لا يتوفّر سوى القليل من المصادر المُقنِعة التي تلقي الضوء على «حلف شمال الأطلسي» كمنظّمة. فمعظم المنشورات التي رأت النور، حتى الآن، هي عبارة عن ترديد لمعلومات مقرّرة سلفاً ولا فائدة منها. لهذا، كان من حسن حظّنا أن يصدر الكاتب المخضرم تيد غالن كاربنتر Ted Galen Carpenter الباحث في معهد «كاتو» في واشنطن، هذا العام، كتابه المعنون «الناتو: الديناصور الخطير» (منشورات معهد كاتو، 2019). تداولت وسائل الإعلام بكثرة موضوع غضب دونالد ترامب من كون العديد من الدول الأعضاء في حلف «الناتو» لا يساهمون فيه بما يكفي من خلال ميزانياتهم الدفاعية، لكن كاربنتر يلفت الانتباه إلى أن هذا ليس بالأمر الجديد. فمنذ عام 1953، كان وزير الدفاع جون فوستر دلاس قد عبّر عن تأسّفه لهذه الحال، مثلما فعل جيمي كارتر بعد ذلك بزمن. لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو استنتاج كاربنتر بأن الولايات المتّحدة قد صيّرت «الناتو» ديناصوراً هجومياً بدلاً من أن يكون، كما أُريد له في البداية، منظمة دفاعية أوروبية.
يبيّن كاربنتر أن الولايات المتحدة حوّلت هذه المنظمة من غرض الدفاع عن أوروبا ضد هجوم خارجي محتمل إلى كونها أداة لتحقيق أحلام أميركا خارج أوروبا، تلك الأحلام الليبرالية المرتبطة بتغيير الأنظمة، مع كلّ التبعات التراجيدية لذلك، مثلما حصل في أفغانستان وليبيا وسوريا على سبيل المثال. ثم ما لبث هذا الأمر أن حصل حتى في أوروبا نفسها، في العقد الأخير من القرن الماضي، في إقليم البلقان. يطرح كاربنتر في هذا السياق، نقداً للرئيس كلينتون معزّزاً بالوقائع، ففي واقع الأمر أن الحرب الأهلية في البلقان لم تشكّل أي تهديد لبلدان أعضاء في «الناتو». عندما قصف الحلف أهدافاً صربية، في خرق للقانون الدولي، تعدّى بذلك حدود الدفاع ليصير «الحلف» طرفاً معتدياً، ولم يعُد عندئذ مشروع تعاون دفاعي، بل إنه خرق بهذا الفعل المادة الخامسة من ميثاق «الحلف» نفسه! ورغم ذلك، لم يحقّق «الحلف» أهدافه من تدخّله في البلقان، فما تزال عملية التأسيس الدولتي في البوسنة وكوسوفو، بعد عشرين عاماً، مختلّة. وإذ نتذكّر تساؤل كيسينجر: «ما علاقة الولايات المتّحدة بكوسوفو (لكي تتدخّل فيها)؟»، سنعرف الجواب: إنها تقريباً العلاقة نفسها التي جعلت «الناتو» يتدخّل في هايتي، وفي سوريا!
لقد أصبح العديد من الزعماء الأوروبيين متردّدين في ما يتعلق بمستقبل «الناتو»، خصوصاً بعد المغامرات العسكرية المخالِفة للقانون الدولي التي أُجبر «الحلف» على الدخول فيها بعيداً جداً عن حدود أوروبا. لا ننسى هتاف الإرهابيين الذين ارتكبوا عمليتهم في مسرح باتاكلان في باريس في كانون الأول/ ديسمبر 2015: «هذا من أجل سوريا!».
أصبح العديد من الزعماء الأوروبيين متردّدين في ما يتعلق بمستقبل «الناتو» خصوصاً بعد المغامرات العسكرية


يُجري الكتاب مراجعة تفصيلية لفشل «الناتو» في ليبيا وسوريا وأفغانستان والحرب السابقة في العراق، ليخلُص إلى أن الدول الأعضاء في «الحلف» قد أُجبرت من قِبل الولايات المتحدة على الدخول في «صراعات ربما كانت ترغب في تجنّبها».
الأمر الواضح هو أن الخلافات بين الدول الأعضاء في «الحلف» تتصاعد، ليس فقط في ما يخصّ مبادرة تركيا لشراء أنظمة السلاح من روسيا، وإنما هناك اتّجاهات سياسية في هنغاريا وإيطاليا حتى، يجري طرحها في «الحلف» بوصفها عقبات أمام استمرار تعاونه مع هذه الحكومات.
جزء كبير من الكتاب يتناول سياسة الولايات المتحدة، في خضم صراعها مع مصالح روسيا وفي نقض صريح للوعود السابقة التي أُعطيت لروسيا، بالتوسّع شرق ألمانيا واتّخاذها موطئ قدم لها في دول هناك أعضاء في حلف «الناتو». ويقتبس الكتاب تعليقاً للدبلوماسي المخضرم جورج كينان، على هذه السياسة، عندما حذّر عام 1998 قائلاً: «أعتقد أن هذا بداية لحرب باردة جديدة. وأعتقد بأن الروس وبالتدريج سيبدون ردّ فعل سلبياً جداً وسيكون لهذا أثره في سياساتهم. أعتقد أن هذا خطأ تراجيدي. ليس ثمة أي سبب لهذه السياسة على الإطلاق، فلا أحد هدّد أحداً بالمرة. ليجعل هذا التوسع الآباء المؤسّسين (للولايات المتحدة) يتقلّبون في قبورهم».
الرسالة التي يريد كاربنتر توصيلها، هي أن السياسة الأميركية الفاشلة هي التي أدت إلى النزاعات الراهنة مع روسيا. ورغم ذلك، لا يزال يوجد اليوم في الولايات المتحدة متحدثون رسميون، سواء محافظون وليبراليون، يتمنّون انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى «الناتو»، حيث ينظر ديمون ويلسون وديفيد كرامر، من مركز Atlantic Council الفكري الليبرالي، إلى هذا الانضمام بوصفه ضماناً للسلام: «توسيع الناتو لتأمين السلام في أوروبا» (تصريحهما في آب/ أغسطس 2018). لكن الكاتب ــ من جانب آخر ــ يُبرز معارضة فرنسا وألمانيا لمزيد من التوسع في «الحلف»، واعتبارهما أن التوسع «سيكون استفزازاً مطلقاً» للقوى الدولية الأخرى.
يخصّص المؤلف فصلاً يتناول فيه مسألة ما إذا كانت روسيا تشكل تهديداً بالفعل. وهنا يؤكد أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي، وسياستها اليوم دفاعية أكثر منها هجومية. وبالنسبة إلى جورجيا، فالوقائع تقول إن روسيا لم تكن البادئة بالأعمال الحربية. وببساطة، لو كانت لروسيا أهداف توسعية لكانت جورجيا الآن محتلّة، بينما الحال اليوم هو أن روسيا قد سلّمت المناطق التي كانت احتلتها أثناء الحرب. كذلك، لا تشير الأعمال الحربية لروسيا في أوكرانيا إلى أن الاحتلال هو هدف روسيا. وفي الحقيقة، إن هذه الأعمال جاءت رداً على توسع حلف «الناتو» واقترابه الاستفزازي من حدود روسيا. وبذلك، يمكن عدّها ردود فعل دفاعية ضد أفعال عدوانية من طرف «الناتو»، وذلك على الرغم من أن الشكل الخارجي للأحداث، والبروباغاندا الأميركية، يوحيان بالعكس. إنه ردّ الفعل الروسي الذي كان قد تكهّن به جورج كينان قبل عشرين عاماً.

عن الموقع السويدي «أليانس فريهيتين» alliansfriheten.se
ترجمة: سمير طاهر