بوقع عدد السنين، فإن هناك ما يستدعي المراجعة بعد مرور قرن ونصف القرن على افتتاح قناة السويس عام 1869، فالحروب التي خاضتها مصر والأحلام التي خامرتها والثورات والانتفاضات التي قامت بها، ارتبطت بصورة أو بأخرى بمحاولات الخروج من القيود الصارمة التي كبّلت إرادتها ووجودها نفسه عند شقّ القناة.كانت قناة السويس أهمّ مشروع هندسي في القرن التاسع عشر، لكنّها لم تكن محض عملٍ هندسيّ يربط البحرين الأبيض والأحمر، ولا كانت أهدافها تخصّ التجارة الدوليّة وحدها. الرؤى الاستراتيجية حكمت القصة، منذ بدايتها، أكثر من أيّ اعتبارات تجاريّة أو ماليّة.
إذا لم ندرك الحقائق الأساسيّة للصراع حول مصر وأدوارها، فإنّنا نكاد لا نعرف شيئاً عن تاريخنا الحديث ولا كيف يمكن لأقدامنا أن تقف على أرض صلبة، فلا مستقبل يتأسّس على تجهيل وفراغ. أوّل ما يتوجّب العودة إليه، هو تذكّر موقف محمد علي مؤسس الدولة الحديثة في مصر من مشروع إنشاء القناة، عندما طرحه عليه عام 1838 وفد من الحركة «السان سيمونية» البازغة في فرنسا. في ذلك اللقاء، أخذ رئيس الوفد بروسبير انستنان يعدّد الفوائد التي سوف تعود على مصر، من دون أن يجد تجاوباً من والي مصر. بغريزته السياسيّة، استنتج ــ بحسب ما قال لرجاله بعد انتهاء اللقاء ــ أنّه إذا ما وافق على هذا المشروع، فكأنّه يعطي تفويضاً لبريطانيا أن تأتي لتحتلّ مصر. كان الاستنتاج في محلّه بالنظر إلى الصراع الضاري وقتها، بين الإمبراطوريتَين الفرنسية والبريطانية، على الطرق المؤدّية إلى الهند، لكنّه لم يكن بوسعه أن يُلمّ بكامل التصوّر الاستراتيجي لمشروع إنشاء قناة السويس، أو أن يعرف ما قاله الزائر الفرنسي لأنصاره قبل أن يغادر باريس. بالنص قال: «إنّ علينا أن نقيم بين مصر الموغلة في القدم وأرض الميعاد واحداً من الطريقين الجديدين من أوروبا إلى الهند والصين، سوف نضع قدماً على النيل وقدماً أخرى في أورشليم».
استوقفت تلك القصة الفقيه القانوني حسام عيسى، أثناء إعداده أطروحة الدكتوراه من جامعة السربون الفرنسية، معتبراً أنّها تؤسس بدلالاتها لحرب امتدّت لمئتي عام أنهكت مصر وتغوّلت على فلسطين. لم تكن تلك النظرة بعيدة عمّا كشفه موثّقاً الأستاذ محمد حسنين هيكل، في كتابه «القنوات السرية»، من أن نابليون بونابرت أوّل من فكّر في إنشاء دولة يهوديّة تحجز مصر عن الشام، وتمنع أيّ اتّصال بين قلب العالم العربي وشرقه. كانت دعوة بونابرت ناتجة من آثار تجربة حملته على مصر (1798 ــ 1801)، إذ استقرّ في يقينه أنّه إذا ما اّتحدت مصر مع محيطها العربي، فإنّ قوة هائلة ستولد في هذه المنطقة من العالم. وما ردّده الزائر الفرنسي على مسامع محمد علي من أفكار ومشروعات، يتّصل استراتيجياً بالعمق برؤية بونابرت.
بعد سنوات، نجح رجل آخر ينتسب إلى الحركة الفرنسية نفسها، في إقناع الخديوي سعيد بمشروع قناة السويس. هكذا ظهر فرديناند ديليسبس على مسرح التاريخ. بالوثائق المصريّة والفرنسيّة، قاد ديليسبس أخطر عملية نصب في التاريخ الحديث، حيث امتلكت مصر ٤٤٪ من رأسمال الشركة، من دون أن يكون لها أيّ سيطرة على أمورها، فضلاً عن التضحيات الهائلة التي دفعها فلاحوها أثناء حفر القناة تحت السخرة، حيث مات نحو مئة ألف مصري في عمليات الحفر، وهو رقم مهول بالنظر إلى عدد السكان في ذلك الوقت ــ نحو أربعة ملايين نسمة. كان ذلك استنزافاً لموارد مصر وقدراتها الماليّة، الأمر الذي أسقطها في شرك الديون الخارجيّة، وأفضى إلى احتلالها عام ١٨٨٢ بالسلاح البريطاني. هكذا تحقّقت مخاوف محمد علي بحذافيرها.
كان تأميم قناة السويس، عام 1956، عملاً ثورياً أكسب مصر استقلالاً وطنيّاً حقيقيّاً، تمثّل في امتلاكها مقاديرها وقرارها. تبلورت «ثورة يوليو»، وتأكّدت شرعيتها الثورية في حرب السويس، كما ولدت زعامة جمال عبد الناصر. بعد تحدّي السويس، خرجت مصر قوّة إقليميّة عظمى، وتحوّلت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التي لا يمكن تجاهلها. اكتسبت مصر أدوارها القيادية في عالمها العربي وقارّتها الإفريقية، بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزاناً استثنائية في عالمها الثالث، بإلهام أنّ دولة نامية واجهت تحدّياً شبه مستحيل وكسبته.
قبل التأميم وبعده، لم يكفّ رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن، بما يشبه الهستيريا، عن طلب رأس عبد الناصر: «أريد أن أدمّره تماماً»... «أريده جثة أمامي»، لكنّه اضطُر في النهاية لأن يستقيل من منصبه بعد فشله الذريع في أزمة السويس. لم يكن أنتوني إيدن وحده من يطلب رأس عبد الناصر وتدميره كليّاً. التقت مصالح واستراتيجيات على الهدف نفسه. على الجانب الآخر، نهضت دول العالم الثالث والقوى الحرّة في الغرب لرفض العدوان وإدانته. تحفّظت الولايات المتّحدة على العمل العسكري تخطيطاً وتنفيذاً من خلفها، من دون اعتبار أنها قد آلت إليها قيادة العالم الغربي، بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الموقف السوفيتي حاسماً، إلى درجة التلويح بردّ قد لا تحتمله فرنسا وبريطانيا. بدا العالم كلّه، لأسباب متناقضة، إلى جانب مصر. تجلّت في حرب السويس حسابات عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وحقائق القوة فيه ومدى تأثير الحركات الاستقلالية. لا توجد أدوار بلا أثمان وتكاليف ومتطلّبات، وأيّ زعم آخر تجديف في الوهم.
جرى بناء السدّ العالي، أكبر مشروع هندسيّ في العالم في القرن العشرين، وبنت «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات، وعمّرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرماناً. المشروعات الكبرى تُقاس بنتائجها السياسيّة والاجتماعيّة، كما أرقام عوائدها الاقتصادية. هناك ما ينتقد في التجربة الاجتماعية والاقتصادية لثورة «يوليو»، فلا تجارب إنسانية تستعصي على الأخطاء. كلّ نقدٍ مشروع وطبيعيّ، طالما استند إلى معلومات مدقّقة وقراءة في الأرقام، قبل إصدار الأحكام باجتهاد، غير أنّ تجربتها لا تضارعها أية تجربة مصرية أخرى، من حيث التزامها قضية العدالة الاجتماعية، وحجم الحراك الاجتماعي الذي أحدثته.
لم يكن تأميم القناة سوى خطوة في مشروع امتدّ إلى كلّ مناحي تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعي. لخّص السيناريست محفوظ عبد الرحمن، على لسان زعيم يوليو في الشريط السينمائي «ناصر ٥٦»، معركة التأميم، على أنّها مسألة كرامة للمصريين العاديين، الذين كُتب عليهم أن يخسروا إذا لعبوا مع ابن العمدة... وأن يضربوا إذا دخلوا في مشادّات... حتى إذا فكروا أن يمشوا بجوار الحائط لتجنّب المشاكل لن يُتركوا في حالهم.
في لحظة مواجهة، قرّر واحد ممن أطلق عليهم كاتب السيناريو «أولاد عويس» أن يأخذ بثأر من ماتوا أثناء حفر القناة، وأن يرفع رأسه من دون أن يكون مضطراً لأن يمشي بجوار الحائط. جرى الانقضاض عام 1967، وكانت الهزيمة فادحة بسبب ثغرات النظام، كما التآمر عليه.
نهضت مصر وحاربت ودفعت أثماناً باهظة لاسترداد أراضيها المحتلّة بقوّة السلاح، قبل أن تسلّم بالسياسة ما عجزت عنه إسرائيل بالحرب باتفاقيتَي «كامب ديفيد». أهم ما نحتاج إليه، الآن، تأكيد ثقتنا في أنفسنا واحترامنا لتاريخنا الوطني، وأن ندرك قيمة التضحيات التي بُذلت لا أن ندعو «جمعية أصدقاء فرديناند ديليسبس» للاحتفال على شاطئ القناة بمرور مئة وخمسين عاماً على افتتاحها.

* كاتب وصحافي مصري