبه، لتنتهي مِزَقاً في أنحاء ما هو اليوم لبنان السياسي. وما (أبي) الشائعة في أسماء أُسرات الجبل نفسه، إلا (أبا) الحضرمية، بعـدما تكيّفت مع اللهجة المحلية، التي تنحو إلى إمالة حرف الألف في النطق. وهي حركةٌ لا وجود لها في الفصيح، فحُلَّ الإشكال بكتبها في اللغة المُتفاصحة على ما هي عليه اليوم.
هكذا نصِل إلى نتيجةٍ واضحةٍ قويةٍ من شقّين:
ــ الأول: إن الاتساق التام بين جغرافيا انتشار الحضرميين في جبل لبنان الشمالي، قبل أن يتمزّق نسيجُهم السكاني، وبين الانتشار الحصري لـ(أبي) في أسماء الأُسرات في الجبل نفسه، دليلٌ قوي جداً على ما انتهى إليه بحثنا.
ــ الثاني: إن الكلمة في اسم الأُسرة دليلٌ لا يقلُّ قوّةً على أصلها الحضرمي.
ولا يستبعدنّ القارئ ثباتَ الكلمة على مرّ الزمان. فكم في اللغات الدارجة في مختلف الأقطار العربية من كلمات آتيةٍ من تاريخها البائد البعيد. كلماتٌ قبطية في مصر، وأُخرى من السريانية الشرقية أو الغربية في الشام والعراق. والأمثلة على ذلك كثيرة، يعرفها جيداً أهلُ الاختصاص.

* مؤرخ لبناني